شكَّلت قضايا حقوق المرأة الدافع لحراكهن، سواء على مستوى مواقف القيادة المعرفية الفردية التي أسست لمدونة الحقوق الخاصة ودفعت بمسائل الأحوال الشخصية إلى مرتقى جدل الفكر والإفصاح الحواري، "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إنّ الله سميع بصير"،المجادلة (1)، أو على مستوى الانتظام المطلبي الجماعي، الذي بدأ متناثراً في فواصل التاريخ حتى تبلور في القرنين التاسع عشر والعشرين، حول قضايا المساواة في الحياة العامة والمناداة بعدالة وتكافؤ الفرص والسعي الدؤوب نحو تجذير قواعد التشارك في أنساق العلاقات الوظيفية: الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
أنجز هذا التراكم تحولات واسعة النطاق على مستوى تحقيق مكاسب للمرأة، في مجالات التعليم والعمل والإنتاج الاقتصادي والمشاركة السياسية والإسهام في وظائف البناء المدني الحديث.
أما على المستوى الرأسي الذي يمثل البعد الجذري في إحداثيات التحول وهو المتعلق بإصلاحات البنى الثقافية والاجتماعية وتصويب أنماط التصور السلبية فلا يزال أمام النساء الكثير مما عليهن إنجازه على المستوى الفكري الفلسفي.
وبقدر ما مثلت المسألة الحقوقية أكبر قواعد المشترك الإنساني/النسوي، باعتبارها تعالج إشكالات النظر الاجتماعي إلى القيمة الوجودية للأنثى من حيث هي،"وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم"، يتماثل في ذلك بحكم طبيعة التصور مولدها البيولوجي ومولدها الاستقلالي بقيادة الرأي الفكري أو الإداري، ولا تكاد الأمم تختلف في ذلك إلا اختلاف درجة لا اختلاف نوع، وهذه المشابهات الثقافية لاحظها جيداً Antony D Smith إذ يقول في كتابه "الأسس الثقافية للأمم: الهرمية والعهد والجمهورية" الذي صدر في 2021: "يمكننا أن نفصل السمات المتكررة في النماذج التاريخية للمجتمعات، والهويات المصنفة كأمم وهويات قومية بوصفها مغايرة للمجتمعات والهويات الأخرى، وعلى الرغم من ذلك فإنّ بين طرفي النقيض المتمثلين في الخصوصية والعمومية من الممكن اكتشاف أنماط متكررة بوضوح شديد في أنواع معينة من الثقافات العامة للأمم، لقد وجدت أن تلك الأنماط متأثرة تأثراً قوياً بالتقاليد الراسخة التي تعود إلى العالم القديم، وأنها في بعض أشكالها المتغيرة استمرت في جعل تأثيرها ملموساً حتى في ظل عالم غاية في المدنية قائم على الاعتماد المتبادل...".
هذه الإشارة من المهم استصحابها كمقياس في التحليل المعرفي للعامل الثقافي والاجتماعي الذي يتعدى في تأثيره على المجالات التابعة في المواقع الإدارية والسياسية والاقتصادية إلخ...، فيما يخص الموقف من المرأة مهما كان تأهلها وأيّاً كان موقعها في التقدم الحضاري. هذا جدل واقعي يجب النظر فيه عميقاً والاشتغال على مناهج تعديله وتحقيق التوازن الموضوعي فيه. واللافت أنّ القرآن الكريم قدم المثال النسوي كجدارة نموذجية في المجالات الجدلية التي ظلت محل محاكاة نظرية وإجرائية عبر التاريخ، فكان الحكم الراشد على يد امرأة وهي ملكة سبأ، والاستقلال الفكري عبر امرأة وهي امرأة فرعون، وتصميم مقاييس الكفاءة التي تجمع بين المؤهل العلمي والقيمة الأخلاقية تتجسد في امرأة وهي بنت شعيب، وعزيمة الترقي حدَّ الاصطفاء تمثلت في امرأة فكانت مريم بنت عمران. كل هذه شواهد تتجاوز (كَهْنَتَةَ) التصور العرفي لموقف الدين لدى البعض، أو موقف الطبيعة لدى البعض الآخر، من المرأة.
من هذا المنظور الممانع تنال المسيرة الحقوقية للمرأة العربية حظها من التعطيل، وبالقدر ذاته يمكن أن تتحصل على الدفع نحو الأمام.
عند النظر البحثي في منالات المرأة العربية من الحقوق والمُتَطلَّع إلى اكتسابه يجب الانتباه إلى أننا ننظر إلى طيف واسع من السياقات: العرفية، والثقافات الاجتماعية، والأوضاع الاقتصادية المتفاوتة حتى داخل الحيز السكاني الواحد، والبيئات المتابينة في أحوال الأمن والسلم، والمجتمعات المتخلِّقة عن ظروف النزوح والهجرة واللجوء، وما نتج عنها من أجيال تأثرت هوياتها الانتمائية وقاسى بعضها من تطرفات بعض التيارات في مهاجره، وعانت أعداد من النساء والفتيات من مضاعفات التمييز إما بسبب اللون وإما الدين وإما الهوية القُطْرية، كل هذه الاختلافات السياقية تحيل إلى ضرورة تطوير منظورات الرصد الحقوقي وتحديد حقول الإصلاح وترتيب أولوياته وتعيين الحزم المتلازمة، ذلك لأن العوامل الجذرية تغلب نسبها الإحصائية وتأثيرها النوعي على العوامل الثانوية أو الطارئة.
في العوامل الجذرية لمسألة الحقوق:
يستلزم الثقافة الاجتماعية العربية نوعان من التقبُّل حتى تُحدِث التحول المطلوب في شأن الحقوق المتعلقة بالمرأة.
أولهما تأصيل مفاهيم الحقوق المتعلقة بالمرأة من داخل المكونات المرجعية، تصويباً للتصورات الخاطئة والملتبسة التي ترتبت عليها إشكالات تربوية وتنشيئية تظهر تعدياتها على نحوٍ واضح في اختلال ميزان الإعداد الاجتماعي والقيمي المتصل ببناء المسؤوليات بين الأبناء الذكور والبنات الإناث، والتي تبدت فداحة آثارها مع تطور تعقيدات التشكيل الحديث للمجتمعات الذي تجاوز محدودية الحيز العائلي والعشيري إلى أبويّات تربوية مضافة من عوامل عدة، كالإعلام ووسائط اتصال ثقافي مفتوح على مختلف الأطروحات، كما يوجد مطروح نظري في الإعلام يسمي التلفزيون (الوالد الثالث)، ونواقل أنماط اجتماعية مغايرة، كل هذه التدافعات كانت مهمة لاستئناف اجتهاد تدبري أكثر أصالة في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها، التي التفَّت عليها أهواء العرف الثقافي غير الحميد، المحزوم في منظومة من ضار العادات المقلدة عبر الأجيال، وذلك رد لأصل مرادات عدالة النص، وهذا من الأبواب المفتاحية لترسيخ فكرة الحق، إذ إنّ مفهوم التفسير الذي ورد مرة واحدة في القرآن في دلالة واضحة على كفايته وجاء مرتبطاً بالحق ومثلاته "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً".
كذلك من المهم الانتباه إلى أن المسألة الاجتماعية تشغل إحصائياً وموضوعياً الحيز الأكبر في النص القرآني، وجملة الحقوق خاصة المتصلة بالمرأة تأخذ بعداً مركزياً في المفاهيم القرآنية والشرعية، وفيها مفارقة واضحة للسائد من تقاليد الثقافة العربية، وكل ما انبنى عليها من تكييفات تصورية أو قانونية.
أما النوع الثاني من التقبل فهو تكامل مؤسسات التنشئة، ما يستوجب إعادة دور التربية المدرسية الذي يتضامن فيه محتوى مقررها المدرسي مع موجهات القيم التربوية المتوازنة في غاياتها الحقوقية، مع كامل العناية بالأنظمة الثقافية والأدبية وأنظمة الرعاية النفسية والاجتماعية عبر اختصاصيين نفسيين وباحثين اجتماعيين يجري تدريبهم على مناهج البيئة المدرسية ومطلوباتها، ويتوجب في هذا السياق اعتماد السياسات الإعلامية لكل دولة نسبة متوازنة من برامج الثقافة الحقوقية.
فحقوق المرأة العربية الاجتماعية تستوجب إعدادات أعمق بكثير من أشكال الحقوق الأخرى التي كما بدا من تاريخ الوعي الحقوقي من الممكن استنصار روافد أخرى لتسريعها، أما الحقوق الثقافية والاجتماعية، فكما تكرست عبر أجيال فسيجري إحلال بديلها وتجذيره عبر جهد فِلاحي معرفي، يصبر على إعادة حرث تربتها المفاهيمية وتنقية مجاريها المتعدد الروافد.
إنّ منالات المرأة العربية في المنظومة الحقوقية قياساً بالمتجدد في الاجتهادات والمنظورات المتنوعة في التجربة الإنسانية في قضايا الحماية وآلياتها التي تمثل تأطيراً وسائلياً لقيم وغايات حقوقية، متسعة باتساع مفهوم الحق وتجلياته في الاحتياجات الإنسانية في كل تفاصيلها، ما يستلزم أن تنظر المرأة العربية إلى قضايا الحقوق باعتبارها قضايا وجودية تبدأ بالصحة والتعليم ولا تنتهي إلا باستيفاء قيمها.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.