تابعنا
يبقى العائق الأساسي أمام التقدم في مفاوضات وقف إطلاق النار هو الجانب الإسرائيلي، في ظل سيطرة اليمين المتطرف على الحكومة، ورفضه المطلق تقديم تنازلات جوهرية في ما يتعلق بالحرب أو صفقة تبادل الأسرى.

بعد جولة مفاوضات استمرت أكثر من أسبوع، أعادت إسرائيل وفدها المفاوض من قطر، بعد أن وصلت المحادثات بشأن صفقة تبادل محتملة إلى طريق مسدود، وإعلان حركة حماس أن العرض الإسرائيلي لا يلبي تطلعات الشعب الفلسطيني وأهالي قطاع غزة.

اعتباراً من ١٨ مارس/آذار الماضي، بدأت الجهود الدولية المتعلقة بوقف إطلاق نار في غزة، تأخذ مساراً أكثر حسماً، مع بدء مفاوضات الدوحة بحضور قيادات في حركة حماس، برئاسة الدكتور خليل الحية، نائب رئيس الحركة في غزة، فيما ترأس الوفد الإسرائيلي المفاوض رئيس جهاز الموساد، ديفيد بارنيا. وقد أشارت التوقعات حينها إلى أن المفاوضات قد تستغرق أكثر من أسبوعين، غير أنها لم تمتد لأكثر من 10 أيام، بسبب الفجوات الكبيرة بين الجانبين، بينما يشير تزايد الضغوط الدولية المطالبة بوقف إطلاق النار إلى نفاد الوقت الذي منحه الغرب وأمريكا لتل أبيب لمواصلة عدوانها الوحشي على القطاع.

حراك جاد لكن لا تقدم

ولا تزال دولة الاحتلال الإسرائيلي تضع خطوطاً حمراء عدّة أبطأت إمكانية تحقيق تقدم حاسم تجاه إبرام اتفاق وقف إطلاق النار وإنجاز صفقة لتبادل الأسرى، في ظل تمسك حماس بمطالب محددة مثل وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات وعودة النازحين، وغيرها من المطالب التي أشارت تقارير إلى إبداء الحركة مرونة في آلية تنفيذ بعضها.

وشهد الشهران الماضيان تسارعاً في الحراك المؤيد لوقف إطلاق النار في غزة والوصول إلى صفقة تبادل، فقد كان المسار التفاوضي يأخذ شكلاً أكثر التزاماً للسعي نحو الوصول إلى شكل من أشكال وقف إطلاق النار، بعد أن احتضنت العاصمة الفرنسية باريس اجتماعين لصياغة مقترحات لضمان الوصول مبدئيّاً إلى هدنة، وإنْ لم يوجد بهما حديث عن وقف ممتد ودائم لإطلاق النار، لكنهما وضعا أساساً لذلك.

وفي حين كانت مخرجات الاجتماع الأول غير ملائمة لتطلعات الفلسطينيين والمقاومة، وبصورة خاصة حركة حماس، كونها لم تعالج بشكل واضح أيّاً من المطالب الأساسية المتعلقة بالانسحاب الشامل من قطاع غزة وإدخال المساعدات وتهيئة البنية التحتية، فضلاً عن إعادة الإعمار، فإن مخرجات اجتماع باريس الثاني، الذي ضمّ -كالأول- ممثلين عن أمريكا ودولة الاحتلال الإسرائيلي وقطر ومصر، شهدت مرونة أكثر وتجاوباً جزئيّاً مع مطالب حماس، لكنها في المحصلة لم تكن تلبي الحدّ الأدنى من الاعتبارات التي يمكن القبول بها، حتى وإنْ مهّدت الطريق نحو مواصلة التفاوض للوصول إلى وقف إطلاق نار.

مقترحات وقف إطلاق النار والفجوات القائمة

تضمنت مقترحات اجتماعَي باريس مسودة إطار لاتفاق وقف إطلاق نار مؤقت، وفي حين كانت حماس غائبة عن الاجتماع، فقد تضمنت ردودها على المسودة مقترح تعديلات على النقاط الأساسية للمسودة، التي لا تزال تمثل عامل خلاف نحو المُضي قُدماً لإنجاز وقف إطلاق نار، وتبدأ من عدد الأسرى الذين تطالب حماس بالإفراج عنهم في المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، مقابل عدد محدد من المحتجزين الإسرائيليين.

تضمنت مسودة اتفاق باريس مقترحاً بإبرام صفقة تبادل وفقاً للنسبة التي اتُّفق عليها في الهدنة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي بنسبة 10 إلى واحد، مع وقف مؤقت لإطلاق النار لمدة 40 يوماً، بما يُفضي في نهاية المرحلة الأولى إلى إطلاق سراح 400 أسير تقترح إسرائيل أن يكون بينهم 15 أسيراً فقط ممن يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد على خلفية قتلهم إسرائيليين.

لكن تقارير أشارت إلى رفض حماس تلك الصيغة، ومطالبتها، في مقترح آخر، بإطلاق سراح ما بين 700 وألف أسير، مقابل الإفراج عن إسرائيليين، بينهم نساء وأطفال، إضافة إلى المجندات الإسرائيليات، على أن يكون من بين الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم عشرات من أصحاب الأحكام العالية، أو الذين تصفهم إسرائيل بـ "الملطخة أيديهم بالدماء"

عامل الخلاف الثاني يرتبط بالسماح لعودة النازحين إلى مناطق سُكناهم في شمال غزة، الذي يعتبر مطلباً ذا أولوية قصوى لدى حماس، التي طالبت إسرائيل بالانسحاب من الممر الذي يفصل شمال غزة عن جنوبها، للسماح بعودة النازحين، فيما تقترح تل أبيب عودة تدريجية للأطفال والنساء، ومَن هُم ليسوا في سن التجنيد، وتمثل تلك النقطة واحدة من أبرز نقاط الخلاف في المفاوضات الجارية حاليّاً في الدوحة.

يمكن تفسير أسباب التمسك الإسرائيلي باستمرار فصل شمال قطاع غزة عن جنوبه، ومنع عودة اللاجئين، على اعتباره الورقة الأكثر إلحاحاً وضغطاً على الحاضنة الشعبية للمقاومة من جهة، وبالتالي إمكانية استخدامها ورقة مقايضة فعّالة في مفاوضات وقف إطلاق النار.

من جهة أخرى، فإن حكومة الاحتلال الإسرائيلي سعت منذ الأيام الأولى للحرب إلى الاستفادة من الزخم العسكري والدعم الدبلوماسي الغربي -خصوصاً الأمريكي- إلى تحقيق هدف أكثر استراتيجية عبر تفريغ القطاع من سكانه ودفعهم إلى النزوح نحو مصر، وقد أصدرت مؤسسات بحثية، وكذلك شخصيات سياسية في إسرائيل، عديداً من التوصيات التي تعتبر الحرب فرصة لن تتكرر لإخلاء قطاع غزة من سكانه وتوطينهم قسراً في شمال سيناء.

وبينما أدّت عوامل عدّة، أبرزها صمود أكثر من نصف مليون شخص شمالي القطاع، إلى إفشال المخطط، فإن إسرائيل لا يبدو أنها تراجعت بشكل كبير عن خطتها الطموحة، وأجبرت النساء والأطفال خلال اقتحام مستشفى الشفاء في 18 مارس/آذار على المغادرة إلى ما تزعم أنها مناطق "آمنة" في جنوب القطاع، في الوقت ذاته تمارس سياسة التجويع ضد سكان الشمال على أمل إجبارهم على النزوح من مناطقهم.

إضافة إلى ذلك، فإن البُعد العملياتي حاضر في رفض إسرائيل الانسحاب من ممر "نتساريم" الذي يفصل شمالي قطاع غزة عن جنوبه، لأنها تعتبر وجود قواتها هناك واحدة من أبرز نجاحاتها في الحرب، وأن إبقاء السيطرة عليها سيسهل عملياتها البرية في قلب غزة لاحقاً، وهي جملة الأسباب التي تجعل من مفاوضات انسحاب جيش الاحتلال من تلك المنطقة معقدة وذات قدرة عالية على تفجير مفاوضات وقف إطلاق النار.

إحدى الفجوات الرئيسية الأخرى في مفاوضات الدوحة مرتبطة باستمرارية وقف إطلاق النار، ففي حين تشترط حماس أن يُشرع في بحث وقف دائم وشامل لإطلاق النار في غزة مع انتهاء المرحلة الأولى، فإن الحكومة الإسرائيلية تُصر من طرفها على عدم مناقشة الفكرة، فيما يبدو أن السلوك الإسرائيلي مرتبط بالخشية من أن تؤدي الموافقة على هذا الطلب إلى سقوط الحكومة اليمينية المتطرفة، كما أن استطلاعات الرأي تشير إلى التراجع الكبير في شعبية رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الذي يرى في استمرار الحرب طريقاً وحيداً لتجنب إنهاء مسيرته السياسية إلى الأبد.

لا يزال في المفاوضات عديد من القضايا الخلافية، وإنْ كانت أقل تعقيداً، وبينها مطالبة إسرائيل حماس بقائمة بأسماء المحتجزين الإسرائيليين الأحياء في القطاع، في حين ترفض الأخيرة الطلب لأسباب فنية، كما ينشأ الخلاف حول شكل الانسحاب الإسرائيلي من المناطق التي جرت السيطرة عليها، وأشارت تقارير إلى قبول حماس إعادة تموضع جيش الاحتلال الإسرائيلي خارج المناطق السكنية في القطاع، مع إصرارها على الانسحاب الشامل من القطاع في المرحلة الثالثة التي ستتضمن وقفاً دائماً لإطلاق النار.

وقف إطلاق النار.. مخاض عسير

خلال الأيام الماضية تزايدت الضغوط الدولية على إسرائيل بسبب الجرائم الواسعة التي ترتكبها في قطاع غزة، كما عبّرت دول عدّة ومجموعات دولية صديقة لإسرائيل عن رفضها أي عمل عسكري في رفح، فيما دعم بعضها للمرة الأولى وقفاً شاملاً ونهائيّاً لإطلاق النار، كما تبدت تلك الضغوط مع القرار الصادر عن مجلس الأمن الذي دعا في متنه للمرة الأولى منذ بداية الحرب إلى وقف فوري لإطلاق النار.

وبالتزامن مع المفاوضات التي كانت قد انعقدت في الدوحة، فإن واشنطن، التي يبدو أن علاقتها بالحكومة الإسرائيلية بات يغلب عليها التوتر، عمدت فيما يبدو إلى إرسال تحذير لإسرائيل من خلال تمريرها قرار مجلس الأمن بشأن وقف إطلاق النار دون استخدام الفيتو، كما دعا زعماء برلمان الاتحاد الأوروبي إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة خلال ختام القمة التي عقدت مؤخراً في العاصمة البلجيكية بروكسيل.

فيما لم تستبعد تصريحات المسؤولين الأوروبيين فرض عقوبات على مستوطنين إسرائيليين مسؤولين عن الانتهاكات في الضفة الغربية، وإنْ كانت تلك العقوبات لا تتصل بالحرب مباشرة، لكنها بكل تأكيد رسالة إلى الجانب الإسرائيلي بإمكانية تنفيذ خطوات تصعيدية أكبر بسبب الحرب في غزة، فيما صعّدت كندا الموقف إزاء استمرار الحرب على القطاع وذلك للمرة الأولى منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول عندما أقرت الحكومة هناك وقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل على خلفية الانتهاكات والفظائع المرتكبة في غزة.

بصورة عامة لا يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي في وضع مريح نسبيّاً إزاء أي مفاوضات تتعلق بوقف إطلاق النار التي تضغط فيها واشنطن على تل أبيب للمُضي من أجل إتمامها، غير أن احتماليات التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب لا تزال غير مستبعدة، رغم فشل مفاوضات الدوحة، فيما يبقى العائق الأساسي أمام التقدم في هذا الملف هو الجانب الإسرائيلي في ظل سيطرة اليمين المتطرف على الحكومة، ورفضه المُطلق تقديم تنازلات جوهرية في ما يتعلق بالحرب أو صفقة تبادل الأسرى.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً