تابعنا
تعيش الجزائر الآن ثورة استقلالٍ جديدةٍ على غرار ثورتها التاريخية المجيدة سوف تُحدّد نتائجها مستقبل هذا البلد، كما سوف تُحدّد في المقابل مستقبل النفوذ الفرنسي في الجزائر بل وفي عالم فرنسا الاستعماري المتخيّل القديم.

ومن أهم أهداف الحراك الجزائري المليوني بناء جزائر قويّةٍ حُرّة القرار مستقلة الإرادة عن المُستعمر القديم، الأمر الذّي يجعلنا نؤكّد هنا أنّ فرنسا ستبذل كلّ شيء لأجل إفشال حراك الجزائر القائم وحَرفِه عن غاياته الكبرى، والأسباب كثيرة.

من المتعارف عليه في الأدبيات السياسية الدولية أنّ أحد أبرز ملامح العالم الجديد المتشكّل بعد الحرب العالمية الثانية كانت انتهاء حقبة الاستعمار القديم وقواه الإمبراطورية التقليدية فرنسا وبريطانيا وبداية حقبةٍ جديدةٍ لعالمٍ جديدٍ ذي مفاهيم وموازين مختلفة.

إلا أنّه وبمراجعة بسيطة لهذه المقولة السائدة سوف يتأكد لنا أنّ هذه "القوى التقليدية المنتهية" لم تتوقف منذ تلك الفترة يوماً عن التعامل مع العالم الجديد بمنطقٍ استعماري قديم محض، بخاصّة فرنسا التّي لا تزال تعيش "نوستالجيا مستعمراتها الفرنكوفونية الواسعة" وتتصرّف تجاه الدول المتحرّرة عنها بمنطق عالمها الاستعماري القديم.

سوف تبذل فرنسا كلّ ما في وسعها لإفشال الغايات الكبرى لحراك الجزائر سواء من الداخل أو على مقربة من حدودها كما تفعل الآن في ليبيا بدعم حفتر .

جلال خشيب

طبعاً سوف يبدو ذلك واضحاً حينما يتعلّق الأمر بالجزائر، تاج مستعمراتها القديمة، بل آخر قلاع عالمها القديم المتلاشي في نظرنا، لذا ولأسباب كثيرة فإن المرحلة القادمة التي ستعيشها الجزائر ستكون من أكثر مراحلها التاريخية صعوبةً وحسماً لأنّ نتائجها ستكون ذات أثرٍ مباشرٍ على تاريخ فرنسا، وحاضرها ومستقبلها الحرج.

يُعطينا التاريخ ملامح كبرى لحرص فرنسا على "قلعة الجزائر" مُحصّنةً، إنّها تُمثّل منارةً مُجدِّدةً لعالمها الاستعماري الفرنكوفوني القديم، لقد اضطرت فرنسا تحت وطأت آثار الحرب العالمية الثانية إلى التخلّي عن أكثر من 15 مستعمرة عبر العالم شهدت حركاتٍ تحرّرية شديدة على غرار فيتنام، والكاميرون، والكونغو، بل حتّى تونس والمغرب، إلا أنّها لم تتخلّ عن الجزائر.

ويعزو كثير من المؤرخين تخلّيها عن كثيرٍ من هذه المستعمرات سنة 1960 إلى إصرار فرنسا على التفرّغ لإنهاء الثورة الجزائرية المشتعلة على أشدّها آنذاك نظراً إلى أهميّة الجزائر في المخيال الجيوبوليتيكي الفرنسي. وكأن التاريخ يعيد نفسه اليوم ويضع فرنسا في مواجهة قدرها المحتوم "تُصارع لأجل إنقاذ" آخر بقايا نفوذها التقليدي في العالم، الجزائر.

إنّ نجاح حراك الجزائر سوف يعيد كتابة تاريخ العلاقات الفرنسية-الجزائرية من جديد، بل تاريخ فرنسا بعالمها القديم، سوف تتزايد الضغوط على فرنسا للاعتراف بجرائمها الشنيعة في الجزائر طيلة قرنٍ ونيفٍ من الزمن، يجرّ الاعتراف تبعاتٍ مادية على اقتصادها على شكل تعويضات، كذلك من شأنه أن يُؤثّر سلباً على قوة فرنسا الناعمة، من حيث صورتها العالمية المبنية على قيم عهد أنوارها المشرق.

على المستوى الثقافي، سوف يؤدّي نجاح حراك الجزائر الشبابي إلى سقوط قلعة الفرنكوفونية العظمى لفرنسا في العالم، أي الجزائر، فشباب الحراك المنفتح على العالم الجديد بثقافاته ولغاته المتعدّدة ما عاد يجد في اللغة والثقافة الفرنسية وحدها تعبيراً عن طموحاته العالمية، لقد تسبّبت آثار العولمة والفضاءات المفتوحة بإعلامها البديل في صعود جيلٍ جديدٍ يختلف في ثقافته عن جيل الآباء والأجداد الذين كانت فرنسا بوابتهم الأولى والأساسية نحو العالم.

على المستوى الجيوستراتيجي، سوف يُنهي نجاح حراك الجزائر آخر ما تبقى من نفوذ فرنسا المتهاوي أصلاً في الجزائر وشمال إفريقيا التّي صارت ورشةً مفتوحةً لمشاريع الصين الاقتصادية ونفوذ روسيا العسكري، لا سيما في الجزائر، لقد تجاوزت الصين فرنسا باستثمارها في الجزائر سنة 2014 كأول مستثمرٍ ومتعاملٍ اقتصادي.

إنّ نجاح حراك الجزائر سوف يعيد كتابة تاريخ العلاقات الفرنسية-الجزائرية من جديد بل تاريخ فرنسا بعالمها القديم.

جلال خشيب

فضلاً عن أنّ الجزائر تستضيف أكبر جالية عمّالٍ صينية في أفريقيا، أي 50 ألف عاملٍ، كما لا ننسى أنّ البنية التحتية الجزائرية من طرقٍ ومنشآتٍ صارت أغلبها صينية الصنع، في حين تحتكر الجزائر وحدها 52% من مبيعات السلاح الروسي لأفريقيا ويُعد 75% من السلاح الجزائري سلاحاً روسياً محضاً، بل حتى قطاعات الغاز والنفط صارت حصص فرنسا منها مُهدّدةً تماماً مع تنامي العلاقات الجزائرية-الصينية من جهة، والجزائرية-الأمريكية من جهةٍ أخرى خلال العقدين الأخيرين.

وإنّ تمكّن الحراك من بلوغ غاياته الكبرى من شأنه أن يؤسّس لنظامٍ سياسيٍّ قويٍّ يُباشر إصلاحاتٍ بنيوية عميقة في الاقتصاد والمجتمع، ينتهي بالجزائر قوةً إقليميةً حقيقيةً في شمال إفريقيا وغرب المتوسط، بل ومن شأن نظامٍ كهذا أن يُوسّع آفاق التأثير الخارجي للجزائر عسكرياً، واقتصادياً وثقافياً لتشمل كامل الإقليم.

وربما يؤدّي نجاح الحراك إلى تحرير "شعوب المستعمرات القديمة" من آخر ما تبقى من نفوذٍ تقليديٍّ لفرنسا هناك، وسوف تجد الجزائر نفسها في مقدّمة دولٍ متحرّرةٍ تحتاج إلى قيادةٍ إقليميةٍ يُمكن للجزائر أن تضطلع بها كما فعلت من قبلُ بعد الاستقلال، حينما كانت تُسمّى بمكة ثوّار العالم.

لقد حرصت فرنسا دوماً أن تكون الجزائر على الضفة الجنوبية للمتوسط كلتةً جيوبوليتيكيةً عازلةً لكل أشكال المخاطر والتهديدات القادمة من الجنوب والمهدّدة لأمنها القومي وأمن حلفائها الأوروبيين، لذا فقد حرصت على الاستقرار الأمني للجزائر من أيّ اضطرابات أو فوضى تُفقدها هذا الدور العازل وتحوّل أوروبا إلى جحيمٍ وذلك عبر دعم رجالها في النظام السياسي الجزائري، لكن مع الحرص في المقابل على ألا يتحوّل هذا الاستقرار الأمني إلى استقرارٍ اقتصاديٍ أو ازدهارٍ ورفاهٍ اجتماعيٍّ من شأنه أن ينقل الجزائر من الخضوع إلى التأثير ومن السيادة المنقوصة إلى الإرادة الحرّة واستقلالية القرار.

شباب الحراك المنفتح على العالم الجديد بثقافاته ولغاته المتعدّدة ما عاد يجد في اللغة والثقافة الفرنسية وحدها تعبيراً عن طموحاته العالمية.

جلال خشيب

إلا أنّ فرنسا اليوم تفشل بسبب فقدان نفوذ رجالاتها في الجزائر بدءاً بإبعاد العسكر للرئيس بوتفليقة عبر الاستقالة ثمّ تحذير القيادة العسكرية الأخير شديد اللهجة لأحد أكثر رموز النظام القديم تأثيراً الجنرال توفيق والذي عدته فيما سبق بمثابة الخطة ب بالنسبة لفرنسا لأجل إدامة تأثيرها في الجزائر في حال سقوط رموز مؤسّسة الرئاسة خطتّها أ، وقد سقطوا.

أخيراً، فإنّ نجاح الحراك وقيام نظام قويّ ينشئ دولةً قويةً سوف يعني تطوير الجزائر لآلياتٍ جديدةٍ تُمكّنها مستقبلاً من التأثير في جاليتها الضخمة في عقر الديار الفرنسية ذاتها، إذ يوجد هناك أكثر من 7 ملايين جزائري بإمكانهم أن يتحوّلوا مستقبلاً إلى أداةٍ سياسيةٍ مؤثرةً جدّاً على السياستيْن الداخلية والخارجية الفرنسية، بشكلٍ قد يقلب ميزان القوى التقليدي بين البلدين بشكلٍ جذريٍّ لصالح الجزائر.

لأسباب كهذه وأكثر، سوف تبذل فرنسا كلّ ما في وسعها لإفشال الغايات الكبرى لحراك الجزائر سواء من الداخل أو على مقربة من حدودها كما تفعل الآن في ليبيا بدعم مغامرات اللواء حفتر اللا عقلانية أو في مالي والنيجر جنوب الجزائر بالتعاون مع الإسرائيليين واللعب على ورقة الإثنيات المتوزعة هناك والمتداخلة مع الجزائر.

فضلاً عن تحريكها لورقة الجماعات الإرهابية عبر الساحل الصحراوي أو حتّى إمكانية استثمارها في نقاط الاختلاف بين الجزائر والمغرب ودعم الأخير في قضية الصحراء الغربية أو حتّى في بعض طموحاته الإقليمية الأخرى على حساب الجزائر.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي