تابعنا
رغم تعدُّد الأفكار والمشاريع، لم تخرج فكرة الميناء في قطاع غزة إلى حيز التنفيذ لكونها جاءت منقوصة، وعلى حساب السيادة الفلسطينية، أو لاعتبارات أمنية إسرائيلية، لا تأخذ بالاعتبار المصالح الجوهرية الفلسطينية.

قدّم الرئيس الأمريكي جو بايدن، في خطاب "حالة الاتحاد"، الذي ألقاه في السابع من مارس/آذار الماضي، مشروعاً تعكف فيه بلاده على إنشاء ميناء بحري عائم على سواحل قطاع غزة، الذي يعاني من مجاعة وظروف إنسانية غاية في الصعوبة، جرّاء الحصار الإسرائيلي والتدمير الممنهج للبنية التحتية وكل أسباب الحياة فيه، على أنه بُشرى ستتكفل بحل أزمة المجاعة التي يعيشها السكان في شمال قطاع غزة من خلال إدخال المساعدات بكميات كبيرة وبشكل مباشر إلى مناطق القطاع.

الميناء الذي قدّرت الولايات المتحدة أن بناءه سيستغرق قرابة الشهرين، الذي سيبنيه الجيش الأمريكي، الذي خصص 1000 جندي لإنشائه، هو عبارة عن مرفأ عائم مؤقت يبلغ طوله 550 متراً، وهو قادر على العمل لمدة 24 ساعة طوال أيام الأسبوع، ويمكن ربطه بشارع مع الشاطئ، ووضع روافع وطوافات لنقل المساعدات التي ستُقلع من قبرص بعد أن تخضع للمراقبة والتفتيش من إسرائيل.

مشروع قديم جديد

قطاع غزة هو قطاع ساحلي، يوجد فيه ميناء عريق وقديم، يعد واحداً من عُقد التجارة البحرية العريقة في البحر الأبيض المتوسط، وهو واحد من المواني التاريخية التي تطرق لها الرحّالة والمؤرخون في العالم القديم.

ميناء غزة، الذي تحول إلى ميناء صيد صغير وضحل، يستخدمه الصيادون بقوارب صغيرة وبدائية، وتحاصره قوات الاحتلال، كان حاضراً في كل المراحل التي مرّت بها عملية السلام، إذ نصت اتفاقية أوسلو على إنشاء ميناء بحري خاص بقطاع غزة، وشرع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد عودته إلى القطاع عام 1994، في بنائه، ورصد له دعماً خارجيّاً بقيمة 60 مليون دولار.

بسبب مماطلة إسرائيل تحت ذرائع مختلفة بقي مشروع الميناء معطلاً، وتحول إلى مطلب دائم، وتكرّر التعهد الإسرائيلي بتنفيذه في كل الاتفاقيات التي وقّعت بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، التي كان آخرها عام 1999 في شرم الشيخ، إذ وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، على بدء تنفيذ إنشاء الميناء، الذي فجّرته القوات البحرية الإسرائيلية بعد ذلك بسنتين، مع اندلاع الانتفاضة الثانية وتذرع إسرائيل بأن سفينة أسلحة (كارين A) كانت في طريقها إليه.

العقبات التي تضعها إسرائيل أمام إحياء ميناء غزة التاريخي وتأهيله، دفعت إلى البحث المستمر، وفي مراحل تاريخية مختلفة، عن بديل يربط القطاع بالعالم، ويبقيها تحت السيطرة الإسرائيلية في الوقت نفسه، ويمنع انهيار القطاع بعد انسحاب إسرائيل منه في عام 2005 وسيطرة حركة حماس عليه بعدها بعامين.

خلال الفترة الفاصلة بين انسحاب إسرائيل بشكل أحادي من قطاع غزة وسيطرة حركة حماس عليه، وفرض حصار إسرائيلي على القطاع، عاد مشروع الميناء البحري إلى الواجهة في المحادثات التي أجرتها القيادة الفلسطينية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، آرييل شارون، وجرى التوافق على بناء ميناء بتكلفة 3 مليارات دولار.

عارض ممثلو شركات السفن والنقل البحري الإسرائيليون فكرة وجود ميناء فلسطيني تجاري مستقل، وأرسلوا برسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، شارون، طالبوه فيها بعدم تنفيذ المشروع بذريعة أنه "لا يوجد مبرّر اقتصادي لوجود ميناء ثالث إلى جانب ميناءي أسدود وحيفا"، وأن بإمكان الفلسطينيين استخدام ميناء أسدود "وتخصيص مساحة خاصة بهم" داخل الميناء الإسرائيلي.

فكرة إنشاء الميناء المؤقت أو العائم ليست جديدة، وهي مرتبطة تاريخيّاً بالحصار الإسرائيلي للقطاع، والرغبة في استمرار سيطرة الاحتلال عليه وعلى منافذه البحرية والبرية (لأسباب أمنية واقتصادية)، وهي فكرة تعود كل مرة وتُقدّم بمسوغات وعناوين جديدة، مثل إدخال المساعدات، وتعزيز التطبيع، والأمن الإسرائيلي، وإضعاف حماس، ومنع انهيار القطاع، وتحقيق الهدوء وغيرها.

الجزيرة العائمة

الانتقادات الدولية بسبب التردّي المستمر للوضع الإنساني في غزة، الذي يتسبب فيه الحصار الإسرائيلي وقاد إلى سلسلة مواجهات عسكرية بين حركة حماس وإسرائيل، والخشية من تكرار هذه المواجهات، التي كان آخرها وأعنفها المواجهة التي اندلعت عام 2014 واستمرت خمسين يوماً، وخلّفت دماراً هائلاً وأعداداً كبيرة من الشهداء والجرحى ومَن فقدوا مساكنهم، دفعت وزير المواصلات الإسرائيلي الأسبق (وزير الخارجية الحالي) يسرائيل كاتس، إلى طرح فكرة إنشاء ميناء بحري يرتبط بجزيرة عائمة قبالة شواطئ غزة بتكلفة قُدرت بخمسة مليارات دولار، إذ تكون مساحتها 8 كيلومترات مربعة يربطها بالقطاع جسر بحري عرضه 4.5 كيلومتر، تتخللها نقاط تفتيش إسرائيلية.

المشروع، الذي لاقى رواجاً دوليّاً واهتماماً إعلاميّاً عالميّاً في حينه (2016)، وشكّل أحد الحوافز التي يمكن أن ينتج عنها وقف إطلاق نار طويل المدى في غزة، بعد أن تحول إلى أحد مطالب الوفد المفاوض الذي أنجز الهدنة، لم ينجح في الحصول على موافقة الكابينيت الإسرائيلي، وبقي حبراً على ورق.

غيورا آيلاند: دولة غزة

تقدَّم الجنرال غيورا آيلاند عام 2018 بمشروع ميناء بحري خاص بقطاع غزة ضمن تصور أمني سياسي، طالب فيه لأول مرة بأن يُعامل مع حكم حركة حماس في قطاع غزة على أنه "دولة غزة".

اعتبر آيلاند أن غزة "تحوّلت عمليّاً إلى دولة" وأن التعامل مع (دولة) أكثر سهولة من التعامل مع تنظيم، وأن هذا الميناء سوف يسهم في حل الأزمة الإنسانية، وخلق تواصل بين القطاع والعالم "ضمن ترتيبات أمنية إسرائيلية" ستنتج عنها "وفرة اقتصادية" تجعل "حماس" تفكر في حجم الخسارة التي ستتكبدها في حال عادت إلى التصعيد.

لم تَلقِ فكرة آيلاند تأييداً كبيراً بسبب المعارضة الغربية والداخلية لها، ورفض رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فكرة الاعتراف بوجود طرف فلسطيني يمثل كياناً سياسيّاً، حتى لو في غزة التي أرادها دائماً منفصلة عن الضفة، وخشيته من عدم دعم العالم للفكرة، أو أن تكون منطلقاً لنواة تتوحد مع الضفة لاحقاً.

لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، أيّد فكرة الميناء البحري في غزة، وتبعه في ذلك قادة إسرائيليون كُثر، أمنيون وسياسيون، لكن دوماً كانت تمنع حلقةٌ مفقودةٌ خروج هذه الفكرة إلى حيز التنفيذ.

الحلقة المفقودة

ورغم تعدُّد الأفكار والمشاريع، لم تخرج فكرة الميناء في قطاع غزة إلى حيز التنفيذ لكونها جاءت منقوصة، وعلى حساب السيادة الفلسطينية، أو لاعتبارات أمنية إسرائيلية، لا تأخذ بالاعتبار المصالح الجوهرية الفلسطينية.

الفترة الوحيدة التي طُرحت فيها فكرة الميناء كانت عند توقيع اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ولكن هذه الاتفاقيات التي مضى على توقيعها 31 عاماً، كانت كافية لإثبات أن إسرائيل لا يمكن أن تُقدم على خطوة تتضمن سيادة فلسطينية بعيداً عن هيمنتها الأمنية ومصالحها الاقتصادية.

إن العنوان الإنساني الذي جاء تحته الميناء البحري هذه المرة، سيلاقي المصير ذاته، لولا أن القائمين عليه (الولايات المتحدة) قلّلوا حجم الآمال واعتبروا منذ البداية أنه "مؤقت" ومحدود الأثر.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً