تابعنا
يؤكد التقدير الإسرائيلي أن "عملية نبع السلام" ستزيد من نفوذ أنقرة في المنطقة، ويحد من التحركات العسكرية الإسرائيلية ضد القواعد الإيرانية في سوريا والعراق، بل إن إسرائيل باتت ترى نفسها تتشارك مع السعودية في القلق من التخلي الأمريكي عنهما في أيّة لحظة.

تتزايد متابعة الإسرائيليين بصورة مكثفة للتطورات العسكرية التركية الجارية في شمال سوريا، وصدور تصريحات رسمية من أعلى المستويات السياسية والأمنية ضد العملية، واعتبارهم أن الانسحاب الأمريكي من هناك خيانة لحلفائهم الأكراد، وإثبات جديد أنه يزيد اعتماد إسرائيل على نفسها، وليس أمريكا.

السطور التالية تناقش سبب القلق الإسرائيلي من العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، وما الاعتبارات التي تحكم الموقف الإسرائيلي، ولماذا يبدي الإسرائيليون قلقاً حيال ضرب حلفائهم الأكراد، وسبب العلاقة الوثيقة معه، وهل يأتي يوم يتخلى فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن إسرائيل في حال تعرضت لضربة إيرانية، وأين قد يصل مستوى التوتر التركي الإسرائيلي بسبب هذه العملية.

بدا صعباً على كاتب السطور منذ انطلاق العملية العسكرية التركية "نبع السلام" أن يرصد ردود الفعل الإسرائيلية عليها، إلى الحد الذي طغى على الخلافات التي تحياها إسرائيل في ضوء الأزمة السياسية التي تعيشها منذ أشهر، بحيث تصدر جميع القادة السياسيين والحزبيين للتعقيب عليها، واتخاذ مواقف معادية لتركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان.

لقد عبر المسؤولون الإسرائيليون عن رفضهم للعملية العسكرية التركية، معلنين إدانتهم لها، والإعراب عن استعدادهم لتقديم المساعدات للأكراد، في إشارة إلى أن إسرائيل لا تستطيع إغماض عينيها عما يحصل مع الأكراد في المنطقة، لأنه سيؤدي لتكثيف عدم الاستقرار من منظور إسرائيل، مما يتطلب منها استيعاب القواعد الجديدة للعبة في المنطقة، فيما يتعلق بجميع التحديات.

على الصعيد الميداني، نظم أعداد من قدامى محاربي الجيش الإسرائيلي تظاهرة تضامناً مع الأكراد، استجابة لدعوة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، وبحضور ممثل عن الوحدات الكردية، وهذه الاحتجاجات تمت أمام السفارة التركية في تل أبيب، وانطلقت باتجاه السفارة الأمريكية.

وطالب هؤلاء الحكومة الإسرائيلية بالتدخل في الوضع العسكري بشرق سوريا، لأن إسرائيل تمتلك قدرات واسعة قد تساعد الأكراد، وحان الوقت لأن تفعل ذلك، بجانب تشديد الضغوط الدولية على تركيا، وتقديم الذخيرة اللازمة والمعلومات الاستخباراتية والاستشارات العسكرية للأكراد، معربين عن استعدادهم للمساهمة بهذا الجهد.

تواصلت المواقف الإسرائيلية تجاه رفض العملية التركية، بزعم أن إسرائيل مطالبة بأن تخرج بموقف واضح ضد أردوغان، بل إن بعضهم لم يتورع عن شن هجوم لاذع على ترمب بوصفه "خان" الأكراد، وأن الأكراد بحاجة للسلاح والمساعدة العسكرية، و "لا بأس" في ضرب إسرائيل للجيش التركي.

لا يخفي الإسرائيليون قصة غرامهم بالمجموعات المسلحة الكردية منذ مدة طويلة؛ فمنذ بداية الستينيات نشأت بينهما علاقات عسكرية، شملت بعثات مشتركة ومستشارين وسلاحاً، ومستشفى ميدانياً، وبالتالي فإن إسرائيل لا يمكنها أن تجلس مكتوفة الأيدي في ضوء التهديد الجديد المتمثل في الصواريخ الجوالة الإيرانية التي تنطلق من غرب العراق، ولا يمكنها أن تسمح لنفسها بتثبيت عسكري لوجود تركي في سوريا.

لم يتوقف الإسرائيليون في الأيام الأخيرة عن استخلاص الدروس والعبر مما وصفوه "خيانة" الرئيس ترمب لحلفائه الأكراد، صحيح أن الولايات المتحدة لن تنقلب على إسرائيل في اليوم التالي، لكن الأحداث الأخيرة في المنطقة تتطلب من الإسرائيليين التذكر جيداً أن المصالح الأمريكية تأتي وتذهب.

إن التخلي الأمريكي عن الأكراد له تبعات ونتائج خطيرة جداً، تتجاوز بكثير قرارات عديدة اتخذها ترمب، رغم أن الأكراد خدموا بدمائهم المصالح الغربية عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، وهو أمر يُتطلب من إسرائيل التنبه له جيداً، ومعرفة عواقبه.

إن العملية العسكرية التركية شكلت قراراً سيئاً لإسرائيل، وتزيد من التحديات الأمنية العديدة التي تواجهها تل أبيب في المنطقة، فالأكراد تخلت عنهم أمريكا بأكثر الطرق قسوة، ويجب أن يثير ذلك مشكلة جدية لإسرائيل، لأن سياسات ترمب في الشرق الأوسط أثرت سلباً عليها، كما ظهر سابقاً في الهجوم على منشآت النفط السعودية، حينما قررت واشنطن اتخاذ سياسة عدم الرد على تصعيد إيران.

ولذلك تشكل العملية العسكرية التركية درساً لابد لإسرائيل أن تستوعبه، وهو أن الاعتماد على الرئيس الأمريكي عندما يتعلق الأمر بمسائل الوضع الأمني العام مغامرة كبيرة.

صحيح أن أمن إسرائيل لا يعتمد مباشرة على من يسيطر على الحدود التركية وشمال سوريا، التي تبعد أكثر من 500 ميل عن أراضيها، لكن قرار ترمب المفاجئ بسحب القوات الأمريكية هناك، والتخلي عن القوات الكردية، حليف أمريكا القوي في الحرب ضد تنظيم الدولة، تسبب بانطلاق أجراس الإنذار بين المسؤولين الإسرائيليين في تل أبيب.

يبدو سبب قلق الإسرائيليين واضحاً، فهم على مختلف أطيافهم السياسية يتساءلون: إن كانت مثل هذه الخيانة أصابت الأكراد، فما الذي يمنع من أن تصيب حليفاً قوياً آخر لأمريكا؟ على اعتبار أن سلوك ترمب ضد الأكراد يشبه "سكيناً في ظهرنا".

على الصعيد السياسي، شكّل الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا قبيل تنفيذ العملية العسكرية التركية انتكاسة إسرائيلية من العيار الثقيل، لأنه أضر بإسرائيل من خمسة أوجه، أولها تخلي واشنطن عن شركائها، مما قد يكرر الصورة مع إسرائيل ذاتها، وثانيها أنه يعطي نصراً لأردوغان الذي بات يتصرف بشكل متزايد على نحو يتعارض مع المصالح الأمريكية ويتعاون مع روسيا، ويدعم حماس والإخوان المسلمين، ويتصرف بصفته عدواً إقليمياً لإسرائيل.

الضرر الإسرائيلي الثالث من الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا أنه يقوّي محور دمشق وموسكو وطهران، فالأولى تسعى لإعادة السيطرة على الأراضي السورية التي فقدتها في الحرب، والثانية هي راعية الأسد، والثالثة تعمل على تشغيل وإدخال قوات عسكرية لإلحاق الأذى بإسرائيل من الأراضي السورية.

الضرر الرابع الذي شخصته إسرائيل يتعلق بأن الخطوة الأمريكية من شأنها أن تنعش تنظيم الدولة، وتعمل على تسهيل إحيائه، فبعد أن فقد التنظيم سيطرته على المنطقة، تواصل خلاياه النشطة العمل مع وجود الدافع والقدرة على مهاجمة الأهداف الإقليمية والغربية، وقد يتم تجاوز معسكراته التي يسيطر عليها الأكراد، أو التخلي عنها أو تركها للسيطرة التركية.

أما الضرر الإسرائيلي الخامس فهو يتمثل في رسالة خاطئة لحلفاء واشنطن في المنطقة، مفادها أن الولايات المتحدة لن تقف مع شركائها وحلفائها في لحظات مهمة حرجة، بل قد تتخلى عنهم، وبينما تهاجم إيران الناقلات والمنشآت النفطية السعودية في الخليج دون رد من الولايات المتحدة، وتهدد إسرائيل على جبهات عديدة، فإن هذا الانطباع بفك الارتباط الأمريكي قد جعل جميع شركاء أمريكا يشعرون بعدم الارتياح.

لقد تزامنت العملية العسكرية التركية مع توتر متصاعد مع إسرائيل، التي لا تخفي غضبها تجاه السياسة التي ينتهجها الرئيس أردوغان ضد سياستها في المنطقة، لاسيما في مسألة دعم الفلسطينيين، وتثبيت الحق الإسلامي في القدس، وعدم التردد في رفض صفقة القرن الأمريكية، مما دفع أوساطاً إسرائيلية لاعتبار أردوغان عدواً لدوداً لإسرائيل، حتى جاء التراجع الأمريكي أمام تركيا ليزيد الطين بلة أمام تل أبيب.

يشكل استمرار العملية العسكرية التركية تحدياً للنفوذ الإسرائيلي في المنطقة، خاصة مع خسارتهم لورقة الأكراد الذين اعتبرتهم إسرائيل رأس حربة لتنفيذ مخططاتهم الإقليمية في المنطقة، الأمر الذي سيجعل دوائر صنع القرار في تل أبيب في حالة انشغال دائم للبحث في بدائلها القادمة، خاصة مع ضيق خياراتها مع وجود رئيس أرعن متقلب المزاج مثل ترمب، قد يقدم على قرارات تفاجئ الإسرائيليين كما سواهم.

لم ينفك الإسرائيليون عن الإعراب عن انتقادهم ورفضهم للسلوك العسكري التركي في شمال سوريا، لأنه يعني زيادة في الدور التركي لصياغة مستقبل سوريا الغد من جهة، ويقلص الدور الإسرائيلي وحلفائها في هذا الملف الشائك، الأمر الذي قد يشجع الأتراك على المضي قدماً في زيادة نفوذهم على ما سواه لدى جارتهم السورية، خاصة وقد أعلن أردوغان أن أحد أهم أهداف عملية نبع السلام هو إعادة بسط سيادة الدولة السورية على أراضيها، في حين كانت تسعى إسرائيل للإبقاء على حالة التشرذم والتشظي لدى جارتها الشمالية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي