قوات الاحتلال في باحة مستشفى الشفاء بعد أن اقتحامه والسيطرة عليه منتصف الشهر الماضي / صورة: Reuters (Reuters)
تابعنا

ينصّ البند الثامن عشر من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على ما يلي: "لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء النفاس، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات"، قبل أن يتابع مذكِّراً بتفاصيلَ حول عدم جواز استخدام المستشفيات لأغراض عسكرية.

يتضّح إذنْ تمام الوضوح موقف القانون الدولي بخصوص المستشفيات التي لا خلاف على أنها مناطق محميّة في زمن الصراعات المسلحة.

وهذا ما لم تلتزم به إسرائيل منذ اندلاع شرارة حربها الدموية على قطاع غزة، إذ أعلنت منذ لحظاتها الأولى عن قطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عن القطاع.

كما أكدت ألّا مكان آمن في غزة، وبخّست من قيمة الفلسطيني، حين صرّح وزير دفاعها قائلاً "هؤلاء حيوانات بشرية وسنتعامل معهم على هذا الأساس".

إعراض عن القانون الدولي

كل الذين قدّموا مداخلات أمام الجمعية العامة ومجلس الأمن الدوليين في اجتماعات ناقشت الحرب على غزة، طالبوا إسرائيل منذ اليوم الأول بتجنب المستشفيات والمدارس، لكن إسرائيل ضربت بكل هذه النداءات عُرض الحائط وتعمّدت استهداف المدارس والمستشفيات والعيادات الطبيّة وكلَّ المعالم المدنيّة في قطاع غزة، وإلى حدٍّ ما في الضفة الغربية.

ولقد تكرّر خطاب حماية المدنيين وعدم التعرض لجميع المعالم المدنية في غزة مثل المستشفيات والعيادات والمدارس والجامعات ودور العبادة ودور المسنين وغيرها أكثر من مرّة من طرف مؤسسات دولية ومنظمات مدنية، لكنه لم يجد آذانا مصغية لدى تل أبيب.

لكن السؤال الذي يظل قائماً هو: "لم استهداف المستشفيات؟"، ولنعد إلى التفاصيل قليلاً: وجّهت إسرائيل آلتها الحربية نحو المؤسسات الطبية بدءاً من مجزرة المستشفى المعمداني يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول، حيث استهدف صاروخ المستشفى مخلفاً نحو 500 ضحية بين شهيد وجريح، .

ثم توالت الحرب على المستشفيات وخاصة أكبر التجمّعات الطبية من قبيل مستشفى الشفاء والمستشفى الأندونيسي بحيث لم يبق في الخدمة إلّا سبعة مستشفيات من أصل 35.

ادعت إسرائيل أن المقاومة أقامت مراكزها القياديّة والأنفاق تحت مستشفى الشفاء وغيرها. وقد ثبت ضحالة وبطلان هذه المزاعم. وعبثاً حاولت إثبات هذا الافتراء بالتزوير والتمثيل وتغيير الرواية مرة وراء أخرى.

وجاء التكذيب ممّا شهدناه من مناظر الدمار وقتل للمدنيين، ولكن أيضاً في تقارير وسائل الإعلام الغربية، حتى المساندة لإسرائيل، مثل (CNN) و (BBC)، وكذلك في تصريحات رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إيهود باراك الذي فنّد قصة الأنفاق تحت مستشفى الشفاء، قائلاً إن إسرائيل هي من شيّدتها.

إذن لماذا استمرت إسرائيل بالهجوم على المستشفيات، بل وحتى في الضفة الغربية حيث هاجمت عدداً من مستشفيات الخليل وبيت لحم وغيرها؟

الأسباب الحقيقية

أرادت إسرائيل تحقيق أهداف عدة من وراء الهجوم على المستشفيات دون الالتفات إلى أنّ فيها مرضى وجرحى وأطفالاً خُدّج وآلاف المدنيّين اللاجئين إليها للحماية.

أولاً: تريد إسرائيل القول للفلسطينيين ألاّ مكان آمن في غزة. فإذا كانت المدارس والكنائس والمساجد غير آمنة فلن تكون المستشفيات آمنة.

لقد هدفت إسرائيل من هذا إلى إعطاء انطباع بأن نشطاء حركات المقاومة يلجأون للمستشفيات كنوع من الحماية والعمل والتخطيط داخلها وأن إسرائيل ستطالهم حتى لو كانوا في المستشفيات.

ثانياً: تريد إسرائيل أن تفرغ الشمال من سكانه تماماً. لكن ما دامت هناك مستشفيات فاعلة تستقبل الجرحى واللاجئين، فإن عملية التهجير ستبقى فاشلة. وبعد تدمير المدارس والمؤسسات والطرق والمباني في شمال غزة، لم يتبق غير المستشفيات، ولم تتردد إسرائيل في استهدافها وتدميرها وقطع إمداداتها بالوقود وإجبار طواقم المستشفيات على إخلائها.

وعندما رفض طاقم مستشفى الشفاء إخلاءَه قصف جيش الاحتلال مداخله من أكثر من جهة ما أدى إلى سقوط مئات الشهداء.

إذنْ، كان الهدف هو تعطيل المستشفيات بشكل عام ومستشفى الشفاء بشكل خاص في شمال غزة لاستكمال عملية إخلاء الشمال وتكديس السكان في جنوب غزة وحشرهم في بقعة لا تزيد عن 160 كم مربعاً.

وهذا يفتح الباب لاحتمَال تدمير شمال غزة تماماً كي لا يصبح قابلاً للعيش على الإطلاق، ما سيفرض لاحقاً نوعاً من التهجير من الجنوب إلى خارج فلسطين، عندما تصبح الحياة صعبة جداً.

وقد تفتح إسرائيل مجال الهجرة "الطوعيّة" - التي باطنُها قسريّ- بحجة الرحيل للعلاج أو البحث عن وسائل عيش خارج فلسطين، بعد إيجاد دول تقبل لجوء أعداد من الفلسطينيين.

ثالثاً: ضجّت الدنيا منتقدة استهدافَ إسرائيل للمستشفيات وطالبت الأممُ المتحدة وحتى الولايات المتحدة بعدم دخول المستشفيات.

وكانت تأمل أن تجد ما يبرر هجومها على المستشفيات، فأطلقت مزاعم وجود أنفاق تحت المستشفيات وخاصة مستشفى الشفاء.

وظلت تؤكد أنها واثقة من وجود مركز قيادة حماس في أنفاق تحت المستشفى، وكأنها تريد القول للدول الغربية والولايات المتحدة أن تعطيها مهلة لإثبات هذا الادعاء.

فإذا وجدت الدليل فهذا سيبرر الهجوم وإذا لم تجد الدليل فلا بأس أن تكون قد حققت أهدافاً أخرى في أذهان قادتها. ثم ستقوم بعملية تحويل الأنظار بسرعة كي لا يتم الحديث عن المستشفيات وهو ما فعلته بالضبط.

فعندما فشلت في إثبات وجود مقر لقيادة حماس تحت المستشفى ووجود أنفاق، قصفت مدرستي الفاخورة وتل الزعتر وقتلت أكثر من 200 فلسطيني وفلسطينية. وانتقل الاهتمام العالمي من المستشفيات إلى المدارس وضحايا المدارس، كان من أبرز الهجمات قصف مدرسة أبو الحسين في بيت لاهيا.

رابعاً وأخيراً، تريد إسرائيل أن تقول إنها دولة لا تأبه بالقانون الدولي وإنها محميّة من المساءلة ولا تكترث لهذا الصراخ والإدانات والتحذيرات. فهي دولة تعودت على عدم إعطاء القانون الدولي أية أهمية.

فلو كانت تأبه بالقوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان لما استمرت في العودة إلى ارتكاب نفس الجريمة مرة وراء أخرى.

فكل أعمالها العسكرية في الحرب على غزة وقبلها تعتبر انتهاكاً للقانون الدولي من حصار للقطاع لمدة 16 سنة إلى بناء المستوطنات واستمرار الاحتلال وتغيير معالم القدس وضمّها واعتبارها عاصمة لإسرائيل، وبناء الجدار الفاصل وهدْم البيوت وتشريد السكان من بيوتهم وقراهم، واعتقال المئات واحتجازهم في السجون دون محاكمة، واعتقال الأطفال وسجنهم سنوات طويلة ومحاكمتهم في محاكم عسكرية.

كما شنّت عدداً من الحروب ضد القطاع والضفة الغربية وجنوب لبنان، وصدرت في ذلك تقارير دولية تثبت أنها ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

فإذا كانت تمارس كل هذه الانتهاكات منذ احتلال الضفة الغربية في حرب يونيو 1967 دون أن تحاسب أو تُحمّل أي مسؤولية أو تحاكم أمام قضاة دوليّين أو يتبنى مجلس الأمن أيّاً من تقارير التحقيق المستقلة في الحروب والانتهاكات التي ارتكبتها فلماذا تخشى استهداف المستشفيات؟

ألم يقف ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة، جلعاد إردان، يوم 29 أكتوبر 2021 ليمزّق تقرير مجلس حقوق الإنسان الذي يوثّق انتهاكات إسرائيل في الأرض المحتلّة ويرميه في وجوه مندوبي الدول الأعضاء الجالسين في الجمعية العامة قائلا: "هكذا سنتعامل مع هذا التقرير".

هذه هي إسرائيل التي لا تخشى المساءلة لأن هناك دولة عظمى تملك حق الفيتو تؤمِّن لها مظلة الحماية من أي مساءلة أو محاسبة دولية، كما تؤمِّن لها احتياجاتها العسكرية والمالية والاستخباراتية والأمنية والتكنولوجية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي