أعادت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتكررة، في ذروة الأزمة التي تواجهها إسرائيل وحربها على قطاع غزة، حول "جريمة أوسلو" وأخطاء الآخرين، إلى الأذهان الطبيعة الخاصة التي يتمتع بها نتنياهو، وقدرته على حرف الأنظار عن مسؤوليته الشخصية عن الأزمات التي تحدث في عهده، من خلال الهروب إلى الماضي وتعمُّد إثارة الهلع والخوف الغريزي لدى الجمهور من أخطار متخيلة، على حساب الواقع الذي يريد القفز عنه وعن استحقاقاته.
يعزو السياسيون والمحللون هذه التصريحات، وإصرار نتنياهو على استحضار اتفاقية أوسلو والمبالغة في "أضرارها" بوصفها بـ"أم الخطايا" إلى محاولته التهرب من مسؤوليته عن الأزمة الحالية، والمصير الذي ينتظره في اليوم التالي للحرب، وذلك من خلال حشد جمهور اليمين خلفه والتذكير بـ"مأثرته" في إجهاض عملية السلام وإفراغها من مضمونها، لتكريس صورته بوصفه زعيماً أوحدَ قادراً على قول "لا" في وجه بايدن والإدارة الأمريكية.
مراوغ ومتقلّب
تجاوز وجود نتنياهو في الحكم ومنصبه رئيساً لوزراء إسرائيل الفترة التي أمضاها مؤسس الدولة الأول ديفيد بن غوريون، ليصبح صاحب أطول فترة حكم في تاريخ إسرائيل، إذ خدم في هذه المهمة لمدة تزيد على 16 عاماً.
تُظهِر سنوات حكم نتنياهو الطويلة قدرة غير عادية على المراوغة والتقلب مع موهبة خاصة في الظهور أمام الجمهور والخطابة والمناورة، ومثابرة على تركيز الصلاحيات في يده وجعل شخصه محور أي حكومة أو ائتلاف.
هذه الصفات المتكررة التي لازمت نتنياهو في ظروف وفترات زمنية مختلفة، تثبت ما توصل إليه الخبير في تحليل شخصيات القادة شاؤول كمحي، الذي يتمتع بسمعة عالمية وخدم لسنوات طويلة في جهاز الاستخبارات الإسرائيلية، إذ قدّم قراءتين يفصل بينهما 19 عاماً لشخصية نتنياهو، استطاع من خلالهما أن يفسر قدرته على البقاء وتجاوز الأزمات الداخلية والخارجية، وأن يسجل هذا الرقم القياسي في البقاء على كرسي الحكم.
ويصف كمحي نتنياهو بأنه يميل إلى التفرد وتركيز الصلاحيات بيده، وأنه يفضل اللعب بشكل منفرد، من دون إعطاء فريقه المحيط به -الذي يختاره لاعتبارات مبنية على الولاء- أي دور في اتخاذ القرارات، وهذا ما يمكّنه من إعطاء وعود متناقضة لا يفي بها، وهو ما جعل صفة "كاذب" ملازمة لشخصيته، لدرجة أن حليفه المقرب بتسلئيل سموتريتش وصفه بـ"الكاذب ابن الكاذب".
اندفاع إلى القيادة
وُلد نتنياهو في مدينة تل أبيب عام 1949، وعاش سنوات طفولته الأولى هو وشقيقه يوني في القدس التي كانت مقسمة وجزؤها الشرقي تحت حكم الأردن.
عاش في كنف والده بنتسيون نتنياهو، وهو مؤرخ مغمور ودائم الشعور بالمرارة بسبب تهميشه بعد أن شغل موقع ممثل الحركة التصحيحية اليمينية التي أسسها زئيف جابوتنسمكي في الحرب العالمية الثانية، ومن والده تشرب نتنياهو الحس بالتاريخ والأثر الذي يتركه القادة في الأحداث الكبرى.
تأثر نتنياهو بشقيقه الأكبر يوني الذي ترأس وحدة خاصة وقُتل في أوغندا في عملية تحرير رهائن عام 1976.
سافر إلى الولايات المتحدة بعد مقتل شقيقه الذي كان زميلاً له في الوحدة المختارة ذاتها، وهناك أتقن اللغة الإنجليزية بطلاقة وتشرب نمط الحياة الأمريكي وانخرط في الحياة السياسية والإعلامية.
مقابل الحياة السياسية الرتيبة والقيادة الجماعية المتقشفة والمتفانية التي كان يجسدها قادة الليكود في تلك الفترة، اجتاح نتنياهو الحياة السياسية على الطريقة الأمريكية القائمة على محورية القائد الفرد الذي يتقن الاستعراض والبلاغة والقدرة على جذب الجمهور.
مثّل نتنياهو إسرائيل في الأمم المتحدة في الانتفاضة الأولى التي نقلت القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي، وفضحت الاحتلال الذي اقترنت صورته بتكسير العظام، وأظهر حينها براعة في مخاطبة الإعلام الغربي عبر إجادته التامة للغة الإنجليزية واللكنة الأمريكية.
من موقعه سفيراً في الأمم المتحدة في نهاية الثمانينات، تطلَّع نتنياهو إلى قيادة الدولة، وكسر نمط الدعاية الانتخابية الرتيبة، والتراتبية المتمحورة حول جيل المؤسسين، فاستطاع الشاب المندفع، الذي لا يحترم جيل المؤسسين والقادم من خلف البحار، اجتياح مركز الليكود وتهميش الصف القيادي الأول في الحزب ممن عُرفوا بـ"أمراء الليكود"، أمثال ليمور ليفنات وروبي ريفلين ودافيد ليفي ودان مريدور.
نجح نتنياهو عام 1996 في الصعود إلى قمة الهرم وتولي رئاسة الحكومة، وأن ينتزع حكم اليسار الذي ورثه شيمون بيريز عن أول رئيس وزراء يجري اغتياله في إسرائيل بسبب موقفه السياسي وتوقيعه اتفاق أوسلو (إسحاق رابين).
وكان نتنياهو من أشد المعارضين لاتفاق أوسلو، ففي الأسابيع التي سبقت اغتيال رابين حضر مسيرة سياسية يمينية في القدس، بصفته حينها رئيساً للمعارضة، إذ وصف المتظاهرون رابين بأنه "خائن" و"قاتل" و"نازي" لتوقيعه اتفاق السلام.
غرور أوقعه في الفساد
أثار صعود نجم نتنياهو السريع في الحياة السياسية الإسرائيلية كثيراً من الجدل حول شخصيته، التي درسها الخبير في تحليل شخصيات القادة شاؤول كمحي في عام 1999، وعاد ودرسها في 2019، ليخلص بعد عشرين عاماً إلى أن نتنياهو الذي ترأس الليكود والحكومة وهو في الأربعينيات من عمره يمتاز بـ"ذكاء مميز"، لكن ليس هذا الذكاء هو ما أهّله لأنْ ينجو كل مرة من جديد من الأزمات التي لاحقته في سنوات حكمه الطويلة.
يتعمد نتنياهو خلق الصراعات بين الوزارات والأشخاص الذين يولّيهم هذه الوزارات، كما أنه يرى بنفسه شخصاً قادراً على القيام بما يعجز عنه الآخرون، وأنه يرى ما لا يرون، وأن وجوده في الحكم هو بمثابة خدمة يسديها للدولة.
وكان أبرز مثال لقرارات نتنياهو في التعيين الوزاري هو قراره أن يتناوب إيلي كوهين على منصب وزير الخارجية مع وزير الطاقة يسرائيل كاتس، وهو القرار الذي لم يلقَ رضا كوهين تماماً، إلّا أن نتنياهو بهذه العملية لا يريد إعطاء يسرائيل كاتس صلاحيات طويلة الأمد، إذ يقدّم الأخير نفسه مرشحاً طبيعياً لخلافة نتنياهو في تزعم حزب الليكود مستقبلاً، ويهدف نتنياهو بهذه الحركة إلى إضعافه.
كما عيّن وزيراً إضافياً في وزارة الدفاع هو بتسلئيل سموتريتش، إلى جانب يؤاف جالنت الذي يُعتبر أقوى شخصية أمنية في الليكود.
يجيد نتنياهو الظهور أمام الجمهور بلغة بليغة وأسلوب جذّاب، كما أنه مولع بالإعلام ويدرك أهميته ويخشى من انقلابه عليه، وهذا ما يفسر محاولته رشوة موقع واللا والتورط في قضية فساد ما زال يحاكم عليها حتى الآن.
هذه الصفات والغرور الذي يميّزه، وعشقه للحياة المريحة ورغد العيش، ورّطته في قضايا فساد تتعلق بتلقي هدايا وخيانة الأمانة وتلقي الرشوة، وكانت محاكمته في هذه القضايا استؤنفت في 4 ديسمبر/كانون الأول الحالي بعد أن توقفت المحاكم الإسرائيلية عن النظر في القضايا غير العاجلة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وبدأت التحقيقات في سلوك نتنياهو عام 2016، عندما تابعت السلطات مزاعم بأنه كان معتاداً تقديم خدمات رسمية لرجال الأعمال الأثرياء مقابل هدايا، مثل السيجار والشمبانيا والأساور والحقائب والملابس الفاخرة وتعطيل إجراءات التحقيق والقضائية.
وتورط خلال سنوات حكمه بعلاقات مع أثرياء مثل آرنون ميلشن، وتلقى منه هدايا وجواهر له ولزوجته تتجاوز قيمتها 280 ألف دولار، كما تلقى من رجل الأعمال جيمس باكر هدايا بقيمة 112 ألف دولار، واتُّهم بالرشوة والاحتيال وإساءة الأمانة وفق إفادات نشرتها الشرطة الإسرائيلية.
كما أن حسه التآمري، وعدم وثوقه بحلفائه وجنون المطاردة الذي يعيشه، كل هذا جعله يحوّل حلفاءه ومساعديه ورجال سرّه، أمثال أفيغدور ليبرمان وإيليت شاكيد ونفتالي بينت، إلى ألدّ خصومه ومنافسيه في الحلبة السياسية، كما أنه دفعه إلى الاستبدال بائتلافه وحلفائه الطبيعيين في محطات سياسية مهمة وتقريب خصوم سرعان ما تحولوا إلى حلفاء.
أزمة الإصلاح القضائي والوصول إلى 7 أكتوبر
قادت انتهازية نتنياهو ورغبته في العودة إلى الحكم بعد أزمة سياسية استمرت عاماً ونصفاً إلى تشكيل تحالف منبوذ دولياً وداخلياً من هوامش اليمين الفاشي أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهو ما فجّر موجة احتجاجات غير مسبوقة مزقت المجتمع الإسرائيلي بشكل عميق، وهدّدت بتقويض منظومته القضائية ووحدته وشق جيشه.
وكانت خطة الإصلاح القضائي التي أقرّها نتنياهو قُوبلت بموجة احتجاجات واسعة في إسرائيل، نظراً إلى تقويض الجهاز القضائي والمحكمة العليا، إذ تقول المعارضة إنّ هذه الإصلاحات "ستحوّل إسرائيل إلى ديكتاتورية".
أدّت سياسات نتنياهو الداخلية والخارجية ومعاداته للفلسطينيين وتشكيل حكومة أقفلت الباب أمام أي حل سياسي، وتمادت في انتهاكاتها للمقدسات وتهميش القضية الفلسطينية، إلى تفجر الحرب التي وصفها نتنياهو أكثر من مرة بأنها "حرب وجود واستقلال ثانية".
وعقب عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول شهدت شوارع القدس الغربية وتل أبيب احتجاجات منددة تطالب بالتحرك لإعادة المختطفين الإسرائيليين من قِبل حركة حماس، إذ أدت هذه الحرب إلى غضب شعبيّ كبير تجاه نتنياهو وحكومته.
وفي استطلاع أجرته القناة 13 الإخبارية الإسرائيلية، قال 76% من المشاركين إنّ نتنياهو بحاجة إلى الاستقالة، إما في نهاية الحرب (47% صوتوا لهذا الخيار) وإما على الفور (29% صوتوا لهذا الخيار).
وخلال مقابلة أجرتها صحيفة هآرتس مع وزير الدفاع السابق موشيه يعالون، الذي تنحاز آراؤه السياسية إلى يمين نتنياهو، وصف نتنياهو بأنه "تهديد وجوديّ" للبلاد.
ويرى خبراء في الشأن الإسرائيلي أن سياسات حكومة نتنياهو المتطرفة أدت إلى تمزيق المجتمع الإسرائيلي، وهو ما وضعه أمام تقاطع لا مفر منه هذه المرة، بحيث أصبح هامش المناورة أمامه يضيق ويقربه من السجن أو الخروج من الحياة السياسية وقضاء ما بقي من عمره بين جلسات المحاكمة التي تنظر في قضايا الفساد، وبين المثول أمام لجان التحقيق التي ستنظر في مسؤوليته عن فشل 7 أكتوبر الأمني والاستخباري "الأكبر والأخطر" في تاريخ إسرائيل.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.