بائعٌ فلسطيني يعلّق حلية مضيئة، نجمة مضيئة على شكل نجمة وهلال، على باب النّاظر المؤدي إلى مجمع المسجد الأقصى، في مدينة القدس القديمة، 12 أبريل/نيسان 2021. (AFP) (Others)
تابعنا

ويبدو واضحاً حالة استنفار غير مسبوقة لدى قادة دولة الاحتلال، وصلت في جزء منها إلى تجاذبات حادة وخلافات علنية بين القادة وأجهزة الأمن الإسرائيلية. فهذا شهر رمضان الأول بعد أحداث 28 رمضان العام الماضي التي تطورت إلى معركةٍ عنيفةٍ عمّت جميع الأراضي الفلسطينية.

تعود أهمية شهر رمضان هذا العام في كونه يتقاطع لأول مرةٍ مع فترة عيد الفصح العبري، الذي يعد في أدبيات اليمين الإسرائيلي المتطرف أحد المواسم الكبرى لاقتحام المسجد الأقصى المبارك وتثبيت أمر واقع جديد فيه كل عام. فهذا العيد يقتضي حسب الشريعة اليهودية ذبح القرابين، وجماعات المعبد المتطرفة كانت على الدوام تحاول الاقتراب شيئاً فشيئاً من محاولة تنفيذ ذبح القرابين داخل المسجد الأقصى المبارك، حتى وصلت عام 2018 إلى السور الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك، ورأت في ذلك الوقت أنه لم يبق إلا أن تدخل بطقوسها الدينية في العام التالي إلى قلب المسجد الأقصى، وهذا ما أوقفته هبة باب الرحمة في بداية 2019.

هذا العام ترى هذه الجماعات أن حكومة بينيت الهشة تُعتبر فرصتها الذهبية، وربما الوحيدة ، للذهاب إلى أبعد قدر ممكن في تنفيذ رؤيتها في اقتطاع مساحةٍ دائمةٍ لصلاة اليهود داخل المسجد الأقصى عبر فرض الطقوس الدينية فيه بالقوة، مستغلةً في ذلك عدم قدرة بينيت على الوقوف في وجهها بقوةٍ خوفاً على قاعدته الانتخابية اليمينية الضعيفة من ناحيةٍ، وفي نفس الوقت إمكانية تسبب ذلك في سقوط حكومته بالكلية بما يفتح المجال لليمين للسيطرة على أي انتخابات قادمة من ناحيةٍ أخرى.

أما بينيت فإنه يحاول إطفاء النيران المشتعلة في القدس أو على الأقل تحويلها إلى جمرٍ تحت الرماد ولو مؤقتاً في سعيه لعدم تدهور الأوضاع في المدينة المقدسة، ولذلك أقرت المحكمة الإسرائيلية العليا تأجيل عمليات الإخلاء في الشيخ جراح وتعليق مسألة ملكية العقارات في الحي، بعد أن كانت تعتبر كونَها ملكيةً يهوديةً مسألةً لا نقاش فيها، وأعلنت حكومة بينيت عدم وضع حواجز في منطقة باب العمود خلال شهر رمضان، كما زار مسؤولوها السلطة الفلسطينية وطار وزير خارجيتها إلى عدة دول عربية وغير عربيةٍ في محاولةٍ للاتفاق على تهدئة الأوضاع في القدس. لكن المعضلة الأكبر والأهم في هذه المعادلة تبقى دائماً المسجد الأقصى.

وهنا تظهر الخلافات العلنية بين قيادة الجيش الإسرائيلي الذي يسيطر على الضفة الغربية، وقيادة الشرطة التي تسيطر على القدس، في مسألة كيفية تخفيف الضغط خلال شهر رمضان المبارك، فبينما يرى الجيش أنه يجب تخفيف الاحتقان عبر فتح المجال لسكان الضفة الغربية للوصول إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان حتى دون تصاريح (لمن تزيد أعمارهم على 45 عاماً)، فإن قيادة الشرطة الإسرائيلية تتشدد في هذا الأمر، وترى أن الواجب تشديد الإغلاقات خلال شهر رمضان ومنع المصلين من الضفة الغربية الوصول إلى الأقصى، ولعل ذلك سيعني بالضرورة محاولة الشرطة تقييد وصول سكان مناطق الخط الأخضر كذلك إلى القدس عبر نصب الحواجز في الطرق، وهو ما تُنبئ عنه تصرفاتها صباح كل جمعة لتقليل أعداد القادمين لأداء صلاة الفجر في المسجد الأقصى خلال المظاهرة المقدسية الأسبوعية التي باتت تعرف باسم "الفجر العظيم".

كما أن هذه الخلافات تصاعدت لتظهر مؤخراً بين وزير الأمن الداخلي (عمير باريف) المحسوب على تيار يسار الوسط من ناحية، والمدعي العام للدولة (غالي باهراف مايرا) المحسوبة على تيار يمين الوسط من ناحية أخرى، حين أصدر الوزير أمراً إلى مفوض الشرطة بمنع أعضاء الكنيست اقتحام المسجد الأقصى في حال "شك في خطورة ذلك"، في إشارةٍ إلى أعضاء الكنيست من اليمين المتطرف وعلى رأسهم (إيتامار بن غفير) المعروف بانتمائه لفكر حركة "كاخ" الإرهابية. إلا أن المدعي العام ترفض هذا القرار لتمتع أعضاء الكنيست بالحصانة، علماً بأن هذا الأمر لم يكن محل جدل في عهد حكومة نتنياهو الذي أصدر أوامر مشابهةً أكثر من مرة دون اعتراض المدعي العام. وبذلك يتبين أن المسجد الأقصى دخل في عمق دائرة الصراع الداخلي الإسرائيلي، بما يعطي فكرةً عن حجم الرعب والجدل الذي تشكله أي أحداث قد تقع في المسجد الأقصى المبارك عام 2022.

ولهذا الأمر أسبابٌ غير ما يبدو في الظاهر في الحقيقة، فالواقع أن اليمين واليسار الإسرائيلي اليوم بات يتقاسم مفاصل أساسيةً في الدولة، إذ أصبحت شرطة الاحتلال تتبع فعلياً اليمين الإسرائيلي منذ عهد وزير الأمن الداخلي السابق المتشدد جلعاد أردان، الذي عمل خلال فترة سيطرته على وزارة الداخلية ثم وزارة الأمن الداخلي مدة ستة أعوامٍ 2014-2020 على إدخال عناصر اليمين المتطرف في سلك الشرطة، وترقية العناصر المحسوبة على اليمين فيها إلى درجات عالية حتى بات اليمين يسيطر على سلك الشرطة وخاصة في مدينة القدس، بل في قسم ما يسمى "شرطة جبل المعبد" التي تعمل في المسجد الأقصى. ولذلك فليس من الغريب أن تحاول الشرطة التشدد في مسألة وصول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، وذلك لتفسح المجال لأنصار اليمين الإسرائيلي المتطرف لتنفيذ رؤيتهم في المسجد.

هذا العام ليس كما سبقه من أعوامٍ عندما يتعلق الأمر بالمسجد الأقصى، إذ إن عام 2022 يشهد تقاطعات كثيرة بين مناسباتٍ إسلامية ويهودية يتخذها اليمين المتطرف في العادة حجةً لاقتحام المسجد، فمن عيد المساخر (البوريم) الذي حل في نفس فترة ليلة النصف من شعبان، إلى عيد الفصح الذي يتقاطع مع رمضان، إلى ذكرى "خراب المعبد" التي تتقاطع مع يوم عاشوراء، حتى يوم الغفران الذي يحل في فترة احتفال المسلمين بذكرى المولد النبوي الشريف. وهذه المناسبات تعتبر فرصةً غير مسبوقةٍ للاحتلال لفرض سيادة الاعتبار اليهودي على الاعتبار الإسلامي في المسجد الأقصى، وهو ما فعله في مناسباتٍ متفرقةٍ في السنوات الماضية كما كان الحال عام 2020 عندما حل يوم ذكرى "خراب المعبد" في نفس يوم عيد الأضحى المبارك، وفتحت قوات الاحتلال يومها المسجد لاقتحامات المتطرفين بالرغم من إعلاناتها السابقة عدم السماح بالاقتحامات خلال المناسبات الإسلامية، مما أدى يومها إلى صدامات واسعة في المسجد. ولا يوجد في الواقع ما يشير إلى نية شرطة الاحتلال أن تتصرف بشكل مختلف هذا العام، وهو ما يشي بنوايا الصدام لدى اليمين الإسرائيلي المتطرف.

إن تحذير الاحتلال من الانفجار في شهر رمضان المبارك يتضمن التحذير فعلياً من نفسه، فهو يعلم تماماً ما يبيته اليمين المتطرف، الذي يشكل طرفاً أساسياً في إسرائيل اليوم، ضد المسجد الأقصى المبارك خلال عيد الفصح، وحكومة الاحتلال تعلم ما يمكن أن يجره عليها ذلك من ردٍّ شعبي فلسطيني. لكن الاحتلال يسلِّم فعلياً أنه لا يستطيع منع اعتداءات اليمين المتطرف، بل يحاول الاستعانة بأطرافٍ عربيةٍ ودوليةٍ اليوم لمنع ردود الفعل الفلسطينية فقط. وتحذيرات الاحتلال ليست في الحقيقة أكثر من محاولةٍ للحصول على ضمانةٍ لعدوانٍ بلا رد. لكن المواجهات التي تعيشها القدس منذ شهورٍ، والتصعيد الذي شهدته خلال الأسابيع الماضية، يشير إلى احتمال أننا أمام أيام شديدة السخونة في القدس، وشهر رمضان لن يكون سوى البداية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً