تابعنا
فكرة مجانية الوسائط الاجتماعية هي فكرة مضللة بحد ذاتها. فهذه الوسائط تجني مليارات من خلال الاستغلال والتلاعب ببيانات المستخدمين في سوق الدعايات التجارية

منذ انطلاقتها، كانت خدمات الوسائط الاجتماعية Social Media وبشكل كبير تعتبر خدمة مجانية بيد المستخدمين. كانت مجانية هذه الخدمة أحد أبرز العوامل التي ساعدت على انتشارها الواسع والكبير حتى أصبحت بفترة وجيزة واحدة من محركات التغيير الاجتماعية والسياسية وحتى النفسية في حياتنا.

في الوقت ذاته، ترجع العائدات المالية الضخمة التي تجنيها هذه الوسائط إلى الإعلانات التجارية وذلك من خلال تسليع البيانات المهولة التي تجمعها عن المستخدمين الذي يمضون غالبية أوقاتهم في تصفحها والتفاعل معها.

مع الوقت خرجت لنا صيحات فكرية من قبيل رأسمالية المراقبة واقتصاد الانتباه وأصبح المستخدمون الذين يتمتعون بخدمة مجانية هم السلعة التي تبيعها هذه الوسائط لجني المالي.

ولكن مع تباطؤ عائدات الإعلانات، والأزمة المالية التي تعصف بقطاع التكنولوجيا، والذي عبر انهيار سيليكون فالي بنك عن بعض جوانبها، هذا فضلاً عن التسريحات الهائلة التي طالت الموظفين التكنولوجيين، شرعت هذه الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي في البحث عن طرق جديدة للخروج من الوعكة المالية من خلال اللجوء إلى فرض رسوم على بعض الخدمات. على سبيل المثال، تفرض تويتر حاليا رسوماً على التحقق بالعلامة الزرقاء، فيما تتقاضى شركة ميتا رسوماً مقابل خدمة حماية الهوية.

في التفاصيل، تخطط شركة ميتا تقديم خدمة توفير دعم حماية إضافي على فيسبوك وإنستغرام للحماية من منتحلي الشخصية مقابل 12 دولار أمريكي شهريا على الويب، و15 دولار شهريا على أجهزة iOS. أما تويتر فتتوجه لجعل الحماية الثنائية ميزة مدفوعة الأجر للمستخدمين. وقد بلغت تكلفة "تويتر بلو" ثمانية دولار شهريا على أجهزة أندرويد و11 دولار شهريا على أجهزة iSO.

يرى بعض الخبراء أن تحول منصات التواصل الاجتماعي إلى الخدمات المدفوعة من شأنه أن يعزز الخصوصية ويزيد الأمان المفروض على البيانات. فطالما أن المستخدم يدفع من جيبه الآن، فله الحق أن يتمتع بالخصوصية والأمان وأن يسترد الوصاية على بياناته.

ولكني بحكم خبرتي ومجال عملي، أرى عكس ذلك تماماً. ويمكنني تقديم ثلاثة نقاط تنقض الرأي سالف الذكر وتبين أن الخدمات المدفوعة مسبقاً لا تصب ضمناً في مصلحة المستخدمة تجاه حماية بياناته والحفاظ على خصوصيته.

أولاً، وفي علم الشبكات، وهو مجال اختصاصي في الأساس، ما يسمى بمعضلة الشبكة أو معضلة الأمن الجماعي. بمعنى أن حماية الشبكة ككل، إنما تتوفر إذا كانت جميع العقد (التي تتألف منها الشبكة) تتمتع بالحماية.

إن توفير الحماية لـ99 عقدة على سبيل المثال، وإبقاء عقدة واحدة من غير حماية يعني أن الشبكة كلها عرضة للاختراق.

قد يدفع بعض المستخدمين لخدمات فيسبوك من أجل الحماية ومزيد من الخصوصية، ولكن هذا لا يعني أن الجميع سوف يفعل المثل. خصوصاً أن التكلفة ليست بسيطة إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض المستخدمين الأقل حظاً مثل الفقراء على سبيل المثال أو الطلاب. هنا يصبح أمن الشبكة من أمن الجميع، وأمن الجميع من أمن كل فرد على حدة وهي منظومة يرتبط بعضها ببعض ولا يمكن التفريط في أي حلقة من حلقاتها. وطالما بقي مستخدمون خارج نطاق خدمة الحماية هذه فإن الأمن الذي ينشده الجميع يصبح غير متوفر.

مجدداً، ليس من المعروف كم عدد أولئك الذين سوف يدفعون مقابل هذه الخدمات. اعتاد المستخدمون على منصات تواصل اجتماعي مجانية من أجل التواصل ومشاركة تفاصيل حياتهم، ويتعارض تحويلها إلى منصات مدفوعة الأجر مع فلسفتها الأولية، الأمر الذي قد يحولها في نهاية المطاف إلى شيء آخر تماماً.

توجد حاجة أن تبقى هذه الوسائط مجانية لكي تحافظ على صفتها منصات جماعية. إحدى الاحتمالات في حال أصبحت هذه الوسائط مدفوعة الأجر مسبقاً أن تتحول من وسائط اتصال إلى منصات ترفيه على شاكلة نتفليكس، وأمازون برايم فيدو، وHBO، وغيرها.

ثانياً، لا يبدو أن الخدمات المدفوعة مسبقاً عن الحماية والخصوصية تلامس أصل المشكلة. هنا نعود مرة أخرى إلى السؤال الكبير في العالم الرقمي وهو من أين تبدأ الحماية والأمن وأين تنتهي الخصوصية؟

إن الدفع المسبق لبعض الخدمات لا يقتضي بالضرورة اطّلاعنا على الكيفية التي تخزن بها هذه الشركات بتخزين بيانات المستخدمين ولا المكان التي تستخدمه لأجل عمليات التخزين هذه. بمعنى أن الحماية من خلال الدفع ربما تتوفر على طرف واحد من الطيف الرقمي المتعلق بحسابات المستخدمين، ولكن ماذا عن الطرف الآخر؟ ماذا لو استطاع الهاكرز الوصول إلى هذه البيانات في أماكن تخزينها في مراكز البيانات Data centers؟ وماذا لو سرب أحد العاملين بهذه الشركات البيانات لجهة ثالثة لقاء المال أو انتقاماً من أربابه في العمل.

على المستوى الإجرائي، فإن فرض رسوم على خاصية المصادقة ثنائية التحقق، قد يجبر عدداً كبيراً من المستخدمين على إلغائها خشية دفع النقود. تشكل هذه النقلة فترة هشة قد يتسلل منها الهاكرز لاختراق الحسابات وسرقة البيانات. وبذلك تضر هذه الشركات بعدد هائل من المستخدمين مقابل توفير خدمة مدفوعة الأجر لحفنة من المستخدمين توفرت لهم القدرة المالية على الدفع مقابل هذه الخدمات.

على سبيل المثال، في الربع الأول من عام 2022 وحده، أبلغ ما يقرب من خمس المستخدمين في الولايات المتحدة عن تعرض حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي للاختراق. ووجد الاستطلاع نفسه أن 24٪ من المستخدمين أفادوا بأنهم منهكون في تتبع الخدمات والاشتراكات الأمر الذي سبب لهم إجهاداً كبيراً وحرمهم الاستفادة والتمتع بخدمة الوسائط كما جرت العادة سابقا.

أما ثالثاً فالأمر يتعلق بمنظومة الحماية والأضرار على الإنترنت. إن ربط الحماية بالخدمات المدفوعة مسبقاً يعني ضمناً أن أعداداً هائلة من المستخدمين سوف تبقى خارج هذه الخدمة وهو الأمر الذي قد يعرضهم لخطر الاختراق وسرقة بياناتهم ودخولهم تحت خطر الابتزاز لدفع الفدية من أجل استرداد الحسابات أو خطر انتحال الشخصية. هذا من ناحية.

أما من الناحية الأخرى، فإن أولئك الذي وافقوا على خطوة الدفع مقابل الخدمة، فإنهم معرضون أيضاً لخطر سرقة بياناتهم البنكية. فمن أجل الاشتراك يكون لزاماً عليهم الدفع عبر بطاقات الائتمان لديهم وهو ما يعزز من فرص تعرضهم لخطر الاختراق وخسارة أموالهم عبر السرقة الرقمية.

علينا ألا ننسى أن جزءاً كبيراً من هؤلاء المستخدمين سيكونون مضطرين إلى لدفع من أجل هذه الخدمة بسبب ارتباط أعمالهم ومشاغلهم اليومية وربما معاشاتهم بهذه الوسائط. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأمية الرقمية التي لا تزال منتشرة على نطاق واسع، والتعقيد الذي يرافق طرح الخدمات المدفوعة الأجر الرقمية، فلنا أن نتوقع أن يقع عديد من المستخدمين في أخطاء تعرض بياناتهم الائتمانية للخطر والاختراق.

نعود مرة أخرى للتذكير بأن فكرة مجانية الوسائط الاجتماعية هي فكرة مضللة بحد ذاتها. فهذه الوسائط تجني مليارات من خلال الاستغلال والتلاعب ببيانات المستخدمين في سوق الدعايات التجارية. ولذلك لا حاجة إلى فرض مزيد من الجباية المالية على المستخدمين على خدمات هي في صلب حقوقهم المدنية كالحماية والأمن والخصوصية. يجب أن تكون هذه الحقوق مكفولة بحكم الأمر الواقع على هذه الشركات ضمن مسؤولياتها الأخلاقية عن بيانات هؤلاء المستخدمين، ومن الحكومات التي تعتبر هذه البيانات ضمن ولايتها السيادية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً