ازدحام في أحد مطارات أوروبا جراء أزمة الموظفين  (Ennio Leanza/AP)
تابعنا

فكل ما يحدث في أوكرانيا من مواجهات روسية أوكرانية جعل كل أطراف العالم تستنفر من تداعيات هذا الوضع اقتصاديا، طاقياً ولوجستياً حتى إنه يوجد من يقر بأزمة غذائية عالمية في الأفق.

ورغم كل ما أقرته الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، من عقوبات اقتصادية متتالية على روسيا عقب إقدامها على عمليتها العسكرية في أوكرانيا، فإن تلك العقوبات وجدت موطأ قدم بصورة عكسية على الاقتصاد الأوروبي بالخصوص فبرزت خلافات فارقة بين أعضائه في التعاطي مع الطرف الروسي الذي يعتبر شرياناً طاقياً للقارة الأوروبية بقدرة ضخ سنوية تتراوح بين 150 إلى 190 مليار متر مكعب من مقدرات الغاز.

وعلى غرار هاته الأوضاع التي توحي بانقسام البيت الأوروبي أو على الأقل في سياساته الاقتصادية الشمولية، يتحدث مراقبون ومختصون عن بوادر ضعف العملة الأوروبية الموحدة ''اليورو'' بنسبة 04% مقارنة بقيمتها ببعض العملات الأخرى وهذا منذ بداية الأزمة الأوكرانية، فقد وصلت لأدنى قيمة لها منذ حوالي السنتين مقارنة مع العملة الأمريكية الدولار.

أما الآن فتضرب موجة تضخمية عارمة الاقتصاد الأوروبي عموماً ما دفع بأكثر من 11 دولة أوروبية إلى الرضوخ والتعامل بالعملة الروسية ''الروبل'' مقابل واردات الغاز الروسي. هذا رغم أن 9 دول من هذه الأخيرة لم تعلن ذلك رسمياً. في وقت ارتفعت فيه المخاوف الأمريكية والأوروبية من إقبال دول أخرى على ذات النهج السيادي في التبادلات التجارية فيما بينها على غرار الصين ''الرينمنبي'' والسعودية ''الريال السعودي''. ما نتحدث عنه في كل هذا السياق، جاء بعد فترة ليست ببعيدة عن أزمات كان مر بها الاتحاد الأوروبي على غرار أزمة اليونان التي مهدت لسلوكيات اقتصادية أوروبية تعتمد على الدين العام في سياساتها. فقد أعلن مكتب الإحصاءات الأوروبي "يوروستات" في أوائل 2021 أن نسبة الدين العام بلغت 11.4 تريليون يورو (13.2 تريليون دولار)، و12.4 تريليون يورو (14.3 تريليون دولار) في منتصف ذات السنة وذلك بسبب الإسراف في الديون الإسبانية والبرتغالية والإيطالية.

بالرجوع إلى الطرف البريطاني، تفاعلت الواجهة البريطانية مؤخراً مع أحداث جعلت الرأي البريطاني يسائل صانع القرار هناك. إذ إن المواقف البريطانية التي تلت الانفصال عن الاتحاد الأوروبي "بريكست" على الصعيد الدولي، حملت البريطانيين تبعات مباشرة وغير مباشرة خصوصاً في الجانب الاقتصادي. فقدم وزيرا المالية والصحة البريطانيان ريشي سوناك وساجد جاويد استقالتهما كخير مثال، وعلى هامش هذه الحادثة تلقى رئيس الوزراء بوريس جونسون جملة اتهامات من وزير المالية المستقيل الذي وصفه بالمخادع للشعب البريطاني بشأن الأوضاع الاقتصادية في بريطانيا، بل ولم يتوقف الأمر هنا فحسب، فشهدنا انهياراً تاماً للحكومة البريطانية بتسلسل الاستقالات المتتالية والتي بلغت 50 استقالة حكومية متتابعة، خصوصاً وأن قيمة الجنيه الإسترليني سجلت أدنى مستوى لها منذ 2020 مع الدولار إلى 1.25 دولار، بعدما كانت في مطلع الشهر فوق مستوى 1.31 دولار بنسبة 04% سلبية. هذا بالتوازي مع الدعم الذي يحظى به رئيس الوزراء من قبل وزارة الخارجية ليز تراس والذي يجسد الثمن الذي تدفعه بريطانيا نظير موقفها من الأزمة الأوكرانية. رغم معدل تضخم فيها يتراوح بين 7.5% و10% مع تردد متواصل وواضح للبنك المركزي في رفع أسعار الفائدة، خوفاً من أي ركود محتمل. وأمام هذه الضربات اضطر أخير رئيس الوزراء البريطاني إلى تقديم استقالته وحل الحكومة.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الجانب الألماني الذي فاجأ الجميع بتسجيل عجزٍ في ميزان التجارة الخارجية، والذي يعتبر الأول من نوعه منذ أكثر من 30 سنة في التاريخ الألماني. فكانت قيمة 1.04 مليار يورو عجزاً تجارياً كفيلة بطرق ناقوس الخطر الذي صاحب التهاب أسعار الطاقة في ألمانيا، ناهيك بأن شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الأخيريْن شهدا كذلك صدمتيْن تضخميتيْن في الأسعار بقيمة 8.7% و8.2% على التوالي. ما جعل الواردات المرتفعة تبلغ قيمة 126.7 مليار يورو مقارنة بالصادرات الألمانية التي انخفضت إلى 125.8 مليار يورو أواخر شهر مايو 2022"

وهنا لا يخفى على الجميع، اعتماد ألمانيا فيما يخص مصادر الطاقة. على أكثر من 75% مصادر طبيعية من نفطٍ وفحمً وغازٍ خاصة الغاز الروسي، والذي تراجعت وفرته بسبب الخلافات السياسية دون أن ننسى الإرتفاع الجنوني لأسعار النفط بنسبة 40% هذا العام، وارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بنسب بلغت 50% هذا العام أيضاً.

هذا ما يحولنا لجانب تأثر الصناعات الألمانية حسب تقارير اقتصادية بسبب اختلال عمليات التوريد نتيجة العقوبات الغربية على روسيا والعقوبات الروسية المعاكسة على بعض الدول الأوروبية. هذا مع تنامي أصوات نقابية تدعو الجهات الوصية في ألمانيا إلى ضرورة تسقيف أسعار الطاقة التي أصبحت هاجساً حقيقياً للمجتمع بصفة عامة والعمال بصفة خاصة. وهنا يجدر الذكر أن المورد الروسي ألغى قرابة الـ 60% من مقدرات الغاز الطبيعي الموجهة إلى ألمانيا. إن الملاحِظ لكل هذه الوتيرة المتسارعة من الأحداث في المشهد الأوروبي يستشعر بكل وضوح المخاوف المتنامية من فشل اقتصادي محتمل في أقطاب (دول) أوروبية لا تزال ترافع بلغة العقوبات والمواجهة ضد الموقف الروسي الواضح تجاه سياسات هذه الأخيرة على الصعيدين الأمني والاقتصادي. لنتوجه إلى التساؤل عما ستعيشه شركات الطاقة الأوروبية عموما من ضغوط عويصة نتيجة تراجع حجم الإمدادات الروسية مع ارتفاع الأسعار الطاقوية بصورة متصاعدة غير قابلة للاستيعاب.

إن ارتفاع الأسعار في مجال اليورو الاقتصادي لنسب تقرب الـ 10% سنويا تضغط على التركيبة المجتمعية الأوروبية بطريقة مباشرة ليفتح بذلك أبواباً متفاوتة بين تراجع معدلات السلم الاجتماعي، وعدم الرضا الوظيفي، واختلال سلاسل الإنتاج وحتى لاحتمال حدوث أزمات في بعض الشركات في القطاعات المتعلقة بالطاقة والغاز. أرقام وقراءات طالما تعلقت في مخيلة القارئ العربي بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، واليوم ها هي الأزمة الأوكرانية عقب العملية الروسية هناك تفرض واقعاً مخالفاً لما كنا نراه ونستقبله. ليبقى التساؤل، الذي يراود أغلب المتابعين للشأن الاقتصادي الأوروبي، بخصوص ما تحمله المرحلة المقبلة للوضع الأوروبي الحرج جراء بوادر النظام العالمي متعدد الأقطاب الذي بدأ يتشكل قطعاً. بعدما شهد العالم رفع الميزانية العسكرية البريطانية بقيمة 16.5 مليار جنيه إسترليني يتم إضافتها إلى ميزانية 42 مليار جنيه إسترليني سنوياً، وكذا الطرف الألماني الذي دفع بميزانيته العسكرية إلى 100 مليار يورو في وقت يعاني فيه الوضع الاقتصادي الألماني وكذا البريطاني الأمرّين.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي