تابعنا
توارت ألمانيا عن مشهد التأثير في الساحة الدولية، واكتفت أن تكون لاعباً من الخلف مكتفية بتقدمها الصناعي وقدراتها المالية لتحافظ على القليل من هيبتها التاريخية.

وضعت الحرب الأوكرانية منذ اشتعالها في فبراير/شباط من العام الماضي كثيراً من مسلمات السياسة الدولية التي سادت النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على المحك. من ضمنها وضع ألمانيا على الساحة الدولية. سيطرت عقدة الذنب النازي على ألمانيا واتبعت نهج التواري إلى الخلف. وبالنظر إلى سياسة ألمانيا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، فلا يبدو أن برلين ستكون قادرة على تخطي هذه العقدة أو تجاوز هذا النهج.

توارت ألمانيا عن مشهد التأثير في الساحة الدولية، واكتفت أن تكون لاعباً من الخلف مكتفية بتقدمها الصناعي وقدراتها المالية لتحافظ على القليل من هيبتها التاريخية. ركنت برلين إلى الحماية الأمنية التي وفرتها لها الولايات المتحدة، وأصرت على سياستها المحافظة بجعل الاتحاد الأوروبي (التي تشكل فيه القوى الأكبر اقتصادياً) نادياً اقتصادياً فحسب.

رأت برلين أن المظلة الأمنية التي توفرها الولايات المتحدة تصب في مصلحتها على شقَّين. فمن ناحية خصصت ألمانيا جل ميزانياتها لدعم تنميتها الاقتصادية على حساب تنمية قدراتها العسكرية. وخففت عن نفسها مغبة التدخل في الصراعات الدولية من ناحية أخرى. لقد سيطرت عقدة الذنب النازية على السياسة الألمانية، وبات التواري عن التدخل في السياسة الدولية أحد أبرز تمظهرات هذه العقدة النفسية التي أورثتها الحرب العالمية الثانية في وعي الساسة الألمان.

إن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وانقسامها إلى دولتين (الجمهورية الألمانية الفيدرالية الغربية، وجمهورية ألمانيا الديمقراطية الشرقية) وما تمخض عنها من تبعية للمعسكرين السوفييتي والغربي في الحرب الباردة عزز من "منهجية التواري" لدى القادة الألمان.

بات الدوران في فلك المحورين هي السمة الغالبة على السياسة الخارجية الألمانية. لم يشفع انتهاء الحرب الباردة وما تمخض عنها من توحيد الألمانيتَين للقادة في برلين أن يتحرروا من منهجية التواري. إذ دخلت ألمانيا الموحدة تحت العباءة الأمريكية وباتت تعتمد عليها بشكل كبير في قضايا الأمن والدفاع.

لم تستطع ألمانيا وهي الدولة الأغنى والأكبر (من حيث عدد السكان) النهوض بأوروبا مستقلة وفاعلة على السياسة الدولية. بدا ذلك واضحاً في فشلها بأول اختبار لها بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية عندما اشتعلت حرب البلقان وعجزت أوروبا عن إطفاء الحرائق بالقرب من حدودها الشرقية إلى أن تدخلت الولايات المتحدة (عبر الناتو) وأجبرت صربيا على وقف إطلاق النار.

تعاطت ألمانيا على مدار عشرات السنوات مع فكرة الاستقلال الأوروبي خصوصاً في المواضع الدفاعية والاستراتيجية عن الولايات المتحدة والناتو بحذر على عكس فرنسا التي كانت الصوت الأعلى أوروبياً فيما يتعلق بضرورة أن تشق أوروبا لنفسها طريقاً ثالثاً.

كانت فرنسا على الدوام تشعر بالانزعاج من تبعية أوروبا الأمنية للناتو الذي تعبره في الأساس نادياً أمريكياً. انسحبت فرنسا ذات مرة من الحلف إبان حكم شارل ديغول، وباتت تعرف سياستها بالكراسي الشاغرة، كما اقترحت عديداً من المبادرات لتعزيز استقلال أوروبا من الناحية الاستراتيجية والدفاعية مثل سياسة "التعاون الدفاعي المشترك" والتي شملت مبادرات مثل التعاون المنظم الدائم (PESCO) ومبادرة التدخل الأوروبية (EI2). هدفت فرنسا من خلال هذه المبادرات إلى تعزيز القدرات العسكرية والتعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

بعبارة أخرى، على الرغم من تعاون ألمانيا مع فرنسا في العديد من المبادرات، مثل تطوير التعاون المنظم الدائم (PESCO)، وصندوق الدفاع الأوروبي (EDF)، والمشاريع العسكرية المشتركة مثل نظام Future Combat Air System، فإن نهج ألمانيا بالتعامل مع فكرة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي كان ولا يزال أكثر حذراً. وبدلاً من المجاهرة الصريحة، حافظت على سياسة التواري في الخلف.

يمكن القول إن ألمانيا بدأت تستيقظ رويداً رويداً على كابوس الاعتماد الكلي على طرف ثالث فيما يتعلق بقضايا الأمن الدفاع. فمع مجيء ترمب إلى سدة الحكم في واشنطن، بدأت ألمانيا لأول مرة تستشعر الخطر، لأول مرة يخرج عليها رئيس أمريكي يشكك في الناتو، ويعتبره كياناً عفا عليه الزمن، ويدعو الأعضاء بشكل خشن إلى زيادة ميزانيات الدفاع لديهم.

وصل الأمر بالرئيس ترمب أن يشكك حتى في المادة الخامسة من الحلف التي تنص على أن اعتداء على أي عضو من أعضاء الحلف يمثل اعتداءً على أعضاء الحلف كافة. وهو الأمر الذي نشر الذعر بين أعضاء الحلف خصوصاً أولئك الذين يحاذون روسيا جغرافيّاً. فبعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم 2014، أصبحت هذه الدول تنظر إلى التهديد الروسي على محمل الجد. ولعدم قدرتها على حماية نفسها، كان الناتو لها قضية حياة أو موت.

شكلت الحرب الأوكرانية دافعاً قوياً لدى عديد من القادة الأوروبيين لتحدي التابوهات السابقة فيما يتعلق بفكرة الاستقلال الأوروبي. سارعت من السويد وفنلندا إلى التخلي عن سياسة الحياد وطلبتا رسمياً الانضمام إلى الناتو. حاولت ألمانيا أن تتجاوز عقدة "سياسة التواري إلى الخلف" وذلك من خلال خطابها الداعي إلى دور أكثر فاعلية في دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا.

في أواخر فبراير 2022، وقف المستشار الألماني أولاف شولتز أمام برلمان بلاده وأعلن أن ألمانيا ستقدم على نقطة تحول تاريخية. وفق شولتز فإن الحرب في أوكرانيا فرضت على برلين إعادة التفكير في دورها على المسرح العالمي وخصوصاً تجاه استخدام القوة، وهو الاستخدام الذي عانى من تراجع كبير، للشعور بالذنب المتجذر بسبب ماضيها النازي.

وعد شولتز باستثمارات جديدة في الجيش الذي يعاني من نقص مزمن في التمويل، داعياً إلى تعزيز قدراته بالطائرات الحديثة والسفن، والجنود المجهزين بأفضل العتاد والقدرة على الانتشار. في نهاية كلمته شدد شولتز على أن تصبح ألمانيا وهي القوة الاقتصادية المهيمنة في أوروبا لفترة طويلة، قوة جيوسياسية حقيقية.

ولكن بعد مرور ما يقرب من عام ونصف على الحرب في أوكرانيا، يبدو أن وعود شولتز لا تزال تراوح مكانها، وأن ألمانيا لم تستطع إلى الآن التحرر من الذنب النازي وعقيدة التواري إلى الخلف. فبالرغم من خطابها القوة تجاه دعم أوكرانيا، تلكأت برلين كثيراً فيما يتعلق بتزويد كييف بالدبابات الهجومية من طراز ليوبارد. جاءت موافقتها بعد ذلك فقط بسبب أن الولايات المتحدة تعهدت من جانبها بدعم أوكرانيا بسلاح الدبابات من طراز أبرامز.

على الصعيد ذاته، كان شولتز تعهد بإنشاء صندوق خاص بقيمة 100 مليار دولار مخصص لتحديث الجيش الألماني. لكن عندما قدمت إيفا هوغل، وهي المفوضة البرلمانية للقوات المسلحة، التقرير السنوي للجنة لعام 2022 في منتصف مارس/آذار 2013، أكدت إنه لم يصل في الواقع قرش واحد من الأموال إلى الجنود الألمان. بالأخير وصل فقط ثلث المبلغ المخصص للقوات المسلحة، وهي أموال سوف تُصرف فقط عند تلبية طلبات شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35 وطائرات مروحية من طراز Chinook، الأمر الذي سيستغرق بعض الوقت. وهو الوقت الذي لا يصب في مصلحة ألمانيا، للحقائق الجيوسياسية التي باتت تتشكل على الصعيد الدولي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي