تابعنا
هبط المشهد السياسي البريطاني إلى دركات الحضيض في توقيت حرج للغاية. تتعثّر الأطراف المتنازعة في لندن في شوطها الإضافي الممنوح فوق التوقيت المحدد للخروج من الاتحاد الأوروبي.

يوشك الوقت على النفاد مع اقتراب نهاية المهلة الثانية في آخر أكتوبر/تشرين الأول، بعد المهلة الأولى التي كانت مقررة في الربيع الماضي. التقط البريطانيون والأوروبيون أنفاسهم وقتها لكنّ المشهد ازداد تعقيداً يوماً بعد يوم.

لا عجب أن يتدهور الموقف إلى هذا الحد مع رئيس وزراء يحرص على إظهار الرعونة في تصرفاته وتعبيراته. إنه بوريس جونسون الذي يتصدّر مهندسي المأزق الراهن، فقد كان من أبرز المحرضين على الخروج من الاتحاد الأوروبي مع ترويج مبالغات عن مكاسب هذه الخطوة وأضرار البقاء في الأسرة الأوروبية. خاض جونسون وآخرون حملة "بريكسيت" بضراوة، وأسرف في نثر الوعود الحالمة التي ضلّلت الناخبين البريطانيين وحرّضت بعضهم على تصويت غير محسوب في الاستفتاء الذي حسمت نتيجته أقلية طفيفة للغاية مطلع صيف 2016.

استقال رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون من منصبه تحت وطأة نتائج الاستفتاء آنذاك، التي جرّت متاعب متفاقمة على حزب المحافظين. صعدت تيريزا ماي من بعده وباشرت مساعيها على شتى الجبهات، فخذلها المحافظون مرّة تلو أخرى في جولات الاقتراع البرلماني. أظهرت ماي جَلَداً مشهوداً في محاولاتها المتلاحقة ومفاوضاتها الخارجية والداخلية، إلى أن وصلت مع حزبها إلى طريق مسدود تماماً فرفعت الراية البيضاء بعد أن استنفدت الحيل، وبخروجها من المشهد وقعت حبّة الكستناء الملتهبة في يدَي جونسون.

كانت مفاوضات ماي الشاقة مع27 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي بشأن ترتيبات "بريكست" أهون عليها من التفاهم مع حزبها ونوابه المنقسمين على أنفسهم، فضلاً عن حلفائها في الحكومة، علاوة على المعارضة المترصدة لها بالأحرى.

بعد استفتاء "بريكست" قالت لندن إنها مصممة على الخروج من أوروبا التزاماً لقرار الشعب، لكنّ القيادة البريطانية واصلت البحث عن سلسلة المفاتيح اللازمة لأبواب الانعتاق دون أن تعثر عليها.

صعد بوريس جونسون، الذي يستهويه التصرّف في هيئة شخص متهوِّر لا يكترث بالنقد الموجّه ضده، كأنه يكتفي بالثناء المتكرر الذي يجود به عليه أحدهم على الجانب الآخر من الأطلسي. يواصل دونالد ترمب من بيته الأبيض كيل المديح لصديقه القابع في 10 دواننغ ستريت، فأفصح من قبل عن رأيه بأنّ جونسون هو الأجدر بقيادة بريطانيا، ثم واصل تصريحاته وتغريداته على هذا المنوال، وقال في ذروة أزمة جونسون مع مجلس العموم إنّ صديقه هذا سيعرف كيف يتجاوز المأزق بنجاح.

لكنّ بوريس جونسون لا يدفع ثمن موقف مفروض عليه، فهو ضالع في منشأ مأزق "بريكست" منذ التدحرج إلى الاستفتاء الشعبي غير المدروس عليه، ثم تعقيد الموقف التفاوضي الداخلي بعد ذلك بتأثير منه أحياناً.

شارك جونسون في إضعاف رئيسة الوزراء السابقة وساهم في عرقلة مساعيها للخروج من أوروبا باتفاق متوازن نسبياً مع بروكسيل. ولمّا آل إليه الأمر في رئاسة الحكومة تجاهل الأعراف الديمقراطية وباشر مغامرة أخرى غير محسوبة العواقب بالدفع باتجاه الخروج من الاتحاد دون اتفاق، أو "نو ديل بريكست"، فهي وصفته المُثلَى أساساً.

لجأ رئيس الوزراء إلى حيلة من شأنها تحييد البرلمان، فدفع إلى تعليق عمله حتى منتصف أكتوبر/تشرين الأول، وقدّم لتمرير هذه السابقة طلباً للملكة إليزابيث بهذا الشأن فتجاوبت معه. كانت إهانة جسيمة للحياة الديمقراطية في بريطانيا، مع عواقب متدحرجة تزيد الموقف تعقيداً على جونسون وتُفاقِم غموض الموقف في ملف "بريكست".

ما جرى أنّ مجلس العموم تداعى إلى إحباط حيلة جونسون الرامية إلى تحييده، فالتأم في الأسبوع الأول من سبتمبر/أيلول قُبيل دخوله في مدة تعليق أعماله، وأصدر قراراً مزلزِلاً لخطط رئيس الوزراء. صوّتت أغلبية النواب على مشروع قانون يمنع الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق في نهاية أكتوبر/تشرين الأول، ويُلزِم أن يطلب من أوروبا تأجيل الخروج في هذه الحالة حتى نهاية كانون الثاني/يناير 2020. انضمّ واحد وعشرون من النواب المحافظين إلى هذا الموقف أيضاً في مشهد يعكس أزمة متفاقمة في بيتهم الحزبي.

دفع جونسون بورقته الثانية التي ادّخرها لهذا الموقف تحديداً، وهي إجراء انتخابات مبكّرة، لكنه لم يربح أغلبية داعمة في مجلس العموم، فتَجرَّع رئيس الحكومة هزيمته الثانية في سويعات معدودة.

يبقى جونسون بالتالي مع ورطته الجسيمة التي اصطنعها لنفسه من حيث لم يحتسب، وهو ما تأكد الجمعة 6 سبتمبر/أيلول بتصديق مجلس اللوردات على مشروع قانون منع الخروج من الاتحاد دون اتفاق.

نسج بوريس جونسون شباك الأزمة المعقدة حول نفسه عندما راهن على خيار أحادي هو الانفصال عن أوروبا دون اتفاق، وصار عليه الآن أن يخرج من المشهد أو أن يتواضع لخيارات بديلة يسأمها ستضطره إلى التفاوض مع مجلس العموم، ومن بعدهم الأوروبيون الذين تجاهلهم حتى الآن وعمد مسبقاً إلى تحميلهم المسؤولية عن صعوبات تنفيذ "بريكست" وكلفة الخروج بلا اتفاق.

يتحمّل جونسون مسؤولية جوهرية عن تعقيد الموقف، بخاصة بعد أن عمد إلى استصدار قرار تعليق عمل البرلمان على أمل الاستفراد بالوجهة وتزجية الوقت حتى يحلّ موعد الخروج من تلقائه دون إبرام اتفاق مع أوروبا. كان جونسون يأمل بهذا أن يقع الانفصال الأهوج على النحو الذي كرّس جهود حكومته للاستعداد لهواجسه التي قد يستحيل بعضها واقعاً مخيفاً.

يشبه هذا الانفصال غير المحسوب فصل توأمين سياميين ملتصقين بالاستعانة بجزّار، عوض طرق باب العيادة الجراحية في الطابق العلوي. إنه انفصال محفوف بمفاجآت شاقّة وقد يجرّ خسائر جسيمة على بريطانيا وشركائها الأوروبيين، مع تقديرات بإرباك قطاعات حيوية معيّنة جرّاءه. لكنّ جونسون بدا واثقاً من أنّ انفصالاً كهذا يبقى الخيار الأمثل، وهو ما يباركه ترمب على ما يبدو، الذي يوحي بأنه الأب الروحي لرئيس الوزراء البريطاني. لا يرغب الرئيس الأمريكي في أن تنجز لندن اتفاقات مدروسة مع أوروبا الموحدة، فسيد البيت الأبيض يريد التعامل مع شركاء أوروبيين متفرِّقين واحداً واحداً بدل أن يراهم مجتمعين على موقف متماسك في وجه إملاءاته الاقتصادية وحروبه التجارية واستفزازاته اللفظية والسلوكية المتكررة.

إنّ اصطفاف واحد وعشرين نائباً محافظاً مع العمال في التصويت برفض الخروج دون اتفاق، هو نتيجة متوقعة لتجاهل جونسون تقاليد الحياة البرلمانية وإغفاله أهمية إبرام تفاهمات داخلية في حزبه، ولعله يعلم أنها غير ممكنة أساساً. لهذا التصويت المناوئ ثمن سياسي يدركه النواب "المتمردون"، فقيادة الحزب ستستبعدهم من قوائمها الانتخابية في حال التوجّه إلى انتخابات مبكرة. هكذا جاءت الهزيمة الثانية لجونسون محتومة، فلا أغلبية داعمة لمقترح الانتخابات السابقة لموعدها لأنها ستقضي بإخراج المحافظين المتمردين من البرلمان بلا رجعة. أمّا العمال بزعامة جيرمي كوربن، الذين نادوا حتى وقت قريب بانتخابات مبكرة فقد تراجعوا عن ذلك، بما أبقى جونسون يتجرّع عواقب رهاناته.

هكذا نسج جونسون الشباك حول ذاته وفاقم الموقف البريطاني تعقيداً وغموضاً. تتّسع احتمالات اللحظة السياسية الحرجة في لندن) بما لا يستثني احتمال انهيار حكومة جونسون أو استقالته ليكون ثالث ضحايا "بريكست" في رئاسة الوزراء، إن لم يتمكّن من اجتيار عنق الزجاجة كما يأمل ملهمه ترمب.

في كل الأحوال سيخسر رئيس الوزراء وقتاً ثميناً للغاية في التفاهمات الداخلية ضمن الجبهة البريطانية، لأنه استبق إلى تعليق البرلمان في توقيت حرج جدّاً بما يزيد العقدة تشابكاً، دون أن يتحسّب لصدور قرار ضد انفصال بلا اتفاق.

يسير بوريس جونسون الآن مكتوفاً في بحثه في العتمة عن سلسلة المفاتيح اللازمة لحلّ الأحجية، إن كان يسعى إلى ذلك حقّاً. لكنّ جونسون خسر في الواقع زمام الموقف الذي انتزعه منه مجلس العموم بحركة التفافية، وخسر جونسون الأغلبية الداعمة له في المجلس أيضاً، ولا يُستبعَد أن يخسر حزبه المحافظ أيضاً مع الوقت.

يقف جونسون بحكومته المتعثرة على شفير هاوية بعد أن بدّد أوراقه المرحلية أو معظمها وبات مكشوفاً في الحلبة، وسيكون على البرلمان أن يبادر بالتصرّف إن بقي جونسون في موقعه معانداً، فإما إبرام تفاهم حول حلّ الأحجية المعقدة وإما الدفع باتجاه انتخابات مبكرة، كي تأتي صناديق الاقتراع بحكومة جديدة ستبدأ محاولة التملّص من عنق الزجاجة الضيِّق في أمد لن يمهلها طويلاً.

إنه ليس مأزق جونسون أو حزب المحافظين وحدهما، فالأزمة الحرجة تمسّ الحياة السياسية البريطانية ككلّ، وتعاني معها الأحزاب تصدّعات داخلية واضطراباً في الرؤية وسيولة في المواقف، وقد تضغط الحالة على شرايين الاقتصاد أيضاً، كما قد تجرّ تبعات وجودية على تماسك المملكة المتحدة ذاتها في أطوار لاحقة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

التُقطت الصورة في 25 يوليو/تموز 2019، ونشرها برلمان المملكة المتحدة، تُظهِر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون (يسار) وهو يتحدث إلى رئيس مجلس العموم جون بيركو (يمين) (AFP)
TRT عربي
الأكثر تداولاً