تابعنا
تضمّن الملف المقدم إلى المحكمة طلباً لاتخاذ تدابير مؤقتة و"أوامر عاجلة" ملزمة لإسرائيل من أجل حماية الشعب الفلسطيني

بدأت التداعيات الدولية للحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة تشق طريقها إلى مسارات جديدة تضع إسرائيل ودول العالم -خصوصاً الغربي- في موقف أخلاقي وقانوني غير مريح، بعد أن رفعت جمهورية جنوب إفريقيا طلباً أمام محكمة العدل الدولية لإقامة دعوى ضد إسرائيل تتهمها فيها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

وأشارت في طلب الدعوى المكونة من 84 صفحة إلى أن إسرائيل تنخرط وتخاطر بمزيدٍ من التورط في مزيدٍ من أعمال الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، كما أنها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول بصورة خاصة فشلت أيضاً في منع الإبادة الجماعية أو مقاضاة المحضرين المباشرين على الإبادة الجماعية.

تضمّن الملف المقدم إلى المحكمة طلباً لاتخاذ تدابير مؤقتة و"أوامر عاجلة" ملزمة لإسرائيل من أجل حماية الشعب الفلسطيني في مواجهة مزيدٍ من الأضرار الجسيمة وغير القابلة للإصلاح بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

وتتضمن التدابير التي تسعى جنوب إفريقيا إلى استصدارها من المحكمة الوقف الفوري لعمليات إسرائيل العسكرية التي تنتهك الاتفاقية المذكورة، وذلك بأن تأمر المحكمة دولة الاحتلال بـ"الكف عن القتل والتسبب في أذى عقلي وجسدي خطير للشعب الفلسطيني في غزة، والكف عن فرض ظروف معيشية متعمدة تهدف إلى تدميرهم جسدياً كجماعة، ومنع التحريض العلني على الإبادة الجماعية وإلغاء السياسات والممارسات ذات الصلة، بما في ذلك ما يرتبط بتقييد المساعدات وإصدار توجيهات الإخلاء للسكان".

الدعوى في إطارها القانوني

تشير جنوب إفريقيا إلى حقها في رفع الدعوى ضد إسرائيل من جهة وإلى ولاية محكمة العدل الدولية في نظر الدعوى من جهة أخرى، وذلك استناداً إلى سابقة لدى المحكمة في القضية التي رفعتها غامبيا نيابةً عن دول منظمة المؤتمر الإسلامي ضد ميانمار بشأن الجرائم المرتكبة ضد أقلية الروهنجيا، التي أكدت فيها المحكمة أحقية أي دولة طرف في اتفاقية الإبادة الجماعية وليست الدولة المتضررة بشكل خاص في أن تحتج بمسؤولية دولة طرف أخرى بشأن فشلها في الامتثال للاتفاقية.

تستند الدعوى إلى حقيقة أن كلاً من جنوب إفريقيا وإسرائيل عضو في الأمم المتحدة، واستناداً إلى ميثاق المنظمة الأممية فإنهما طرفان في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، الذي أسست عليه جنوب إفريقيا دعواها باختصاص المحكمة في جميع المسائل المحالة من الأطراف، بما فيها المعاهدات والاتفاقيات النافذة (مادة ٣٦/١).

وكذلك استناداً إلى ما تنص عليه اتفاقية الإبادة الجماعية من اختصاص المحكمة في النزاعات التي تعرض عليها من أطراف الاتفاقية بشأن تفسير أو تطبيق الاتفاقية، "بما فيها النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية" (المادة ٩)، فيما البلدان طرفان في الاتفاقية، إذ أودعت إسرائيل صك التصديق على الاتفاقية عام 1950، فيما أودعت جنوب إفريقيا صك تصديقها في عام 1998.

وبالنسبة إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي أقرّت في عام 1948، فقد عرّفت جريمة الإبادة الجماعية بأنها القيام بجملة من الأفعال بقصد تدمير، كلياً أو جزئياً، جماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، ومن تلك الأفعال القتل العمد لأفراد الجماعة أو إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بهم أو إخضاعهم بشكل متعمّد لظروف معيشية يُراد بها تدميرهم المادي كلياً أو جزئياً، وتنص الاتفاقية على اعتبار الإبادة الجماعية جريمة يعاقب مرتكبها والمشاركون بها والمحرضون عليها والمتآمرون على ارتكابها.

لقد ركّز طلب جنوب إفريقيا أيضاً على الطلب من المحكمة أن تصدر بشكل عاجل أوامر مؤقتة يفترض أنها ملزمة قانوناً لإسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية ضدّ غزة فوراً، وذلك استناداً إلى النظام الأساسي للمحكمة وكذلك لائحة المحكمة التي منحت طلب اتخاذ التدابير المؤقتة أولوية على جميع القضايا الأخرى لدى المحكمة.

وفي هذا الصدد فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي ستكون ملزمة من الناحية النظرية بوقف كل الأعمال العسكرية ضدّ قطاع غزة حال صدر قرار بذلك، وبموجب النظام الأساسي للمحكمة فإن مجلس الأمن سيتلقى نسخة عن قرار المحكمة بشأن أي تدابير مؤقتة، وهو ما يعني أن للمجلس مهمة قادمة في الضغط تجاه إنفاذ قرار المحكمة حال لم تلتزمه إسرائيل، فيما أن المفترض أن تستمر تلك التدابير التي أقرتها المحكمة خلال السير في الدعوى، بمعنى أن إسرائيل لا يمكنها التنصل لاحقاً من الوفاء بقرار المحكمة مع استمرار النظر في القضية ما لم تحصل على قرار مماثل -احتمالات صدوره صفرية- من المحكمة بإلغاء قرار التدابير المؤقتة.

العريضة المقدمة من جنوب إفريقيا وإنْ كانت قد ركزت على اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول فإنها أشارت إلى السياق التاريخي الذي عانى فيه الفلسطينيون من مظاهر الإبادة الجماعية على مدار عقود طويلة من الاحتلال.

وأشارت إلى وقائع تاريخية بشأن الانتهاكات العديدة للقانون الدولي الإنساني ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فيما عزز الطلب الأدلة بشأن ارتكاب جريمة إبادة جماعية خلال العدوان الجاري على قطاع غزة بجملة من الأرقام والإحصائيات، مثل الإشارة إلى وجود أكثر من 21 ألف شهيد و55 ألف مصاب، وتدمير 65% من المنازل في غزة، ونزوح قرابة مليونَي فلسطيني يمثلون 85% من سكان القطاع، وغيرها من الأرقام التي أكدتها منظمات دولية مختلفة.

الدعوى في إطارها السياسي

تحمل الدعوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا أهمية سياسية كبيرة، وذلك لجملة من الأسباب:

أولاً: تتزامن الدعوى مع اتساع رقعة الإدانة الدولية لإسرائيل خلال السنوات الأخيرة على خلفية استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية من جهة، والإجراءات القمعية التي تنتهك حقوق الفلسطينيين على مدار سنوات طويلة، التي وصلت إلى حد اتهام منظمات حقوقية مختلفة إسرائيل بممارسة جريمة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين.

وتعالت الأصوات المنتقدة لإسرائيل داخل مؤسسات الأمم المختلفة، كان أبرزها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022، الذي طلب من محكمة العدل الدولية إصدار فتوى "بشأن التبعات القانونية لانتهاكات إسرائيل المستمرة لحق الفلسطينيين بتقرير المصير واحتلالها طويل الأمد للأراضي الفلسطينية، واستيطانها وضمها إليها، وسياساتها التمييزية بهذا الشأن، وكيف تؤثر تلك السياسات في الوضع القانوني للاحتلال الإسرائيلي، وما الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة إلى جميع الدول والأمم المتحدة؟"، إذ أعلنت المحكمة أنها ستعقد أولى جلسات الاستماع العلني بشأن طلب الفتوى في 19 فبراير/شباط المقبل.

ثانياً: كان مصطلح "الإبادة الجماعية" قد صيغ للمرة الأولى في إطار توصيف سياسات النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً المحرقة اليهودية التي أسهمت لاحقاً في وجود دعم دولي قوي لاتفاقية منع الإبادة الجماعية التي عملت إسرائيل على الترويج لها أيضاً، وبالتالي فإن اتهام تل أبيب رسمياً من قبل المحكمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين يعني اتهامها بنفس الجريمة التي تعرض لها اليهود خلال الحكم النازي.

ثالثاً: إن إدانة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين سيرتب عواقب واسعة النطاق على إسرائيل، إذ قد تواجه إسرائيل عزلة دولية، كما قد يدفع ذلك الاتهام المجتمع الدولي لتعزيز ضغوطه من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وفقاً للقرارات الدولية ذات الصلة، فضلاً عن احتمالية تعرض إسرائيل لسلسلة من التدابير العقابية، مثل المقاطعة الاقتصادية وتحديد سقف التعاون السياسي والثقافي والعسكري مع العديد من دول العالم، وغيرها من التداعيات الكبيرة.

رابعاً: اتهام محكمة العدل الدولية لإسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية قد يرتب تداعيات على دول الغرب المؤيد لإسرائيل وخصوصاً أمريكا، ذلك أن الدعم العسكري والاستخباري وكذلك الغطاء السياسي الذي وفرته دول غربية وعلى رأسها أمريكا قد يفسر على أنه تآمر على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.

كما أن دعم تلك الدول للجريمة المرتكبة ضد السكان في قطاع غزة سيعتبر فشلاً لها في الامتثال لمسؤولياتها المتعلقة بمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بموجب الاتفاقية، وعليه فإن حكم محكمة العدل الدولية إذا أدان إسرائيل رسمياً فسيحمل إدانة، سواء ضمنية أو مباشرة، لحلفاء إسرائيل الذين ساعدوها سياسياً وعسكرياً في ارتكاب الجريمة.

خامساً: في حال صدور اتهام رسمي من قبل محكمة العدل الدولية فإن فرص الضغط تجاه محاكمة شخصيات سياسية وعسكرية إسرائيلية أمام المحكمة الجنائية الدولية ستكون مرتفعة، كما ستمهّد الإدانة أمام محاسبة تلك الشخصيات أمام محاكم دول ذات اختصاص قضائي دولي.

سير الدعوى خلال المرحلة القادمة

كانت الخطوة الأولى من قِبل المحكمة هي عقدها خلال يومي 11 و 12 يناير/كانون الثاني الجاري جلسات استماع علنية بشأن طلب جنوب إفريقيا من المحكمة إصدار تدابير مؤقتة تقضي بوقف العملية العسكرية الإسرائيلية بشكل فوري.

وفي هذا السياق من المتوقع أن تصدر المحكمة قرارها بهذا الشأن في غضون أسابيع قليلة، وعلى سبيل المثال في الدعوى رفعتها غامبيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، ممثلة عن دول منظمة المؤتمر الإسلامي ضدّ ميانمار، أصدرت المحكمة في يناير/كانون الثاني 2020، بعد شهرين ونصف من رفع الدعوى وشهر تقريباً من جلسة الاستماع، قرارها بتوجيه ميانمار إلى اتخاذ الإجراءات لمنع جميع أعمال الإبادة الجماعية وأن تضمن عدم قيام جيشها بارتكاب أي أعمال إبادة.

وفي دعوى أخرى تقدمت بها أوكرانيا ضد روسيا بشأن غزو أراضيها، وفيها أصدرت المحكمة خلال أقل من ثلاثة أسابيع قرارها الذي طلب من روسيا أن تعلق على الفور جميع عملياتها العسكرية في أوكرانيا الذي بدأ في فبراير/شباط 2022، وهي ذات المدة تقريباً التي استغرقتها المحكمة في إصدار أمر بشأن التدابير المؤقتة في الدعوى التي رفعتها البوسنة والهرسك ضد يوغسلافيا في عام 1993.

تباين شكل الاستجابة لأوامر المحكمة من قِبل الدول المعنية في السوابق المذكورة، ففي حين امتثلت كل من يوغسلافيا وميانمار للقرارات ذات الصلة الصادرة عن المحكمة، فإنّ الواقع كان مغايراً بالنسبة إلى روسيا التي واصلت عمليتها العسكرية بعيداً عن قرار المحكمة.

وببنما فشل مجلس الأمن في إلزام موسكو بالامتثال لقرار وقف عمليتها العسكرية في أوكرانياً، فإنّ فشلاً آخر متوقع للمجلس حال رفضت إسرائيل هي الأخرى الاستجابة لأي أوامر ستصدر عن المحكمة، وفي هذه الحالة قد تجد أمريكا نفسها في مواجهة جديدة وحرجة حال جرى اقتراح مشروع قرار بإلزام إسرائيل وقف الحرب تنفيذاً لأمر المحكمة، لأنها لن تستطيع الاحتجاج أو التشكيك في نزاهة المحكمة وقضاتها.

في حال قبلت المحكمة الدعوى، فمن المتوقع أن يستغرق الفصل فيها سنوات طويلة، وقد سبق أن استغرقت الدعوى التي رفعتها البوسنة والهرسك ضد يوغسلافيا الاتحادية بشأن الانتهاكات لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية قرابة 14 عاماً، ما بين عامَي 1993 و2007، إذ توصلت المحكمة إلى ارتكاب يوغسلافيا جرائم إبادة جماعية في سربنيتشا، في حين ما زالت تنظر المحكمة في الدعاوى ضد ميانمار وروسيا.

وعلى أية حال فإن القضية تضفي المصداقية على الاتهامات المتصاعدة لإسرائيل بارتكاب انتهاكات على نطاق واسع للقانون الدولي ضد الفلسطينيين، ومن المحتمل أن تؤدي إدانة إسرائيل بالفعل إلى قضم مزيدٍ من شرعية إسرائيل المتآكلة بالفعل خلال السنوات الماضية، ونسفاً لسردية المظلومية القائمة مأساة الهولوكوست التي استخدمتها إسرائيل في قمع أي انتقادات لجرائمها ضد الفلسطينيين.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً