الكنيسة الروسية "مريم المجدلية" بالقدس (Others)
تابعنا

في خضم معركة تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية، انشغل الإعلام الإسرائيلي مع نهاية العام الماضي في تغطية حدثٍ لم ينل حظاً من الاهتمام في الإعلام العربي، حيث انتشرت أنباء تفيد عن عزم رئيس الوزراء الروسي السابق سيرغي ستيباشين، الذي خدم في منصب رئيس وزراء روسيا عام 1999، رفع قضية أمام المحاكم الإسرائيلية باسم الحكومة الروسية تطالب إسرائيل بالاعتراف بملكية روسيا لثلاث كنائس مهمة في جبل الزيتون المطل على البلدة القديمة بالقدس، ونقل ملكية هذه الكنائس للحكومة الروسية بالكامل.

والكنائس موضع الخلاف هي: كنيسة الصعود فوق جبل الزيتون، وهي كنيسة معروفة محلياً باسم (الكنيسة الروسية)، وتتميز ببرجها المرتفع الذي يعتبر الأعلى في شرقي القدس، ويمكن رؤيته من الأردن. والثانية، هي كنيسة مريم المجدلية، التي تقع خلف كنيسة الجثمانية التاريخية في وادي قدرون، وتعتبر واحدة من أيقونات مدينة القدس بقبابها البصلية المذهبة. وأما الكنيسة الثالثة فهي الكنيسة المعروفة باسم (فيري جاليلي) أي (رجال الجليل)، وتقع في منتصف جبل الزيتون من ناحية الشمال.

وهذه الكنائس تثير حالياً حساسيةً بين الحكومة الروسية والإسرائيلية، خاصة وأن المطالبة بها تأتي في بداية عودة بنيامين نتنياهو للحكم في إسرائيل.

ويبدو أن منبع الحساسية هنا يكمن في أن نتنياهو كان قد وعد الرئيس الروسي بوتين عام 2019 بتسليمه كنيسةً روسية معروفة باسم (كنيسة ألكسندر نيفسكي) التي تشكل جزءاً من ما يعرف باسم (ساحة ألكسندر) القريبة من كنيسة القيامة في قلب البلدة القديمة بالقدس، مقابل الإفراج عن سجينة إسرائيلية كانت روسيا قد قبضت عليها بتهمة حيازة مخدر الماريجوانا.

إلا أن نتنياهو في ذلك الوقت لم يفِ بتعهده لبوتين بالرغم من تسجيل ملكية أرض الساحة والكنيسة باسم الحكومة الإسرائيلية، وذلك بحجة تقديم مفوض تسجيل الأراضي الإسرائيلي اعتراضاّ لدى المحكمة.

وبالرغم من أن المحكمة الإسرائيلية قضت بأن الكنيسة والساحة تعتبر مكاناً مقدساً يحق للحكومة الإسرائيلية تقرير مصيرها حسب قانون "دولة إسرائيل"، إلا أن انشغال نتنياهو بالانتخابات أخّر المضي قدماً في مخطط تسليم تلك الكنيسة للروس.

من الواضح أن بوتين يسعى من خلال هذه العملية اليوم إلى تكثيف الضغط وتوزيع أوراق اللعبة في عدة اتجاهات، إذ لا يمكن تجاهل الحرب الروسية الأوكرانية في هذا السياق، خاصةً أن روسيا غاضبة من موقف إسرائيل الذي يبدو إلى اليوم مخادعاً وغير واضح، ففي الوقت الذي تظهر فيه إسرائيل دعمها العلني لأوكرانيا في حربها مع روسيا، فإنها تحرص على إبقاء هذا الدعم مقصوراً على الخطابات حرصاً على عدم إغضاب الروس، وفي نفس الوقت تراسل روسيا وتوحي لها بأنها لا تقف في المعسكر الغربي ضدها، ويبدو أن روسيا تطمح في أكثر من ذلك من إسرائيل، وبدا ذلك واضحاً في سلوكها مع اليهود الروس.

من ناحيةٍ أخرى، فإن تمكن روسيا من السيطرة على الكنائس الثلاثة قد يشعل الغضب البريطاني، وذلك لأن إحدى جدات ملك بريطانيا تشارلز الثالث، الأميرة أليس، أميرة مقاطعة باتنبرغ وإحدى أصغر حفيدات الملكة فيكتوريا، دفنت في كنيسة مريم المجدلية عام 1988 بناء على وصيتها. مما يجعل نقل ملكية هذه الكنيسة إلى الدولة الروسية يعتبر تجاوزاً للتاج البريطاني ومحاولةً لاحتواء نفوذه.

إضافةً إلى ذلك، فإن لكنيسة (فيري جاليلي) رمزيةً خاصة، وذلك لأنها تعتبر مقراً خاصاً لإقامة بطريرك الروم الأرثوذكس في القدس، وهذا الأمر سيزعج اليونان بالتأكيد لأنه سيضع روسيا في مقابل اليونان في تحدي السيطرة على مسيحيي الشرق من طائفة الروم الأرثوذكس، بمعنى أن روسيا تسعى من خلال السيطرة على هذه الكنيسة والكنائس الأخرى على تقديم نفسها حامية الكنيسة الأرثوذكسية وممثلها الحقيقي، وهو ما يضمن نفوذاً روسياً كبيراً في شرق أوروبا الأرثوذكسي.

من اللافت كذلك، أن سلوك روسيا فيما يتعلق بالكنائس الثلاثة قائم على فكرة أن روسيا الحالية تعتبر نفسها سياسياً وارثة روسيا القيصرية، وإذا لاحظنا أن الحجج الروسية لضم الأراضي الأوكرانية تقوم على أساس أن هذه الأراضي كانت ضمن أملاك الاتحاد السوفيتي السابق التي اكتسبها فيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنه يمكن القول إن بوتين يحاول من خلال هذه التحركات تقديم روسيا الخاصة به بصفتها إمبراطوريةً عظمى وارثةً لكلا الإمبراطوريتين: روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي، مع كل ما بين الإمبراطوريتين من تناقض فيما يتعلق بالدين والأدبيات الفكرية والسياسية. فبوتين يقدم اليوم روسيا جديدةً تعتبر نفسها حامية الكنيسة الأرثوذكسية والمسيحيين الشرقيين الأرثوذكس، وفي نفس الوقت ترغب ببسط نفوذها السوفيتي السابق.

ولذلك، فلا يمكن قراءة مشهد الحرب الروسية على ملكية الكنائس في القدس بعيداً عن الحرب الروسية في الأراضي الأوكرانية، فروسيا تضرب بهذه الحركة عدة عصافير بحجر واحد، فتحاول تخفيف الضغط على نفسها في أوكرانيا، وفي نفس الوقت تحاول نقل المعركة إلى الجانب الأكثر حساسيةً لدى جميع الأطراف، وهو الدين.. ولا يوجد أفضل من مدينة القدس لهذه الغاية، على ما في ذلك من خطورة ولعبٍ بالنار.


جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً