تابعنا
مضى عام على انطلاق مسيرات العودة التي شكلت عنواناً فارقاً في التجربة الفلسطينية المعاصرة في إطار ما يُعرف بالمقاومة الشعبية أو السلمية. وهي تجربة نوعية تستحق الوقوف عندها ودراستها واستخلاص العبر منها والبناء عليها في المستقبل.

بعد عام من المسيرات، حان الوقت لعمل مراجعة شاملة للتجربة، واستخراج أفضل ما فيها من مزايا، وبناء استراتيجية واضحة محددة تتناسب فيها المنجزات المتوقعة مع الأثمان والتكاليف المحتملة. فمع إدراكنا الكامل أننا في مرحلة التضحيات، إلا أن القوى الشعبية والمقاومة يجب أن تملك أقصى درجات الكفاءة والفعالية، وأن يوضع كل جهد ومال وتضحية في الموضع الأفضل، خصوصاً في ضوء ما تعانيه المقاومة الفلسطينية من استهداف شامل، ومن نقص في القدرات والإمكانات والتمويل، مقابل ما يملكه الخصوم من أدوات.

لا بدّ من البحث عن خطوط إبداعية جديدة، ومن تجديد الزخم الإعلامي، وتفعيل التحرك السياسي. ولا بأس أن تتضمن المراجعات إمكانية عمل المسيرات في مناسبات محددة وبتحشيدات مضاعفة، وإمكانية كسر السياج الحدودي في فعاليات مليونية. وكذلك إعادة تفعيل المسيرات في الضفة الغربية وفي الشتات الفلسطيني.

فالمسيرات الجماهرية التي عُرفت لاحقا بمسيرات العودة بدأت كفكرة شبابية نضالية سلمية تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي في قطاع غزة في كانون الثاني/يناير 2018، ولقيت تجاوباً واسعاً، وهدفت إلى تحقيق عودة اللاجئين الفلسطينيين فعلياً وبشكل سلمي وتحت العلم الفلسطيني، إلى أرضهم وبيوتهم التي أُخرجوا منها في حرب 1948.

وسعت إلى أن يتمّ تنظيم المسيرات في قطاع غزة والضفة الغربية والشتات الفلسطيني بشكل متزامن. في قطاع غزة اتخذت الفكرة شكلاً عملياً، حيث البيئة الحاضنة للمقاومة، وحيث الحصار الخانق، وحيث إن أكثر من ثلثي أبناء القطاع هم من لاجئي 1948. تشكلت اللجنة التنسيقية العليا لمسيرة العودة الكبرى؛ وأكدت على أنها حالة جماهيرية غير فصائلية، تستهدف التحشيد الواسع للاجئين، والتقدم التدريجي باتجاه الحدود، اعتباراً من 30 آذار/مارس 2018 لتصل ذروتها في 15أيار/مايو من العام نفسه، على شكل مسيرة مليونية تقتحم الحدود، وتفرض حق العودة بالأمر الواقع.

إن القوى الشعبية والمقاومة يجب أن تملك أقصى درجات الكفاءة والفعالية وأن يوضع كل جهد ومال وتضحية في الموضع الأفضل خصوصاً في ضوء ما تعانيه المقاومة الفلسطينية من استهداف شامل.

محسن صالح

وفي 17آذار/مارس 2018 انضمّت الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة للمسيرة، وتشكل إطار جديد هو "الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار". وبالرغم من الحرص على طبيعتها الشعبية السلمية، إلا أن انضمام الفصائل لها أعطاها بُعداً مقاوماً؛ كما اتخذت في القطاع بُعداً محلياً بإضافة هدف كسر الحصار إلى اسمها.

مكاسب ومنجزات:

حققت مسيرة العودة إقبالاً جماهيرياً واسعاً خصوصاً في قطاع غزة، وتفاعلت معها كافة الشرائح الاجتماعية. وعبرت بشكل صادق وقوي عن تمسك الشعب الفلسطيني بحقّ العودة. وحدث تحشيد كبير في لبنان، وفعاليات مصاحبة في الأردن.

كما تجلت الوحدة الوطنية في المسيرات، فكانت عنصر التقاء واتفاق بين قوى المجتمع المدني والفعاليات الشعبية والفصائل الفلسطينية؛ وهو ما شكّل قاعدة يمكن البناء عليها وتوسيعها، لبناء الثقة والالتقاء على "المشترك" وإنجاحه، بما يُعزز الخطوات باتجاه إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني.

وتميزت هذه المسيرات بالامتداد الزمني، فتواصلت كل يوم جمعة، على مدى51 أسبوعاً دونما توقف، وبتفاعل شعبي جيد (قياساً بكثرة الفعاليات). وبالرغم من تفاوت درجات المشاركة، إلا أن حالة المشاركة والإصرار على المضي فيها، استمرت بشكل يبعث على التقدير والإعجاب.

ومن ناحية أخرى، فقد تميزت المسيرات بالإبداع، إذ ترافقت معها فعاليات إبداعية، كالطائرات الورقية والبالونات والإرباك الليلي... التي شكلت وسائل مقاومة شعبية، تسببت بخسارة الاحتلال الإسرائيلي لعشرات الملايين من الدولارات؛ كما ترافقت المسيرات مع إبداعات فنية وأنشطة اجتماعية مختلفة.

وسلطت المسيرات الضوء بشكل أكبر على حق اللاجئين في العودة لأرضهم، وكشفت الوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي، وتلقى المتظاهرون دعماً وتعاطفاً شعبياً عربياً وإسلامياً ودولياً واسعاً، كما وُوجه الصهاينة بإدانات عالمية على سلوكهم العدواني والوحشي تجاه المتظاهرين السلميين. واعتمد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قراراً بإدانة الاحتلال الإسرائيلي بسبب ممارساته ضد المتظاهرين.

وقد أربك الأداء القوي للمسيرات، خصوصاً في أسابيعها الأولى، المسار الذي كان مرسوماً لـ"صفقة القرن"، فأسهم في إيجاد بيئة فلسطينية "مشتعلة"، وفي ترسيخ البيئة الرافضة للتنازل عن الثوابت، وفي إيجاد بيئة شعبية عربية داعمة، أحرجت العديد من الأنظمة التي كانت متساوقة مع مسار الصفقة. وبالتالي كانت المسيرات من الأسباب التي دفعت لتأجيل الإعلان عن الصفقة، لانعدام الشروط الأساسية المتوفرة لنجاحها.

وكان يراد للحصار وللعقوبات المفروضة على القطاع، أن تؤدي إلى تفجير الأوضاع، وأن يثور الناس ضد خط المقاومة الذي يدير القطاع، فيسقطوه؛ لتحلّ مكانه سلطة رام الله الملتزمة بمسار التسوية، دون أي ضمانات لحماية سلاح المقاومة، ولا لشراكة وطنية حقيقية على أساس اتفاق المصالحة الموقع سنة 2011. غير أن مسيرات العودة وجَّهت الغضب الجماهيري ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقدمت نموذجاً جديداً للتلاحم بين الجماهير والمقاومة.

وقد أدت مسيرات العودة إلى اضطرار أطراف الحصار لتخفيفه، وفصل الجانب الإنساني عن الجانب السياسي، ولو مؤقتاً، وبالتالي تحسين بعض الظروف المعيشية، المتعلقة بالكهرباء ودخول البضائع وفتح المعابر. وبالرغم من أن ذلك كان مكاسب جزئية، إلا أنها كانت اعترافاً من الجهات المُحاصِرة بتأثير وفعالية مسيرات العودة.

انتقادات:

تتلخص أبرز الانتقادات الموجهة لمسيرات العودة في أن الأثمان التي دفعتها كانت أكبر من المكاسب التي حققتها. فخلال عام من مسيرات العودة ومنذ 30 آذار/مارس 2018 وحتى 22 آذار/مارس 2019 استُشهد في قطاع غزة نحو 270 شهيداً منهم 196في مسيرات العودة؛ وتشير الإحصائيات التي نشرتها بعض المصادر الإعلامية ووزارة الصحة الفلسطينية إلى وقوع نحو 30 ألف جريح (أما المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فيتحدث عن 11,427جريحاً، ويتحدث مركز الميزان عن 15,234جريحاً)، بينهم أكثر من خمسمائة إصابة خطيرة.

كما يرى الناقدون أن المسيرات انحرفت عن هدفها الاستراتيجي في تحقيق العودة لفلسطين المحتلة 1948، إلى أهداف تكتيكية مرتبطة بتخفيف الحصار، وإنجاز هدنة، وزيادة ساعات الكهرباء، وتشغيل المعابر وحركة الأفراد والبضائع، وتوسيع مساحة الصيد البحري ... وغيرها. وهو ما أفقد المسيرات الهدف الجوهري الذي وُجدت لأجله.

أصبحت مسيرات العودة تواجه مخاطر إفراغها من مضمونها وإضعاف تأثيرها مع ارتفاع تكاليفها مقابل ما تحققه من منجزات

محسن صالح

ثم إن المسيرات التي كانت يفترض أن تنطلق بقوة في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، قد اقتصر أمرها فعلياً على قطاع غزة، فيما جرت محاولات محدودة نجحت سلطة رام الله والأنظمة العربية في احتوائها وإيقاف زخمها بسرعة.

ومن جهة أخرى، فقد تمكن الاحتلال الإسرائيلي والقوى التي تنسق معه من احتواء المسيرات، بعد بضعة أشهر من انطلاقتها، ونجح في وضعها تحت سقف يُمكن تحَمُّله والتعايش معه؛ وبالتالي لم تعد تشكل مع الزمن خطراً عليه أو وضعاً يؤرقه، بل أصبحت بدرجة ما عبئاً على أصحابها.

وتراجع التأثير السياسي للمسيرات، بحيث لم تعد ورقة قوة ولا أداة ضغط فاعلة كما كانت سابقاً. كما تراجع تأثيرها الإعلامي، وانخفضت التغطيات الإعلامية المصاحبة لها. وهذا متوقع في ضوء تكرارها أكثر من خمسين مرة؛ لتصبح مع الزمن خبراً إعلامياً عادياً.

وفي الأشهر الأخيرة، عانت المسيرات من رتابة نسقها، ومن المعرفة المسبقة لمعظم برامجها والنتائج المتوقعة منها؛ ما عدا بعض الاستثناءات.

ولذلك، أصبحت مسيرات العودة تواجه مخاطر إفراغها من مضمونها، وإضعاف تأثيرها؛ مع ارتفاع تكاليفها مقابل ما تحققه من منجزات. كما اتسعت فرص تجاوزها لدى الخصوم والأعداء. حتى إن التيار المؤيد لسلطة رام الله في القطاع وجد وفق حساباته ما يشجعه على القيام بحملة "بدنا نعيش"، التي تهدف في غاياتها النهائية لإسقاط سلطة المقاومة أو حماس في القطاع؛ وهو ما كان مستبعداً جداً ومرفوضاً في الأشهر الأولى للمسيرات. ولذلك، فليس من المستغرب أن يتصاعد الضغط على خط المقاومة في القطاع في الأيام القادمة داخلياً وخارجياً.

وإذا كان ثمة مراهنة على المسيرة المليونية التي دعت لها "الهيئة الوطنية العليا" في 30 آذار/مارس 2019، فإن السؤال الأبرز يبقى عن بناء الرؤية والاستراتيجية التالية لذلك.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً