الرئيس الروسي فلاديمير بوتن  (Alexei Nikolsky/AP)
تابعنا

بعد مرور ثلاثين سنة من سقوط الاتحاد السوفييتي ظلت عيون الروس متجهة صوب أوكرانيا لما تحملهُ من رمزية تاريخية للوحدة السوفييتية، وعودة روسيا لأوكرانيا كانت دائماً تجسيداً لقوة الجانب الروسي ليس فقط في المشهد الإقليمي بل الدولي بسبب الدلالات المتمثلة لتلك المنطقة الحدودية.

تمر علينا الذكرى الثلاثون على سقوط أحد أقوى الدول المشكِّلة لنظام الثنائية القطبية وهو الاتحاد السوفييتي، هذا الاتحاد الذي كان يضم العديد من الدول حولَ روسيا جاعلاً من موسكو أهم عاصمة فيما كان يعرفُ بـ"معسكر الشرق". هذا المعسكر بل هذا الاتحاد نفسه كان يضم بين طياتهِ دولاً مثل روسيا البيضاء وكذا أوكرانيا التي كان برلمانها صوت بأغلبية ساحقة للتصديق على إعلان الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، وذلك رداً على انقلاب أغسطس/آب، لم يكن الرئيس الروسي الأول يلتسين موافقاً على ما حققه كرافتشوك من استقلال لأوكرانيا مما بوأه منصب الرئيس الأول له.

عدم موافقة يلتسين لم تُبنى على الجانب الاقتصادي فقط، بل كان استقلال أوكرانيا حينها هزيمة حقيقية لروسيا، جعلت من المجتمع الدولي يدركُ أن الشيوعية انحسرت لحساب النظام الليبيرالي، وكيف لا ودولة مثل أوكرانيا تترك المعسكر الشيوعي وتلتحقُ بالركب الليبيرالي؟ أوكرانيا التي لطالما ارتبطت تاريخياً منذ القرن التاسع عشر بروسيا، جسد استقلالها ضعفاً لروسيا، حينها جعل من أقاليم متوسطة الحجم تطالب بدورها بالاستقلال على غرار أوكرانيا مثل الشيشان، وتكرار هذا المشهد جعل المجتمع الدولي يقِّرُ بضعف روسيا حينها.

وفي الحقيقة قيمة أوكرانيا بالنسبة لروسيا في حقبة الاتحاد السوفييتي كبيرة وأبعادها متنوعة، فالأمر لم يكن يتعلق فقط بكونها كانت ثاني أكثر الأقاليم سكاناً وقوة اقتصادياً من بين أقاليم الاتحاد السوفييتي سابقاً، بسبب اندماجِ صناعاتها بإحكام مع الصناعات الروسية. كما أن الأمر لم يكن مرتبطاً فقط بانشطار البرامج النووية بين البلدين بسبب الفصل، بل الأمر يذهب إلى ما هو أعمق، كانت بيلاروسيا وأوكرانيا جزءاً من قلب روسيا وذلك حسب نظر العديدين.

تمثلت وجهة نظر الروس منذ لحظة الانفصال سنة 1990،أي قبل عام من سقوط الاتحاد السوفييتي، أن خروج أوكرانيا من الاتحاد هو الإعلان الحقيقي لحل الاتحاد، وكيف لا ورؤية الروس كانت تصبُ دائماً في مصبِ ضرورة الدفاع عن الروابط التي تربط "الروس الصغار" (الأوكرانيين و البيلاروسيين) بـ"الروس الكبار". فلقرون عديدة رسخت أوكرانيا هوية روسيا باعتبارها مركزاً لاتحاد القرون الوسطى المعروف باسم "روس الكييفية"، والذي امتد من البحر الأبيض في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب.

كان يُنظر إلى كييف على أنها مهد الثقافة الروسية والبيلاروسية وخط إيمانهم الأرثوذكسي. كان الاتحاد مع أوكرانيا هو الذي يبعثُ لروسيا بشعورها بأوروبيتها، وفي هذا الصدد يرى المؤرخ الأوكراني سيرجي بلوخي في كتابه "المملكة المفقودة"، أن أسطورة الأصول الكييفية أصبحت حجر الزاوية في أيديولوجية موسكوفية، إذ تطور النظام السياسي من تبعية المغول إلى دولة ذات سيادة ثم إلى إمبراطورية روسية التي لطالما تطلبت وجود أوكرانيا داخلها لإتمام ابعاد سيادتها، لذلك نظر باستغراب بأن تكون كييف مجرد عاصمة لدولة مجاورة، هذا الأمر كان فكرة لا يتخيلها الروس.

ولكنها تحققت لتعرب عن كابوسٍ يؤرق مضجع الروس طوال ثلاثين سنة، وذلك رغم كل التقدمات التي حققتها روسيا في هذه المدة خاصة في العقدين الأخيرين، أي بعد ظهور فلاديمير بوتين في الساحة الدولية كلاعبٍ محوري، ففي أغسطس/آب 2019، احتفل فلاديمير بوتين بعامه العشرين كأقوى رجل في روسيا، بعد تعيينه كرئيس للوزراء في أغسطس/آب 1999.

كان النقاد الروس يميلون إلى مقارنة ظروف بلادهم في عام 1999 بظروف الحاضر، والتأكيد على أهمية ما وصلت إليه روسيا في السياسية الخارجية. سواء في حقبة الإمبراطورية إلى الحقية الرئاسية أي مذ أن شهدت روسيا هيمنة القيصر إلى هيمنة الرئيس بوتين.

لطالما وصف الغرب بوتين منذ ظهورهِ بـ"السفاح" و "القاتل" وحتى "السيكوباتي" الذي كان طموحه متمحوراً حول السلطة. اعتاد نقاد السياسة الخارجية الغربيون الإشارة إلى روسيا على أنها "عدوانية"، أو "إمبريالية". كانت تنبؤات الانهيار الوشيك لروسيا ونظام بوتين جزءاً من الأدبيات منذ بداية ولايته الأولى، ومع ذلك فقد نجا ونجح.

يمكن للمرء أن يقول بإنصاف إن روسيا في حقبة بوتين ازدهرت، فرغم واقع ما حدث في القرم والتدخلات في الحملات الانتخابية الأجنبية. لم تتحقق الديمقراطية السياسية في الداخل، ولا وجود لأي ضمانات جادة لحقوق الإنسان داخل روسيا، فإن روسيا قطعت شوطاً مهماً بعد حقبة الاتحاد السوفييتي في مجال فرض الهيمنة السياسية التي كان أحد أبرز أسبابها هو فلاديمير بوتين.

في الواقع، تظل الغالبية العظمى من المواطنين وفية لبلدهم وتوافق على سلوك رئيسهم. ومردُ هذا الوفاق أن بوتين أعاد الهيبة مرة أخرى للحضور الروسي في الساحة الدولية، وإن كان ذلك على حساب حقوق الإنسان، كما هو الحاصل في تدخلها في سوريا الذي رجح بشكلٍ كبيرٍ كفة بشار الأسد رغم التكلفة الإنسانية لهذا الترجيح.

أخضعت سياسة بوتين الخارجية الاتحاد الأوروبي في ملفات عديدة، ربما أبرزها موقف هذا الأخير السلبي من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وذلك أساساً بسبب المصالح الطاقية التي تجمعهُ بالدول الأوروبية خاصة ألمانيا التي قطعت أشواطاً مع روسيا في ملف الطاقة، والمتجسد في أنابيب الغاز نورد ستريم الأول والثاني الذي يخطو خطوات عديدة إلى الأمام رغم معارضة الجانب الغربي له، هذا التمدد الذي أثبته بوتين في العقدين الأخيرين امتد كذلك للقارة الإفريقية بحضور القوات الروسية في كل من ليبيا ومالي ليزاحم بذلك التواجد الغربي في القارة الغنية بالطاقة والمعادن.

إلا أن هذا التمدد والنجاح الذي حققتهُ روسيا في سياستها الخارجية في حقبة بوتين يظلُ بحاجة دائمة لرمزية عودة أوكرانيا للمحضن الروسي، أو على الأقل ترجمة التفوق الروسي الحاصل مؤخراً بتحييد أوكرانيا من المعسكر الغربي بلغة زمن الثنائية القطبية، لذلك لا نستغربُ حجم الضغط الذي تطبقهُ روسيا اليوم على الجانب الأوكراني والمتمثل بوجود سبعين ألفاً من القوات الروسية على حدود أوكرانيا.

فإن كانت أوروبا وخاصة ألمانيا غير قادرة على توقيف مشروع خط الأنابيب نورد ستريم 2 ، القادم من روسيا والعابر لأوكرانيا. وإن كان الغرب غير قادر على مد مزيد من المساعدات المالية والأسلحة الدفاعية لمساعدة أوكرانيا فلا نستغرب عودة روسيا بين الفينة والأخرى لترجمة قوتها العسكرية سياسياً في الحدود مع أوكرانيا بالتحديد، لما تمثله من رمزية للهيمنة الروسية كما أسلفنا، وأحداث عام 2014 مثال حي عن هذه المساعي التي تكررت الآن بعد مضي ثلاثين سنة من سقوط الاتحاد السوفييتي.

أما التلويحُ بورقة إخراج روسيا من نظام المدفوعات التي يستخدمها 11000 بنك في 200 دولة لتسديد مدفوعات عبر الحدود والمعروف بسويفت، في الواقع وإن بدا أنه تهديد كبير للاقتصاد الروسي المتغلغل في النظام الاقتصادي الدولي، إلا أنه يعربُ كذلك عن محدودية الجانب الغربي في الضغط على روسيا، وكذا أنه يمنحُ هذا الأخير إيجاد بدائل ليس فقط لهذا النظام البنكي ولكن كذلك لنظام تبادل العملات كذلك والذي يمكنُ أن تحققه روسيا بفعل هذا الدفع الغربي مع دول مثل إيران التي تعاني الحصار، وكذا تركيا التي تعاني عملتها من التقلبات وكذا الصين الداخلة في حرب تجارية مع الولايات المتحدة.

إن سيناريو noswift ليس جديداً على موسكو. لقد كانت تستعد روسيا منذ عام 2014 عندما طرحت أمريكا فكرة فصل الروس عن الشبكة لمعاقبتها على ضم شبه جزيرة القرم. إذا تم استبعاد روسيا اليوم، فسوف يترتب على ذلك تذبذب في رأس المال وسيل على المؤسسات المالية والبنوك التي تعتمد على التمويل الأجنبي. لكن آليات المواجهة ستبدأ بعد ذلك. ستستخدم البنوك الروسية وشركاؤها الأجانب وسائل اتصال أخرى. سوف تهاجر المعاملات بشكل جماعي إلى spfs الذي يعد بديلاً روسياً، كل هذا يظهرُ أن روسيا بعد ثلاثين عام باتت مجدداً قطباً سياسياً لا يمكنُ تجاهله في الساحة الدولية، ولا مواجهته بحلول غربية تبيّن محدودية تأثيرها على الجانب الروسي.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي