كتاب موجز تاريخ الإسلام للمستشرقة البريطانية كارين أرْمِسْتُرونغ (Others)
تابعنا

وتأخذنا في سرديةٍ تاريخيةٍ تَعانَقَ فيها الإنصاف والقدرة التَّحليلية، وإظهار الإسلام إلى الغربِ بصيغةٍ مغايرة للسَّرديات السَّائدةِ بينهم.

كنتُ مُذْ صَدَرَ كتاب المستشرقة البريطانية كارين أرْمِسْتُرونغ، المولودة في 1944، "موجز تاريخ الإسلام"، أتطلعُ لاقتنائه لأسبابٍ عدة أهمها التَّاريخ العلمي المُنصِف الذي تتصفُ به الكاتبة.

ثمَّ مضمون الكتاب الذي يهمني النَّظر فيه في الفترةِ الحالية، وأخيراً ترجمة الرَّاحل د. أسامة شفيع السَّيد. ثلاثة أسباب كل واحدٍ يعضدُ الآخر، ثلاثتها دفعتني لاقتنائه فوْر نزوله.

الكتاب وثيقة فكرية

وقد جاءَ الكتاب منظومًا في خمسِ مراحل، ابتداءً بالبدايات وانتهاءً بمرحلة المناوئين للإسلام.

الكتاب من عنوانه قد يُظَّنُ ابتداءً أنه كتابٌ سرديٌّ تاريخي لأهمِّ الحقب في تاريخ الإسلام، لكنَّ الأمر ليسَ كذلك، فالكتاب أعمق من مجردِ سردٍ تاريخي، بل هو وثيقةٌ فكرية وتاريخ لتشكُّلِ الأفكار عبر تسلسلٍ زمني تنسابُ في سلاسةٍ وتدفق من مبدأ الدَّعوة المحمدية إلى عصرنا الحديث.

لن يخفى عليك فوْر انتهائكَ منه، أنكَ تقفُ أمام كاتبةٍ منصِفة لم تؤثِّر عليها سرديات الرَّجل الأشقر من بني قومها، وقد ظهر ذلك في أكثر من قضية، بدا لي أنَّ تناولها كان أكثر إحكاماً ونبْلاً من بعضِ الكتَّاب المسلمين!

كنتُ على سبيلِ المثال أتحيَّنُ النَّظر في موقفها أثناءَ حديثِها عن مسيرةِ النُّبوةِ الأولى، تحيَّنتُ معالجتها لقصَّة يهود بني قريظة، إذ كثر فيها الشَّطط وباتت شبهة تُحيِّر المسلم المعاصر من هوْلِ الوحشية التي تظهر من ظلالِ معاني الحكم الذي نَزَلَ ببني قريظة. ثم بدا لي كيف تنظر إليها امرأة من الغرب، تكتبُ للغرب الذي يعتقد بأصوليةِ الإسلام ونبيه، مع مسحةِ العنف التي التصقت به زوراً وبهتاناً، حولَ خيانةِ بني قريظة التي حاولت استئصال الأمَّة النَّاشئة، تقول أَرْمِسْترونغ: "من الخطأ أن نحكم عليه بمعايير عصْرنا، فقد كان المجتمع بكراً، والمسلمون أنفسهم إنما نجوا من الإبادةِ الكاملة قبل ذلكَ بقليل، ولو أنَّ محمَّداً اقتصر على نفي القرظيين، لَعَظُمَ خصومه من اليهود في خيبر، ولشنوا حرباً أخرى على الأمَّة تسْهِمُ في استئصالها رغبةً في محوها من البقعةِ التي نَزَلوا بها".

المستشرقة البريطانية كارين أرْمِسْتُرونغ (Others)

ثمَّ تُردِفُ قائلة: "وعلاوةً على ذلك، لم يكن أي زعيمٍ عربي يستطيع، في القرن السَّابع وفي شبه جزيرة العرب، أن يُبدي رحمة تجاه خونة كبني قريظة. وقد كان في مَقَاتل القرظيين رسالة كالحة ليهودِ خيْبر، كما أنها أسهمت كذلك في قمع المعارضة الوثنية في المدينة، لأنَّ زعماء الوثنيين كانوا حلفاء لمتمردي اليهود. لقد كانت معركة إلى الموت، عرف فيها كل فريق أنَّ الأخطار شديدة".

ولك أن تتلَّمسَ الوضوحَ في حديثها وهي تعالجُ قضيَّة شائكة، يجد فيها بعض المناوئين حادثة دسمة تدينُ الإسلام منذ بواكيره، كما يتناولها بعضُ المسلمين بشيءٍ من الخجل، محاولاً تبرئة الإسلام من وصْمةِ الوحشية تارة، وإنزال بعضهم معايير العصر الحالي على ذلك التَّاريخ، ثمَّ الخروج بوصْفِ الهدي النَّبوي بالعنفِ و"انتهاك معايير حقَّ الإنسان"، منذ تحرشهم بقافلةِ قريش مروراً بحادثةِ بني قريظة وانتهاءً بأحداثِ سبتمبر، كل هذه الأحداث يقفُ وراءها فكرة العنف التي تكتنفُ الإسلامَ حسب زعمهم!

الحياة في مجموعها عبادة مقدسة

وهذا الفهم العميق الذي انطوت عليه رؤى أرْمِسْترونغ لا يتوقف عند بعضِ القضايا الشَّائكة التي عُرِفت في التَّاريخ، وإنما استوقفني مدى فهمها لحقائقِ الإسلام ومغايرة الدِّين المحمَّدي لغيره من النَّماذج القديمة والحديثة، ولهذا تقول: "فبحسب المنظور القرآني لا انفصامَ بين المقدَّس والدنيوي ولا بين الدِّيني والسِّياسي ولا بين الجنس والعبادة فالحياة في مجموعها يمكنُ أن تكون مقدَّسة، ويتعينُ العمل فيها على وفق المنهج الإلهي. وقد كانَ التَّوحيد هو الغاية من وراءِ ذلك"، وهذا في ظني فهمٌ دقيقٌ لحقائقِ الإسلام بعبارةٍ موجزة تُبِينُ عن معرفةٍ رصينة بالقِيَمِ الكبرى، وأسسه التي ينطلقُ منها.

ويمضي الإنصاف بها للحديثِ عن زواجِ النَّبي ﷺ، وتفنيد الدَّعاوى التي تلمز النَّبي ﷺ فيما يتعلقُ بزواجه من تسع نسوة، وتدحضُ الأقوال المناوئة لنبيِّ الإسلام واصفةً إياه بأنه الإنسان الذي "جلبَ بمفرده السَّلام إلى الجزيرةِ العربية بعد أن تناوشتها الحروب"، وفي تقريرٍ ظاهر لانتصار النَّبي ﷺ للمرأةِ منذ ظهرت الدَّعوة، تقول أرمسترونغ: "لقد كان تحرير المرأة أمراً محبَّباً إلى قلبِ النَّبي ﷺ وكذلك منحها القرآن الحق في الإرث وفي الطَّلاق قبل أن تنال المرأة الغربية هذيْنِ الحقَّيْن بقرون".

وهذا كلامٌ قد يُقالُ من غيرها في طابعٍ استهلاكي، يرومُ رفعة الإسلام بعباراتٍ جاهزة تفيدُ تكريم "المرأة في الإسلام"، لكنَّ أرْمِسْترونغ تنطلقُ من فهْمٍ متقدِّم لمبادئ الإسلام الكبرى، ولهذا تجدها غالباً متسقة مع هذه المفاهيم التي يكثر حولها اللغط، لاسيما من الآخَرَ الذي ينظر إلى الإسلام ودعوته بشيءٍ من التَّوجس.

ولا يعني هذا أنَّ نسلِّمَ للكاتبة في كلِّ ما ذهبت إليه، إذ بدا لي أنَّ من أهم أخطائها تصورها لفلسفةِ المعارك والحروب التي خاضها الرَّعيل الأول، والانطلاق في ذلك من تفسيرٍ ماديٍّ للتَّاريخ، إذ تفسِّر الفتوحات التي كانت في عهْد الفاروق عمر أنها ضربٌ من ضروبِ ملء الفراغ الذي نَشَأ من تحريمِ الإسلام الغزو بين المسلمين أنفسهم، كما كان يحدثُ قبل عصْر الرِّسالة، وذلك ما دفعهم إلى الخارجِ للاستفادةِ المادية وتخفيف المشكلات التي نشأت عن السَّلام الإسلامي الجديد في شبه الجزيرةِ العربية، وتقريراً لذلك تقول: "لقد أدرك عمر أنَّ الأمة بحاجةٍ إلى نظام، ولم يكن بُدٌّ من السَّيْطرة على العناصرِ الخارجة عن القانون، وكان الحلُّ الجلي سلسلة من الغزوات على المجتمعاتِ غير المسلمة في البلدان المجاورة". لقد أهدرت كل قيم الفتح التي كان يحملُها الإسلام، وضيقت بؤرة الرؤية على ردِّ وقائعه إلى أسبابٍ اقتصادية.

ثم في موطنٍ آخر تُوسِّع التَّدليل على هذه الفكرة بصورةٍ أوضح من ذي قبل، فتقول: "فلم يكن عمر يعتقد أنَّ لديه تفويضاً إلهياً بغزو العَالَم، وإنما كانت غايته ذرائعية تماماً، أن يغنموا".فرغم أنَّ الكاتبة نفت انتشار الإسلام بالسَّيف، فقد نسبت إلى المسلمين الخروج والجهاد طلباً للدُّنيا.

وقد طربتُ لتعقيبِ المترجِم في ردِّ مذهبها، إذ قالَ رحمَه الله: "وفي هذا ما فيه من تقزيمِ الدِّين فلا يكاد يبلغ حتى رتبة أهون المذاهب الأخلاقية في نُبْلِ المقصد وشرف الغاية وعمق الأثر. وهَبِ الأمر كان كما قالت الكاتبة، فلمَ كان المسلمون يعرضون الإسلام أولاً على أهالي البلاد المفتوحة، وقد علموا أنَّ هؤلاء إذا أسلموا حَرُمَت دماؤهم وأموالهم وفروجهم، وأمسوْا هم أنفسهم جزءاً من المشكلةِ الاقتصادية، بدلاً من أن يكونوا الحلَّ الأمثل لها". ومذهبها في هذه القضية ظاهر البطلان عند النَّظر الكلي لمفاهيم كبرى مثل الجهاد والدَّعوة والشَّهادة والمآل الأخروي وغيرها.

وقد أرخيتُ للقول، ولا أبتغي الإطالة في عرضِ ما استوقفني في كلِّ الكتاب، ولكن حسبي أن أنتقلَ إلى دكَّة الختام وهو الفصْل الأخير الذي عنوَنته "المناوئين للإسلام"، ووصول الغربِ إلى دفة القيادة وانحدار الأمَّة المسلمة وبيان منازع الأفكار والمفاهيم الفلسفية التي أفضت بالعَالَم إلى ما آلِ إليه في عصرنا، وللنَّظر الوئيد في هذه الظاهرة الحضارية التي مهَّد السَّبيل إليها عصر التنوير وعُرفت باسم الحداثة، فملأت الدُّنيا وشغلت النَّاس، ثمَّ فيما انطوت عليه هذه الظاهرة من تغيير وجهة العالم الحديث عن السَّماءِ إلى الأرض. وهو فصلٌ جديرٌ بالقراءةِ والمُدارسة.

ختمت أرْمِسْترونغ كتابها عن تأثير أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الإسلامِ وأتباعه، فكانت على ذاتِ الاتساق والتَّسامي الذي بدأت به الكتاب، وثيقة العُرى في غيرِ نقض ومُحكمة النَّسْج في غيرِ وهن، ولهذا ختمت بالدفاع ضد تصدير صورة مشوهة للإسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً