تابعنا
برزت في مواجهة الفيروس نماذج عدة، منها الناجح ولو جزئياً حتى اللحظة مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان وألمانيا، ومنها المتعثر مثل بعض الدول الأوروبية. وبين هذه وتلك تمثل تركيا بنموذج بدا مختلفاً بل ربما متفرداً.

كغيره من الأوبئة، يسير كورونا المستجد في مختلف الدول وفق منحنى معياري متكرر، حيث يبدأ بأعداد إصابات قليلة ثم يتسارع بأعداد كبيرة قبل أن يتباطأ ويصل إلى مرحلة الذروة التي تستقر فيها وتيرة الإصابات الجديدة لمدة من الزمن، قبل أن ينخفض المنحنى وتتراجع أعداد الإصابات بشكل ملحوظ لأسباب عدة بعضها يتعلق بالفيروس/الوباء نفسه وبعضها الآخر بخريطة انتشاره في تلك الدولة أو ربما بسبب التوصل إلى علاج أو لقاح ما، وهو لا يزال مأمولاً على المدى المتوسط أو البعيد في أسوأ الأحوال.

برزت في مواجهة الفيروس نماذج عدة، منها الناجح ولو جزئياً حتى اللحظة مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان وألمانيا، ومنها المتعثر مثل بعض الدول الأوروبية. وبين هذه وتلك تمثل تركيا بنموذج بدا مختلفاً بل ربما متفرداً.

فقد اتخذ الوباء فيها مساراً أفضل بكثير من التوقعات، كبلد سياحي من الدرجة الأولى ومتسع الجغرافيا ويشهد كثافة في عدد السكان.

ففي تقييم واقع الجائحة في البلاد خلال الأسبوع الفائت يمكن ملاحظة ثبات نسبة الوفيات في حدود %2.1 وهي من النسب المقبولة عالمياً إذا ما قورنت بغيرها. وتراجع نسبة مرضى العناية المركزة والموضوعِينَ على أجهزة التنفس الصناعي، إضافة إلى ازدياد نسبة المتعافين بشكل متدرج بعد مرور أكثر من شهر على تسجيل الحالة الأولى.

يضاف لكل ذلك تراجع نسبة الإصابات الجديدة على الرغم من الارتفاع الملحوظ في عدد الفحوصات المجراة، إذ سجلت في الأيام الأخيرة 5138 ثم 4789 ثم 4093 ثم 4062 حالة جديدة يومياً على الرغم من أن عدد الفحوصات تخطت في هذه الأيام الأربعة تحديداً حاجز 30 ألف فحص يومياً. 

هذه المعطيات الإيجابية للوباء التي استقرت تقريباً خلال الأسبوع الفائت أكدها وزير الصحة فخر الدين قوجه خلال مؤتمره الصحافي الثلاثاء الفائت، لافتاً إلى أن بلاده هي الوحيدة تقريباً في العالم التي تسجل انخفاضاً في نسبة مرضى العناية المركزة في ظل ارتفاع أعداد الإصابات الجديدة لديها.

كما سبق أن أشار إلى أن الأعداد المسجلة في مدينة إسطنبول بكثافتها السكانية الكبيرة وطابعها السياحي المتصل مع العالم الخارجي، أقل مما كان متوقعاً بنحو ثلاثة أضعاف. غير أن الإشارة الأهم للوزير كانت إلى أن تركيا وصلت إلى مرحلة ثبات/تراجع وتيرة الإصابات -وليس تراجع الأعداد بطبيعة الحال- في الأسبوع الرابع من بدء تسجيل الإصابات لديها، وهو وقت متقدم جداً بالمقارنة مع كثير من الدول.

وفق هذه القراءة، وبناء على معطيات وزارة الصحة وهيئتها العلمية، فتركيا لا تزال في مرحلة التصاعد أو التسارع مع انخفاض تدريجي في حدة الوباء، ما يشير إلى أنها اقتربت على ما يبدو من الوصول إلى مرحلة الذروة. فما العوامل التي ساعدتها على تسجل هذا النجاح النسبي حتى اللحظة؟

يمكن في هذا السياق رصد النقاط المهمة التالية:

أولاً، بدأت تركيا إجراءاتها الوقائية تجاه العالم الخارجي بوقف الرحلات الجوية مع إقليم ووهان الصيني في 22 يناير/كانون الثاني الفائت، وهو وقت مبكر جداً بالمقارنة مع دول عديدة وقبل ظهور أول حالة في تركيا في 10 مارس/آذار، بوقت طويل. الأمر نفسه يمكن قوله حول وقف الرحلات الجوية مع عموم الصين وكذلك إخضاع الحدود البرية مع إيران للرقابة والمستشفيات الميدانية حين ظهر المرض في الأخيرة قبل إغلاقها تماماً.

ثانياً، بادرت تركيا كذلك لإجراءات داخلية صارمة قبل تفشي المرض فيها بشكل كبير. فقد علقت الدراسة في جامعاتها ومدارسها وأوقفت صلوات الجمعة والجماعة في كل مساجدها في الـ16 من مارس/آذار المنصرم أي بعد 6 أيام فقط من تسجيل أول حالة وحين كان عدد مرضاها 26 حالة فقط ولم تسجل بعد أي حالة وفاة.

ثالثاً، يبدو أن التزام الناس توصيات وزارة الصحة والقرارات الحكومية يسير بنسبة مقبولة مؤخراً، وهو الأمر الذي أتى مع الوقت والتدرج بعد فترة أولية لم يكن فيها كما ينبغي. ولعل مما أفاد تركيا اليوم في الصورة التي تقدمها قرار فصل المحافظات بعضها عن البعض ومنع التنقل بينها، الذي اتُّخذ قبل أسبوعين من الآن، وهي المدة التقريبية لرصد نتائج أي قرار أو تطور وفق الهيئة العلمية التابعة لوزارة الصحة.

رابعاً، استفادت تركيا من الوقت الذي أتيح لها منذ انتشار المرض خارج الصين بداية يناير/كانون الثاني حتى وصوله إليها في مارس/آذار. مدة الشهرين هذه مكنت تركيا من الاطلاع على تجارب الدول الأخرى لا سيما الصين ثم الدول الأوروبية ومسار المرض فيها وبروتوكولات العلاج والمتابعة المعتمدة.. إلخ. وهي تجارب أضافت إليها لاحقاً وطورتها بناء على خبرتها التي اكتسبتها من المعطيات المحلية وما استخلصته من متابعة مرضاها على مدى الأسابيع الماضية.

ولعل مما اختلفت به تركيا عن باقي الدول حصرها الفحوصات -حتى اليوم- في الشريحة الأكثر احتمالاً للإصابة بالفيروس، أي من تظهر عليهم أعراض المرض وأولئك المحتكين مع مرضى كورونا. يجعل ذلك نسبة الإصابات المشخصة من الفحوصات مرتفعة نسبياً، لكنه يساهم في المقابل في تحديد الأطراف الأكثر خطورة وبالتالي عزلها وعلاجها بطريقة أكفأ.

خامساً، بخلاف الكثير من الدول، اعتمدت تركيا بدء إعطاء الأدوية لا سيما الهيدروكسي كلوروكوين للمرضى والمرضى المحتملين (أي قبل ظهور نتائج الفحص) وعدم حصرها بمرضى العناية المركزة، فقد يكون ذلك متأخراً وقليل الفائدة، ولعل ذلك من أسباب انخفاض نسبة مرضى العناية المركزة فيها مؤخراً.

في المحصلة، تسجل تركيا أعداد إصابات ووفيات أقل بكثير من المتوقع لها في هذه المرحلة ولم تصل بعد إلى حالة إشباع أو ضغط مبالغ فيه على القطاع الصحي، وخصوصاً وحدات العناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي.

يدعم ذلك توقعات وصولها إلى مرحلة الذروة قريباً، ربما خلال أسبوعين أو ثلاثة، وهو ما سيعني وصولها إليها في وقت أبكر وبفاتورة إصابات ووفيات أقل بكثير من مثيلاتها. الأمر الذي يجعل من الأيام والأسابيع القليلة القادمة حساسة بشكل استثنائي.

كل هذه التقديرات مبنية على افتراض استمرار التزام الإجراءات الوقائية المرتبطة بالمسافة الاجتماعية والتباعد والمكوث في المنازل وغيرها، بل رفع مستوى التزامها أكثر. وإلا فإن أي تراخٍ في تلك الإجراءات يمكن أن يؤدي إلى انفلات الأوضاع وتسارع أعداد المرضى بطريقة غير منضبطة كما حصل في دول أخرى.

ومن هذه الزاوية تحديداً، سيكون علينا الانتظار ما يقرب من 10 أيام أخرى لرصد ارتدادات الفوضى الجزئية والاحتكاكات التي رافقت إعلان حظر التجوال في 31 محافظة يوم الجمعة الفائت، وكذلك فوائد حظر التجوال نفسه والذي يبدو أنه سيكون نهجاً معتمداً بشكل متكرر من قبل الحكومة كل عطلة نهاية أسبوع مع تجنب الخطأ السابق، حيث أعلن عنه هذه المرة الرئيس أردوغان وقبل خمسة أيام كاملة من موعده، بحيث يكون لدى الناس وقت كاف لشراء حاجياتهم والاستعداد له بما يمنع التجمعات الكبيرة والتدافع.

أيام مقبلة في غاية الأهمية، إذن، تضع مسؤولية جماعية وفردية على عاتق الجميع للوصول إلى مرحلة يمكن معها القول إن حدة انتشار الوباء قد كُسِرت إلى حد كبير، ما يمكن من مواصلة مكافحته بأريحية أكبر، وربما العودة الجزئية عن بعض الإجراءات الوقائية. وإلا فالبديل هو تسارع الأعداد مرة أخرى ودخول مرحلة جديدة تنقض المسار الإيجابي الحاصل حتى اللحظة وتأخير التطورات الإيجابية حتى إشعار آخر.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

تركيا وجهود مكافحة فيروس كورونا (TRT Arabi)
TRT عربي