مع تصاعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا هنا تخوف من أزمة غذاء عالمية (Getty Images)
تابعنا

بعد دخولها وسيطاً لوقف الحرب الدائرة في أوكرانيا من خلال استضافة لقاءات بين وزيرَي الخارجية الروسي والأوكراني تعمل تركيا على تثبيت نفسها مرة أخرى عبر دورها وسيطاً يملك أوراق النجاح من خلال توسطها لمنع أزمة غذاء عالمية تمس اهتمام معظم دول العالم، وذلك من خلال سلسلة لقاءات رعتها أنقرة بين روسيا وأوكرانيا وبمشاركة الأمم المتحدة.

وبدأت تركيا هذه اللقاءات منذ بداية يونيو/حزيران الجاري. لم تنجح المداولات الأولى التي عقدت خلال زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف لأنقرة، وقد وصف الرئيس الأوكراني زيلينسكي المحادثات حينها بأنها صعبة، ولكن بعد ذلك حصل تقدم بُعيد خطة قدمتها تركيا.

وطرحت تركيا خطة بموجبها يجري تأمين حركة السفن التي تحمل المنتجات الغذائية عبر خطوط آمنة، وقد تتوجت اللقاءات بالتوافق على إنشاء مركز عمليات في إسطنبول للإشراف على عملية حركة السفن المحملة بالحبوب من المواني الأوكرانية.

بادئ ذي بدء من المعلوم أن أوكرانيا تساهم بنسبة حيوية في بعض المواد الغذائية فتساهم بتوفير أكثر من 40% من زيت عباد الشمس المتداول في السوق العالمية وكذلك 16% من الذرة وقرابة 10% من القمح، ولوجود إغلاق للممرات البحرية بسبب وجود ألغام بحرية، وكذلك بسبب حصار السفن الحربية الروسية للعديد المواني الأوكرانية مثل مواني أوديسا وتشور نومورسك ومواني أخرى فقد جرى اللجوء إلى الطرق البرية ولكن لم يكن الأمر فعالاً.

ولهذا فقد تكدست أكثر من 22 مليون طن من الحبوب. وتوجد إشكاليات في إيصالها إلى الأسواق الدولية. كما أن الأدهى أن هذه الكميات من الحبوب التي كانت مخزنة في الصوامع الأوكرانية ليست من موسم هذا العام.

تسببت هذه الأزمة بالإضافة إلى عوامل دولية ومحلية أخرى في رفع أسعار المواد الغذائية مما أحدث قلقاً كبيراً لدى كثير من الدول وصل إلى إمكانية زعزعة استقرار بعض الدول حال تفاقم الأزمة، وعليه فإن تدخل تركيا بقضية تقلق المجتمع الدولي كتلك يضفي نوعاً من الإيجابية على جهودها ويلاقى بتقدير وترحيب.

فقد مارست تركيا في هذا الملف دبلوماسية مكوكية لها تجربة جيدة بها بحكم إدارتها أزمات عدة وبحكم علاقاتها الجيدة مع روسيا وأوكرانيا مقارنة ببقية الدول الفاعلة ولذلك وجدت إمكانية لنجاحها بهذا الملف. واجتمعت بموسكو وفود عسكرية تركية مع نظرائها من الروس، وحصلت تركيا على دعم لمسارها من الأمم المتحدة وبريطانيا، وظهر ذلك عبر اتصالات الرئيس أردوغان مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأسبوع الماضي حول قضية الممر الغذائي التي نوقشت خلال اجتماع الرئيس أردوغان مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.

وضعت تركيا خطة لنقل الحبوب، ووفقاً للخطة جرى تحديد 3 ممرات آمنة قبالة سواحل أوديسا، وبموجب الاتفاق الأولي سيكون المرور عبر الممرات تحت سيطرة أوكرانيا ولكن ستفحص روسيا إن كانت السفن تحمل أسلحة أو لا.

وبالتأكيد ستُتفقد هذه الممرات ويُتأكد من خلوها من الألغام البحرية، ومع أن هذه الآلية ستؤمن أكثر من 30 مليون طن حبوب وزيت عباد شمس فإن العملية ستستغرق 6 أشهر على الأقل. وفي سياق إتمام إنجاح هذا الملف من المنتظر أن يعقد الاجتماع الرباعي في إسطنبول في غضون 10 أيام، ويمكن أن ينضم إليه الرئيس رجب طيب أردوغان والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

ستستفيد تركيا أيضاً على الصعيد الوطني بحصولها على ميزة في أسعار المواد الغذائية التي ستخرج عبر هذه الممرات إذ ستشتري المنتجات الغذائية بسعر أقل بنسبة 25% وفق بعض المصادر التركية. وعلى المستوى التركي أيضاً على هامش المفاوضات الجارية غادرت السفينة التركية التي تحمل اسم "آزوف كونكورد" ميناء ماريوبول لتكون السفينة الأجنبية الأولى التي تغادر محملة بالحبوب الأوكرانية بعد انتظارها لأيام في الميناء وقد تبعتها 5 سفن أجنبية أخرى. كما ناقش الوفد العسكري التركي خلال الاجتماع مع نظيره الروسي أيضاً الإعادة الآمنة لطائرات القوات المسلحة التركية الموجودة في مطار بوريسبول إلى تركيا.

تدور المفاوضات بالدرجة الأولى حول الضمانات الأمنية والعسكرية للممر البحري للحبوب الأوكرانية، ولكن ما ليس واضحاً هو الضمانات الاقتصادية إذ توجد ادعاءات بأن المحصول الزراعي الأوكراني وإن كان مسجلاً بأسماء أوكرانية فهو مملوك بالفعل لصناديق استثمار أمريكية، وقد يسبب عدم التوافق الكامل على كل المسارات تعويقاً لعملية نقل الحبوب رغم وجود ضمانات أمنية وعسكرية تتعلق بالألغام البحرية والحصار العسكري الروسي للمواني الأوكرانية.

بالطبع رغم وجود قناعات باستمرار الأزمة والحرب في أوكرانيا على المدى المتوسط والقريب فإن مثل هذه التوافقات التي بذلت تركيا فيها جهداً ترسم بعض الآمال حول إمكانية تحقيق توافقات أكبر، كما تكرس تركيا لاعباً وسيطاً وصاحب دور إيجابي فيما يتعلق بقضية تمس الأمن الغذائي العالمي كذلك من المحتمل أن يكون لهذا التطور انعكاس إيجابي من حيث تخفيض أسعار المواد الغذائية القادمة من كل من روسيا وأوكرانيا.

ما وراء قضية الحبوب

من زاوية أخرى يعد الحضور التركي النشط في البحر الأسود الذي يتميز بأهمية استراتيجية مهماً جداً في المعادلات الجديدة ويساعد تركيا بتحقيق مصالحها بشكل أكبر. كما أن وجود نظرة إيجابية من روسيا والغرب إلى الوجود التركي يقلل تكلفة هذا الوجود ويخفف من حالة التوتر، إذ تعتمد تركيا في الوقت الحالي على لعب دور إيجابي من خلال التكامل والتوازن الناعم والاعتراف المتبادل بمجالات النفوذ في البحر الأسود مما يوفر الفرصة لإيجاد وجهات نظر مشتركة، تحديداً بين تركيا وروسيا، وفق أولوية إقليمية أكثر منها دولية.

أثبتت تركيا أنها تسعى بجد لحل أزمة غذاء عالمية تمس مصالح كثير من دول العالم، وهو ما يرفع أهمية دورها كوسيط في الأزمة الأوكرانية، إذ إن ملف الغذاء قد يكون رافعة لمزيد من الجهود على مسار حل الأزمة وإن كان الأمر ليس واضحاً، كما تواصل تركيا من جهة أخرى السعي للاستفادة من البيئة التي تشكلت بعد الأزمة الأوكرانية لتكريس مصالحها الوطنية.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً