اللغة العربية في العصر الرقمي (Others)
تابعنا

هذا اليوم الذي اعتمدته منظمة اليونسكو للاحتفاء بلغة الضاد. يهدف هذا اليوم إلى إبراز الإسهام المعرفي والفكري والعلمي لهذه اللغة وأعلامها في مختلف مناحي المعرفة البشرية عبر التاريخ.

فالحضارة العربية الإسلامية لها إسهامات مشهودة في مختلف مجالات العلوم والمعرفة والآداب والفنون، ويعود إليها الفضل الأكبر في النهضة الأوروبية ثم الثورة الصناعية التي كرَّست قيادة الغرب للعالم منذ أواخر القرون الوسطى. إذا نظرنا إلى إشكالية اللغة فيجب أن ننظر إليها ليس كمجرد وسيلة بريئة أو كناقل للأفكار والمعاني والتجارب، وإنما كثقافة وكحضارة وكذاكرة اجتماعية.

اللغة وعاء للحضارة والهوية

اللغة هي هُوية الشعب والأمة، واللغة هي الرافد الرئيسي لتطوره وتقدُّمه وعلومه وابتكاراته واختراعاته. واللغة هي القاسم المشترك الذي يجمع الأمة في التعبير عن أفراحها وأتراحها، واللغة هي الناقل الذي يجمع الشعب ويوحّده، فإذا أردنا أن نتكلم عن إشكالية اللغة فإنه يجب علينا أن لا نفرغها من محتواها ومن آيديولوجيتها وأبعادها المختلفة سواء كانت دينية أم سياسية أم حضارية أم أمنية أم قومية، والقائمة قد تطول.

تحدّد لنا اللغة إذاً لنا كيف نفكر وكيف نلبس ونأكل ونمرح ونمزح، فهي وعاء كبير قد يحتوي على معانٍ وأفكار ومعتقدات وسلوكيات تعكس الفرد في بعده الإنساني والحضاري والثقافي والاتصالي والديني والاجتماعي. ولهذا نرى دولاً كبيرة وعريقة تنفق مئات الملايين من الدولارات سنويا لنشر لغتها التي تعكس ثقافتها وحضارتها وتاريخها وطريقتها في الأكل واللباس وغير ذلك.

فلا غرابة أن تؤسس فرنسا منظمة الفرنكوفونية وتنفق عليها بسخاء لتحافظ على انتشارها في إفريقيا وآسيا ودول كثيرة أخرى في أنحاء العالم. بريطانيا من جانبها، ومن خلال الكومنولث تعزز كذلك مكانة اللغة الإنجليزية في العالم، ومن خلال اللغة ينشر البريطانيون حضارتهم وتاريخهم وطريقة معيشتهم ورؤيتهم للأشياء.

فها هو ذا المجلس الثقافي البريطاني وهيئة الإذاعة البريطانية تنتشر في معظم عواصم والمدن الكبرى في العالم، سواء في إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية. وهنا نتساءل: ماذا فعل العرب لنشر اللغة العربية وجعلها لغة العلم والفكر والحضارة والدين الإسلامي؟ أين هي المراكز الثقافية العربية في العواصم العالمية؟ وما الدور الذي تلعبه الملحقات الثقافية في السفارات العربية في العالم لنشر اللغة العربية؟

قال سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون". لقد حملت اللغة العربية الإسلام ومفاهيمه وأفكاره ونظمه وقيمه وأخلاقه، كما أصبحت لغة الدين والثقافة والحضارة والعلم والمعرفة والحكم والسياسة وقواعد ونظم السلوك والأخلاق والمنطق.

لغة الضاد والعصر الرقمي

ما مستقبل اللغة العربية في عصر العولمة والإنترنت وثورة المعلومات؟ ما مكانة لغة الضاد في الخريطة اللغوية العالمية وفي الأوساط العلمية والفكرية العالمية؟ ما موقعها ومكانتها في المحافل الدولية؟ ما موقعها ومكانتها في عقر دارها وبين أهلها وذويها؟ ما مكانتها ودورها في وسائل الإعلام المختلفة وفي المنتجات الفكرية والأدبية والإبداعية؟ وهل استعمال العامية والدارجة واللهجات المختلفة أصبح شرط النجاح في التواصل مع الجمهور؟

تستحق أسئلةٌ الوقوفَ والتأمل والدراسة لأنها تثير قضية جوهرية في أيامنا هذه، وهي مكانة اللغة العربية في ضمير الأمة وفي وسائل الإعلام وفي حياة المواطن العربي وفي وجدانه وطريقة تفكيره وعيشه. الواقع يشير إلى أزمة معقدة تتفشى بسرعة فائقة ومذهلة، والأمر خطير لعدة اعتبارات، من أهمها أن العولمة وعصر الإنترنت والمعلوماتية لا ترحم ولا تشفق، ومن لا يحصّن نفسه بالعلم والمعرفة والإنتاج الفكري والأدبي فإنه سيذوب لا محالة في الآخر وسيصبح كاللقيط الذي لا يُعرف له لا أصل ولا فصل ولا تاريخ ولا جذور.

للغة قيمة جوهرية كبرى في حياة كل مجتمع وأمة، فهي الوعاء الذي يحمل الأفكار وينقل المفاهيم ويُقِيم روابط الاتصال بين الفئات الاجتماعية المختلفة فيفرز التقارب والتلاحم والانسجام. اللغة العربية هي التي نقلت الإسلام ونشرته في بقاع الأرض كما نقلت الثقافة العربية عبر القرون والأجيال. فاللغة العربية هي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل.

اللغة تَقوَى بشعبها وأمتها وتقوى كذلك بالإنتاج العلمي والفكري والثقافي، فاللغة تسود وتنتشر في العالم بالعلم والمعرفة التي ترفدها، كما أن حركة الترجمة تعطي دفعاً قوياً للغة للانفتاح والتثاقف وتكييف فكر وعلوم الآخرين للمواطن العربي. الواقع مع الأسف الشديد يبعث على التشاؤم وعلى الحسرة والألم لأسباب عديدة، من أهمّها أن الإنتاج العلمي والمعرفي والثقافي والفكري العربي لا يتجاوز 1% من الإنتاج العالمي.

نلاحظ كذلك أن حركة الترجمة في الوطن العربي سواء من اللغات الأجنبية إلى العربية أو من العربية إلى اللغات الأخرى لا تكاد تُذكَر، وهذا يعكس ضعف الاهتمام والاستثمار في هذا المجال الذي يُعتبر رافداً استراتيجياً للغة وانتشارها والإقبال عليها. ففي العالم العربي أصبح الكلام يدور حول حماية اللغة العربية لا حول نشر اللغة العربية وتطويرها وتكييفها مع تطورات العصر لتبقى لغة العلم والمعرفة والتكنولوجيا.

العامية لن تكون بديلاً من الفصحى

فاللغة تقوى بالعلم والإنتاج المعرفي والثقافي، وتنتشر وتتوسع من خلال ما تقدمه من علوم وحضارة وثقافة. ما وصلت إليه اللغة العربية في وسائل الإعلام المختلفة شيء مُخْزٍ ومؤسف، إذ أصبح معظم هذه الوسائل، خصوصاً السمعية البصرية منها، تتفنن في استعمال اللهجات والعامية والدارجة، وهذا بافتخار واعتزاز، والمبرّر هو أن العامية بسيطة ومفهومة لدى الجميع.

وإذا رجعنا إلى موضوع العامية بدلاً من اللغة العربية الفصحى نجد أن بعض المستشرقين والحاقدين على العرب والمسلمين، بخاصة هؤلاء الذين كانوا يهدفون إلى طمس الهوية العربية ودفن الإسلام والحضارة الإسلامية، كانوا يُصِرّون على استعمال العامية، وهذا ما حدث على يد المنظّرين للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر.

تواجه اللغة العربية تحديات كثيرة تَحُول دون تمكُّنها من مسايرة الحداثة والطفرات العلمية والتقنية الهائلة التي عرفها العالم. والواقع أنّ هذا العجز ليس بنيوياً، فاللغة العربية تتميز بمؤهلات وبثراء معجمها، ومن هنا لا يمكن فصل مشكلات العربية عن حالة التخلف التي يعاني منها العالم العربي الإسلامي منذ قرون.

وتواجه اللغة العربية غياب سياسات حكومية لتطويرها، وغياب موازنات معتبَرة لتمويل البحث العلمي، فالإنتاج العلمي هو الرافد الاستراتيجي لأي لغة. كما نلاحظ ضعف النشر العلمي والإنتاج المعرفي وسيادة اللغات الغربية الموروثة عن الاستعمار في الإدارة والاقتصاد والتعليم، ومن التحديات كذلك ما يتعلق بمسايرة التكنولوجيا وضعف حركة الترجمة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي