تابعنا
يرى الإيرانيون الحل الحقيقي في العودة الأمريكية إلى الاتفاق النووي الذي انسحبوا منه، وأن هذا الاتفاق المؤقت بمحفزاته الاقتصادية لن يكون أكثر من فخّ أمريكي أو دواء مسكّن ومؤقت سرعان ما سيسقط بتغيّر الظروف.

عام 2018 أعلن الرئيس الأمريكي السابق ترمب خروج بلاده رسمياً من الاتفاق النووي المبرم مع إيران في 2 أبريل/نيسان 2015 بمدينة لوزان السويسرية، والذي توصلت به إيران والدول الغربية إلى تسوية شاملة تضمن الطابع السلمي للبرنامج النووي التابع لها وإلغاء العقوبات على إيران.

وفي 20 يناير/كانون الثاني 2021 وصل جو بايدن إلى الرئاسة الأمريكية مع توقّعات كبيرة بعودته إلى الاتفاق النووي السابق، لكن هذا لم يحدث إذ جرت جولات تفاوضية قبل أن تتوقّف المفاوضات النووية بين إيران والغرب، ووصلت إلى طريق مسدود دون أن يعلن أي طرف موت الاتفاق رسمياً.

بعد هذا التعثّر وقبل أيام أطلّ علينا موقع أكسيوس الأمريكي بخبر عن مصادر إسرائيلية وأمريكية وغربية بأن إدارة الرئيس الأمريكي بايدن ناقشت الأسابيع الأخيرة مع شركائها الإسرائيليين والأوروبيين اقتراحاً لاتفاقٍ مؤقت مع طهران يتضمّن تخفيف العقوبات الاقتصادية من قبيل الإفراج عن بعض المليارات المجمّدة وتصدير النفط مقابل وقف إيران أجزاء من برنامجها النووي، وبشكل أساسي وقف تخصيب اليورانيوم عند درجة نقاء 60%، الأمر الذي سارعت إيران إلى رفضه.

وبغض النظر عن صحة هذا الخبر والإبهام الذي يهيمن على تفاصيل هذا العرض الأمريكي، إذ تثار حوله علامات استفهام من قبيل المقصد الحقيقي لواشنطن من هذا العرض، ودلالاته في هذه المرحلة الحسّاسة، وهل هو البديل الوحيد المتبقي لإنقاذ المفاوضات النووية وإخراجها من موتها السريري ولو اسميّاً؟ وما أسباب رفضه إيران له؟ وهل توجد إمكانية لإقناعها به حالياً؟

إن قراءة متأنية للمشهد الإقليمي والدولي والتحولات الخطيرة التي عصفت به السنة الأخيرة تظهر أن هذا الخيار الدبلوماسي بات أفضل الموجود لدى الإدارة الأمريكية بعد فشل سياسة العقوبات القصوى، وفي ظل قلق متزايد من تسارع وتيرة الملف النووي الإيراني وارتفاع مستويات التخصيب إلى درجة قد تؤدّي إلى تمكن طهران من إنتاج سلاح نووي على حين غفلة من المجتمع الدولي.

أما بالنسبة إلى إيران فيبدو ألا سبيل أمامها سوى رفض هذا المقترح الجزئي والحل المؤقت وقد باتت تستشعر تراخي إدارة بايدن أمام تمدُّدها بأهم الملفّات الداخلية والخارجية وعجزها عن ردعها ووقف عجلة برنامجها النووي وطفرات التخصيب، وهذا الارتياح والشعور بالقوّة واضح على لسان أهم المسؤولين الإيرانيين ابتداء بالمرشد الأعلى على خامنئي، ومروراً بالرئيس إبراهيم رئيسي ووزراء حكومته، علاوة على الصحافة الرسمية، لا سيما بعد عبور البلاد عاصفة الاحتجاجات الخطيرة التي تلت مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني في طهران بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول 2022.

إن ما نجم عن هذا الاتفاق المؤقت يركز على مقايضة التخصيب بحزمة حوافز اقتصادية، وهذا أمر لا يمكن لإيران أن تقبله أبداً في هذه الظروف لسببين أساسيين:

أولاً: إن تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% المُقلق للغرب بات أهم أسلحة الإيرانيين وأدواتهم لانتزاع حقوقهم من الغرب وابتزازه، وهو وحده القادر على دفع القوى الغربية إلى التفاوض بجدّية، ويمنعها ابتزاز إيران وتهديدها عسكرياً، ومن السذاجة أن تتنازل إيران عن هذه الورقة الاستراتيجية وتقايضها مقابل حزمة اقتصادية محدودة ومؤقتة.

وثانياً: إن تلك الحوافز الاقتصادية التي ترغب أمريكا بتقديمها لإيران بهذا الاتفاق لا أحد ينكر أنها مفيدة للاقتصاد الإيراني، فقد تمكّن إيران من بيع نفطها بحرّية وتفرج عن بعض ملياراتها المجمّدة، وهذا أمر إيجابي وقد يُسهم في حلحلة بعض الأوضاع الاقتصادية المتردّية في الداخل الإيراني، لكنّ عقدة الاقتصاد الإيراني لن تُحلّ بمثل هذه الاتفاقات المؤقتة والحوافز المحدودة، ولن تجلب الاستثمارات الأجنبية التي تحتاج إلى بيئة آمنة وشروط ثابتة ومستقرّة، وهذا السمات غير متوافرة أبداً في ظل هذا الاتفاق الذي يبدو في أحسن حالاته، وكما يشي اسمه، مؤقتاً.

ويرى الإيرانيون اليوم أن للتغلب على هذه الحالة المستعصية والأزمات الاقتصادية ببلادهم سبلاً أخرى، لكنها لن تكون أبداً في حلول جزئية مؤقتة كتلك، وإنما عبر حلول أخرى. والواقع أن هذه الحلول الأخرى باتت واضحة عبر سعي إيران لتنويع مصادرها الاقتصادية ومساراتها الدبلوماسية بل والعسكرية، ولعلّ أبرزها التوجّه شرقاً نحو الصين وروسيا وعقد اتفاقات شراكة استراتيجيّة معهما عسكرياً واقتصادياً، مستغلّة الوضع الدولي الجديد ولا سيما إثر الحرب الروسية-الأوكرانية والتوتر بتايوان وما تسببا به من اضطراب في أسواق الطاقة والاضطراب الأمني العالمي وغير ذلك.

ولعلّ من المستجدات المهمّة في السياسة الإيرانية استثمار الوساطة الصينية لعقد اتفاقيات تصالحية حقيقية مع دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والشروع بالتطبيع بين الطرفين على ما تعنيه هذه الخطوة من مردود اقتصادي وسياسي وأمني في هذه المنطقة المهمّة.

إن الاتفاقيات الجزئية والحوافز المؤقتة ليست أمراً جديداً على الإيرانيين، وقد جرّبوا مثل هذه الاتفاقيات إبان حكم الرئيس الإصلاحي حسن روحاني، إذ وقفت حكومته الفاعليات النووية ولم تحظَ بالنتائج المرجوّة، ويبدو أن حكومة الرئيس الإيراني المحافظ إبراهيم رئيسي لا تريد أن تكرر هذا الخطأ، فباتت تدرك أن الحلول المؤقتة غير مجدية للإيرانيين بعالم تحكمه المصالح الكبرى، وأن أمريكا التي خرجت من الاتفاق الشامل سنة 2015 لن يعجزها الخروج عن هذا الاتفاق الجزئي عند أدنى سبب، ولا سيما أن الانتخابات الأمريكية باتت قريبة، ويوجد احتمال كبير لعودة الجمهوريين الأمريكيين إلى الحكم الذين يعارضون أصلاً فكرة الاتفاق النووي مع إيران.

وعليه يرى الإيرانيون الحل الحقيقي في العودة الأمريكية إلى الاتفاق النووي الذي انسحبوا منه، وأن هذا الاتفاق المؤقت بمحفزاته الاقتصادية لن يكون أكثر من فخّ أمريكي أو دواء مسكّن ومؤقت سرعان ما سيسقط بتغيّر الظروف، وأما تعثر مفاوضات الحلّ الدائم والاتفاق الشامل فيبدو أنها لم تعد تعني إيران كثيراً ولن تكون وحدها من يدفع ثمن فشلها، وهي مستمرّة ببرنامجها النووي وتطويره ولن تسعى وراء أية مفاوضات أو اتفاقيات لا تضمن حقوقها كاملة بغضّ النظر عن أسماء هذه التوافقات وعناوينها الظاهرية.

بناء على تلك المستجدات الإقليمية والدولية وفي ظل رفض إيراني لهذا الاتفاق الأمريكي المُقترح هل ستكون الضربة العسكرية الإسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية البديل حال تعدّي إيران الخطوط الحمراء في ملفها النووي وتجاوزها نسب التخصيب المسموح بها؟ وهل ستتجرأ إسرائيل على نقل الصراع مع إيران إلى الداخل الإيراني بعد أن ظل لعقود محصوراً مع وكلائها في البلدان العربية؟

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً