تابعنا
تستمر عملية نبع السلام رغم اعتراض وتحفظ عدد من الأطراف الإقليمية والدولية، لكن أنقرة تدرك أن الموقف الأمريكي بالغ التأثير في العملية سياسياً وميدانياً، ولذلك تتابعه من كثب وتحاول قدر الإمكان الإسراع في العملية تحسباً لاحتمال تبدله.

منذ أشهر، تهدد تركيا بعملية عسكرية في منبج ومناطق شرق الفرات ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي تشكل وحدات الحماية "الإرهابية" مكوّنها الرئيس. عملية نبع السلام التي بدأتها تركيا الأربعاء الفائت تعتبر الحلقة الثالثة، بعد عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، في استيراتيجيتها لمواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي PYD الانفصالي في سوريا وذلك من خلال إنشاء منطقة آمنة خالية من وجود التنظيمات الإرهابية، ومكان لإيواء عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين.

ورغم إعلانها أكثر من مرة استكمالها الاستعدادات اللوجستية والميدانية وتحديد سقوف زمنية لها، إلا أن ساعة الصفر تأخرت مراراً، تارة بناء على طلب من الرئيس الأمريكي وفق تصريح وزير الخارجية مولود جاووش أوغلو، وتارة أخرى إثر التفاهمات الأولية بين أنقرة وواشنطن حول المنطقة الآمنة شمال شرق سوريا.

بيد أن ذلك لا يكفي لوحده تفسيراً لتأخير العملية وتأجيلها أكثر من مرة، وإنما يمكن رصد عدة تحديات مهمة أمام العملية، وأهمها ثلاثة: الوجود الأمريكي العسكري في المنطقة والرفض الدولي المتوقع والتحديات الميدانية المتعلقة بقوات قسد تعداداً وانتشاراً وتسليحاً وتدريباً ودعماً.

من بينها، يبقى العامل الأمريكي الأهم والأكثر تأثيراً، من زاوية الوجود الأمريكي على الأرض بما قد يعقّد مسار العملية، والدعم المقدم من قبل واشنطن للميليشيات المسلحة التي ستواجهها العملية، وكذلك لما للموقف الأمريكي من تأثير على الساحة الدولية أكثر من مواقف دول أخرى.

من هذا المنطلق، وتجنباً لأي احتكاك عسكري ولو غير مقصود مع القوات الأمريكية، فقد غلّبت أنقرة الحوار مع واشنطن وخاضت معها جولات كثيرة، قبل أن تصل إلى قناعة بأن الأخيرة تماطلها دون أدنى تغيير في وجهة نظرها. وبسبب الاختلافات الواضحة بين رؤية الرئيس الأمريكي ورأي بعض مؤسساته وفي مقدمتها البنتاغون، كان استثمار أنقرة الواضح في التناغم مع رؤية ترمب بسحب قوات بلاده من سوريا.

ولذلك تحديداً، ورغم بعض الاعتراضات داخل المؤسسة الأمريكية وتحفظ العديد من الأطراف الدولية على العملية، سارعت أنقرة لإطلاقها مستثمرة تصريحات ترمب المتوافقة مع استيراتيجيتها والتي منحتها مسوغات كانت بحاجة إليها.

وإذا كان الموقف الأمريكي مهماً في إطلاق العملية وتحديد ساعة صفرها، فهو مهم كذلك كأحد العوامل المساهمة في تحديد سقفها ومداها، وهنا نتحدث عن ثلاثة مسارات رئيسة:

الأول، تذبذب مواقف ترمب وتناقض تغريداته إضافة لسوابقه في تغيير مواقفه بناء على ضغوط من البنتاغون وغيره من المؤسسات أو أحياناً لأسباب غير معروفة. وهو أمر يبقى وارداً ويمكن أن تكون له ارتدادته على العملية، لا سيما بعد المعارضة الشديدة لموقفه حتى من قبل الجمهوريين الذين يحتاج لدعمهم ضد مسار عزله الذي بدأه الديمقراطيون.

الثاني، موقف البنتاغون المعروف بتأييده لقوات "قسد"، وتأثيره على رأي ترمب كما حصل سابقاً في أكثر من محطة.

الثالث، موقف أطراف فاعلة في الكونغرس وخصوصاً السيناتور ليندسي غراهام الذي هدد تركيا بـ"عقوبات شديدة" وقدم مشروع قرار بهذا الخصوص مكوّن من 8 مواد.

بنتاج العوامل الثلاثة، يمكن القول إن أنقرة لا تثق بثبات موقف ترمب وما يمكن أن يؤول إليه قرار الولايات المتحدة بخصوص العملية التي بدأت بالفعل، وخصوصاً أن المعطيات الميدانية تشير حتى اللحظة إلى انسحاب محدود من مناطق حدودية فقط وليس من كامل المنطقة كما يعد ترمب. ذلك أن أي تغير جذري في موقف واشنطن يمكن أن يضيف للعملية تعقيدات كبيرة.

لكل ذلك، وما يمكن أن يعنيه أي تغير كبير في الموقف الأمريكي على العملية برمتها، مدىً ومآلاتٍ وفرصَ نجاحٍ بما في ذلك سيناريو الاستنزاف، كانت حصيلة القلق التركي خطوات واضحة في ما يتعلق بالعملية، أولاها إطلاق العملية دون تأخير كبير فرضاً للأمر الواقع، وثانيها عدم الرد على تغريدات ترمب المتضاربة وخصوصاً تلك التي حملت تهديدات لأنقرة واقتصادها، وعدِّها ضمن سياق الاستهلاك المحلي الساعي لتخفيف الضغوط الداخلية على ترمب وفق تصريح الرئيس أردوغان.

لكن الخطوة الثالثة والأهم في هذا السياق هي تسريع أنقرة لمسار العملية بشكل واضح وملحوظ، حيث اتسع نطاق القصف سريعاً ليصل لمناطق في العمق السوري من جهة، وانتقلت القوات التركية والجيش الوطني السوري المشارك معها سريعاً -بنفس يوم إطلاق العملية- للمرحلة البرية.

في الخلاصة، تستمر عملية نبع السلام رغم اعتراض وتحفظ عدد من الأطراف الإقليمية والدولية، لكن أنقرة تدرك أن الموقف الأمريكي بالغ التأثير في العملية سياسياً وميدانياً، ولذلك تتابعه من كثب وتحاول قدر الإمكان الإسراع في العملية تحسباً لاحتمال تبدله.

ولعل تركيا تعوّل كثيراً على لقاء أردوغان وترمب المرتقب في الولايات المتحدة في 13 من الشهر المقبل، والذي يبدو أنه سيكون مهماً جداً لاستكشاف مدى جدية الرئيس الأمريكي بسحب قوات بلاده من سوريا تماماً، وموقفه الحقيقي من دعم قوات قسد على المدى البعيد. وهما عاملان مهمان لتعيين مدى وحدود العملية التركية التي بدأت برقعة جغرافية محدودة ولكنها تحمل إمكانية التوسيع لتصل لأهداف أنقرة المعلنة منها أي إنشاء منطقة آمنة على طول الحدود المشتركة وبعمق 30-40 كلم نحو الداخل السوري.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي