تابعنا
وكان مشهد العلاقات التركية-اليونانية في مساره التاريخي متغيراً، أحياناً تصل فيه لغة التوتّر إلى مستويات قياسية، وأحياناً أخرى تسيطر لغة المصالح المشتركة والعلاقات الإيجابية.

إذا كانت العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والتاريخية بين اليونان وتركيا قد تشهد بعض التوتر من حين إلى آخر، إلا أنّ عامل الحدود البرية والبحرية المشتركة، والتبادل التجاري والروابط التاريخية والسياسية والثقافية تفرض استمرار سقف معيّن من العلاقات بينهما.

من المناسب قبل الحديث عن العهد الجديد في العلاقات اليونانية-التركية، أن نقدّم صورة عن أبعاد هذه العلاقة ومسارها التاريخي، ولكي نقدم تصوراً عن الأُسس الصحيحة والمتينة، التي يمكن أن تشكّل تحولاً في بناء العلاقات المشتركة.

وفي هذا السياق، عندما ننظر إلى مسار العلاقات التركية-اليونانية، نرى أنّ الإشكاليات تتركز في أربعة مجالات رئيسية:

أولاً- مسألة الحدود والقطاعات البحرية: الخلاف حول النفوذ في المناطق البحرية المتنازَع عليها بين البلدين مستمر إلى اليوم، خصوصاً نقاط الخلاف الرئيسية حول وضعية الجُزر في بحر إيجه، إضافةً إلى ترسيم الحدود البحرية بين البلدين.

ثانياً- وضعية الجُزر: الوجود العسكري اليوناني في كثيرٍ من الجُزر، وممارسة الحقوق السيادية فيها، يعد أحد أسباب الخلاف الرئيسية بين البلدين.

ثالثاً- القضايا الدينية والإثنية: يتعلق الأمر بنقطة الخلاف القديمة المتجدّدة التي تهتم بها تركيا حول حقوق الأقلية التركية والمسلمة التي توجد منذ العهد العثماني في منطقة تراكيا الغربية، إضافةً إلى عمليات التخريب التي طالت الآثار التاريخية الإسلامية في المنطقة، وفي هذا السياق يتمسّك الطرف اليوناني بصلاحياته المتعلقة بوضع بطريركية الروم الأرثوذكس ومدرسة الرهبان في جزيرة هيبلي.

رابعاً- مصادر الطاقة: مع الاكتشافات الكبيرة للغاز في شرق المتوسط ازدادت حدّة التنافس بين الطرفين حول تقاسم الحوض المشترك، وتظهر نقاط الخلاف تحديداً في الصلاحيات في المنطقة البحرية، وآلية استخراج الغاز وخطوط النقل.

خامساً- قضية قبرص: تعدّ هذه القضية أكثر القضايا تعقيداً وأدعاها للتوتر بين الطرفين، فبالإضافة إلى كونها جغرافيا تقع بين تركيا واليونان، فإنّها من الناحية الإثنية والسياسية تعيش انفصالاً عميقاً.

بدأت مشكلة قبرص مع تأسيس جمهورية قبرص عام 1960، إلا أنّ نتيجة الاشتباك الذي حدث عام 1963 فرّقت جغرافياً بين شمال قبرص وجنوبها، مع محاولة اليونان السيطرة على كامل الجزيرة في 1974 تدخلت تركيا عسكرياً، وأطلقت "عملية السلام القبرصية" وأسفرت عن إعلان جمهورية شمال قبرص التركية.

وقد شكّل الاستفتاء الذي نظّمته اليونان عام 2004 بشأن قبرص، عامل تقويضٍ لكلّ الجهود الرامية إلى السلام العادل، وكان سبباً أساسياً لتعقيد المشكلة القبرصية.

وزاد هذا الاستفتاء من وتيرة التوتر بين تركيا واليونان، التي بدورها لم تألُ جهداً في التأثير سلباً على مسار انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بل إنّها تَعدّ انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد خطاً أحمر، نظراً إلى ما تمثله تركيا من عمقٍ إسلامي ما زالت اليونان تحتفظ بنفسٍ عدائي له، وأكبر مثال على ذلك منعها بناء الجوامع في أثينا.

وكان مشهد العلاقات التركية-اليونانية في مساره التاريخي متغيراً، أحياناً تصل فيه لغة التوتّر إلى مستويات قياسية، وأحياناً أخرى تسيطر لغة المصالح المشتركة والعلاقات الإيجابية، وبالتالي يمكن تلخيص أهمّ المراحل التاريخية التي مرّت بها العلاقات التركية اليونانية في:

1. العهود الاستكشافية (1980-1990): في هذا العهد اتجه الطرفان إلى طريقة اللقاءات الاستكشافية الأولية لحل المشكلات البينية، وفي هذه اللقاءات تباحث الطرفان حول الإشكالات الرئيسية، مثل الصلاحيات والقطاعات البحرية، ووضع الجُزر البحرية وغير ذلك.

2. أزمة كارداك (1996): نشبت أزمة في عام 1996 حول موضوع الحدود البحرية لجُزر كارداك، وقد بلغ التوتر مبلغاً أدّى إلى الاستعداد الحربي من الطرفين.

3. عضوية الاتحاد الأوروبي ومرحلة التعافي (2000 وما بعدها): مع بدء تركيا مفاوضات الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، تطوّرت علاقات البلدين بشكل إيجابي، ظهر في الخطوات التي زادت الثقة ومكّنت من التحرّك والتعاون المشترك، في هذه المرحلة تعزّز التعاون الاقتصادي وتطورت الحركة السياحية بين البلدين.

لكنَّ مرحلة التعافي هذه تأثرت كثيراً باستفتاء عام 2004 الذي قوَّضت به اليونان جهود السلام في قبرص، كما أن الجهود السلبية التي بذلتها اليونان ضد انضمام تركيا في الاتحاد الأوروبي انعكست سلباً على علاقات البلدين بمختلف مجالاتها.

4. سنوات التوتر (2019- 2023): في هذه المرحلة تصاعدت وتيرة الخلاف بسبب اكتشافات الطاقة في البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه، وما فتحته من خلاف حول حصة كل دولة، إضافةً إلى الاتفاقيات التي وقَّعها كلا البلدين مع حلفائه، فضلاً عن التوتر العسكري المتمثل في المناورات العسكرية ودخول السفن الحربية وتسليح الجزر، علاوةً عن مسألة اللاجئين.

وكما ذكرنا سابقاً، تُعد العلاقات التركية-اليونانية ذات تاريخ معقَّد وتتمتع بتنازعات مختلفة. وفي هذا السياق، يُمكن القول إنّه يوجد كثير من التحديات والصعوبات أمام تحقيق علاقات جيدة بين البلدين، ويمكن القول أيضاً إنّ هناك كثيراً من العوائق والمعوقات التي تواجه هذا الهدف.

ومع ذلك، فإنّ اعتماد نهج النقاش والتفاهم المتبادَل والمصلحة المشتركة والتوافق والمنهج الموجَّه نحو الحل، عبر ترك المجالات المختلف حولها جانباً ورؤية الجانب الممتلئ من الكأس، سيكون ذا أهمية كبيرة في تطوير العلاقات وتحقيق الاستقرار الإقليمي.

وفي الوقت الحاضر، تُظهر تهاني الزعيمَين المتبادلة وقرارهما الاجتماع في قمة الناتو في 11 يوليو/تموز، بعد فوزهما في الانتخابات، بالإضافة إلى التصريحات الإيجابية بين الطرفين، أنّ هناك زخماً إيجابياً في العلاقات خلال الفترة الجديدة.

صرّح الرئيس أردوغان في الآونة الأخيرة، بأنّه سيرسم سياسة خارجية تتجه نحو استراتيجية محايدة وشاملة أكثر مع مراعاة الظروف العالمية والإقليمية، وإقامة علاقات أفضل مع دول المنطقة، مثل الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية ومصر وأرمينيا، وذلك من خلال إبرام اتفاقيات سياسية واقتصادية جديدة.

وبناءً على هذا التفكير يعد التواصل مع اليونان في الفترة الجديدة ممكناً ومعقولاً، ومن الملحوظ أنّه في ضوء الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي يعانيها البلدان، فإنّ السعي إلى إيجاد تواصل وتوافق جديد بناءً على المصالح المشتركة ومبدأ الربح المتبادل، وتجاهل المسائل الخلافية، أصبح أمراً لا مفرّ منه.

تركيا، تواصلت مع دول المنطقة على أساس القانون الدولي والتوزيع العادل للثروات والاحترام المتبادل ومبدأ الربح المتبادل، وقد وقَّعت في هذا السياق اتفاقيات جديدة وحاولت فتح الأبواب لتشكيل تحالفات إقليمية معيّنة بصفتها قوة إقليمية قادرة على التأثير في التوازنات العالمية، وتعمل على الدخول في عملية شراكة مع دول مثل ليبيا ومصر وإسرائيل فيما يتعلق بالاستخراج والتشغيل والنقل والتسويق للغاز الطبيعي المكتشَف في البحر المتوسط.

إذا اتخذت اليونان موقفاً سلبياً تجاه تركيا في علاقتهما، فستجعل نفسها خارج المعادلة، وفي هذا السياق ستكون الأفضلية لصالح اليونان إذا تخلّت عن التصريحات الرناّنة التي تأتي من الغرب وبنت خطاباً يتناسب مع الديناميات السياسية والاقتصادية الحقيقية لها وراجعت علاقتها بناءً على هذه الحالة.

في الخلاصة، رغم عدم وضوح مسار العلاقات التركية-اليونانية في الفترة الجديدة بسبب زيادة الخطوط الحمراء، فإنّه يمكن تحقيقها على أرضية صحية جزئياً من خلال إظهار الإرادة السياسية وتدخل عوامل متعددة يمكن تلخيصها كالتالي:

1. استمرار الحوار. من المهم أن تستمر المحادثات التفاوضية بين تركيا واليونان، وأن يبقى الطرفان على اتصال متبادل للحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة.

2. يمكن أن تستفيد تركيا واليونان من جهود الوساطة والدعم التي تقدمها جهات دولية، ويمكن أن يسهم الاتحاد الأوروبي (EU) وحلف شمال الأطلسي (NATO) وغيرهما من مؤسسات دولية في تحسين علاقات تركيا واليونان.

3. تأكيد المصالح المشتركة. تمتلك تركيا واليونان مصالح مشتركة في مجالات الاستقرار الإقليمي والأمن في مجال الطاقة ومكافحة الإرهاب، ويمكن أن يوفّر التعاون في هذه المجالات فرصاً لتعزيز العلاقات وتقديم حلول للنتائج.

4. التعاون الاقتصادي. يمكن أن يُسهم تعميق العلاقات الاقتصادية بين تركيا واليونان وزيادة التجارة في تقدّم العلاقات في اتجاه إيجابي، ويمكن أن تزيد المشاريع المشتركة والاستثمارات واتفاقيات التجارة من التبادل بين البلدين.

5. التفاعل الثقافي والسياحة. يمكن أن يُسهم تشجيع التفاعل الثقافي والسياحة بين الشعبين التركي واليوناني في تعزيز العلاقات بين الأفراد، ويمكن أن يُسهم التعاون في مجالات الفعاليات الثقافية والفنون والرياضة وتبادل الشباب في بناء علاقات ودية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً