تابعنا
ربما تتوقف الاشتباكات المسلحة في مخيم عين الحلوة، ويعود النازحون الفلسطينيون إلى بيوتهم، لكن عودة الهدوء واستقرار الوضع الأمني لا ينفي حقيقة أن المخيمات الفلسطينية في لبنان وفي مقدمها مخيم عين الحلوة تعيش أوضاعاً بائسة.

طرح أحد المواقع الإخبارية اللبنانية سؤالاً لمتابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي، سأل فيه: "من برأيك المسؤول عن اشتباكات عين الحلوة؟"، ووضع ثلاثة خيارات للإجابة، الأول هو "الإسلاميون"، والثاني "مسؤول مخابرات حركة فتح"، أما الثالث فهو "حادث فردي".

لم يأتِ طرح السؤال من فراغ، فرغم مرور عدة أيام على الاشتباكات المسلحة في المخيم، إلا أنه لم يُعلن عن الجهة أو الجهات المسؤولة عن التصعيد العسكري الحاصل، في ظل غموض المعطيات والمعلومات المتعلقة بالتفاصيل التي رافقت التصعيد العسكري.

يأتي ذلك بعد سنوات من "المهادنة" بين القوى والفصائل الفلسطينية من جهة والجماعات الإسلامية التي تملك نفوذاً داخل المخيم من جهة أخرى، والذي يتمّ بتنسيق وتناغم مع السلطات الأمنية اللبنانية، ممثلة بمخابرات الجيش اللبناني.

هذا الواقع لم يكن يعني أن الأمور في عين الحلوة كانت آمنة ومستقرة طوال الوقت، فخلال السنوات الماضية شهد المخيم عشرات الحوادث والاشتباكات المسلحة، والعديد من عمليات الاغتيال والتصفيات الجسدية، كما نفّذ الجيش اللبناني عمليات أمنية نوعية داخل المخيم -الذي يقف على بواباته- واعتقل مطلوبين، لكنّ كلّ ذلك كان يتمّ بإطار ضيّق، فسرعان ما تحصل "لملمة" آثاره وتداعياته لتعود الحياة إلى طبيعتها، بعدما تُسلّم اللجنة الأمنية المشرفة في المخيم المطلوبين إلى الجيش اللبناني.

الجديد هذه المرة هو أن حادثاً أمنياً يُفترض أن يكون مألوفاً لمخيم عين الحلوة، إلا أنه تطوّر وتفاعل وأدّى لانفلات الأمور. فكان يمكن لمحاولة اغتيال الفلسطيني الملقب "أبو قتادة" -وهو أحد الإسلاميين المطلوبين للسلطات اللبنانية بتهمة الانتماء لتنظيم إرهابي- أن تمرّ كسابقاتها من خلال اتصالات التهدئة بين المعنيين، وتسليم المسؤول عن محاولة الاغتيال إلى الجيش اللبناني. لكن الذي حصل أن محاولة الاغتيال هذه شكلت فتيلاً لاشتعال صاعق آخر تمثّل باغتيال قائد قوات الأمن الوطني الفلسطيني والقيادي في حركة فتح العميد أبو أشرف العرموشي مع ثلاثة من مرافقيه خلال قيامه بتسليم المتهم بمحاولة الاغتيال للجيش اللبناني، لتنفلت بعدها الأمور ويشهد المخيم مواجهات مسلحة عنيفة، وصل رصاصها الطائش وشظايا قذائفها إلى مدينة صيدا المجاورة التي تعطّلت فيها الحياة، وقُطعت عدد من طرقها الرئيسة المحاذية للمخيم.

أسئلة كثيرة تدور في أذهان المعنيين بالوضع الفلسطيني في لبنان حول الجهة -أو الجهات- المسؤولة عن تصعيد الوضع العسكري في مخيم عين الحلوة، وإعادة حركة فتح ملف المخيمات الفلسطينية في لبنان وجدوى بقاء السلاح فيها، وهوية الجهة المستفيدة من هذا التصعيد، وهل ما حصل يتعلق بحادث أمني فردي، أم إن الاغتيال رُتّب له ليكون منطلقاً لافتعال أزمة في عين الحلوة؟ وربما لتنتقل شرارة اللهب إلى مخيمات فلسطينية أخرى موزعة على الأراضي اللبنانية، وهل من علاقة تربط ما شهده عين الحلوة من تصعيد عسكري بزيارة مدير مخابرات السلطة الفلسطينية ماجد فرج إلى لبنان منذ أيام قليلة، واللقاءات التي عقدها داخل المخيم مع قيادات من حركة فتح، والحديث الذي تناقلته بعض وسائل الإعلام من أن فرج طلب من السلطات اللبنانية التشدّد في الرقابة على المخيمات لمنع حركتيْ حماس والجهاد الإسلامي من تعزيز نفوذهما فيها؟ أم إن اغتيال العميد العرموشي ومرافقيه جاء في إطار تصفيات بسبب خلافات داخل حركة فتح نفسها؟

على الضفة الأخرى، تُطرح فرضيات أخرى، ترتبط بعودة بعض قيادات المجموعات الإسلامية إلى المخيم، وسعي هذه العناصر لإحداث بلبلة تعيد خلط الأوراق الفلسطينية واللبنانية، وخاصة أن هذه العناصر مطلوبة للسلطة اللبنانية بجرائم الانتماء لتنظيمات إرهابية.

احتمال آخر، لا يستبعد الدور الإسرائيلي، من خلال اختراق صفوف حركة فتح أو القوى الأخرى والسعي لافتعال الإشكال بهدف لفت الأنظار للسلاح الفلسطيني داخل المخيمات، بعد تقارير تناقلتها وسائل إعلام إسرائيلية في الآونة الأخيرة، تتحدث عن تعزيز حركتيْ حماس والجهاد الإسلامي لترسانتهما العسكرية وتطويرها داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان.

كل هذه المعلومات تبقى مجرد فرضيات دون مستوى الإثبات، إذا لم يُجرَ تحقيق حقيقي بداية لمعرفة المسؤولين عن محاولة الاغتيال التي استهدفت "أبو قتادة"، وهل كان ذلك بناء على أمر من قيادة حركة فتح؟ أم كان توجيهاً من جهة أخرى؟ أم إنه تصرف فردي من أحد عناصرها؟

ومن ثم يجب معرفة هوية منفذي اغتيال القيادي في حركة فتح ومرافقيه، وهو أمر لن يكون متعذراً في ظل انتشار كاميرات المراقبة في أزقة وأنحاء المخيم. فإذا ثبت انتماؤهم لإحدى المجموعات الإسلامية تتعزّز فرضية الثأر لمحاولة اغتيال "أبو قتادة" ومقتل أحد مرافقيه. أياً كانت المعطيات، يبقى احتمال الاختراق الخارجي -إسرائيل أو جهة أخرى- وارداً في ظل السعي المتواصل لإضعاف الساحات الفلسطينية الداعمة والمساندة للمقاومة التي تشهدها مناطق الضفة الغربية.

المؤكد هو أن الضحية الأبرز من كل ما شهده -ويشهده- مخيم عين الحلوة هم سكان المخيم من اللاجئين الفلسطينيين.

فعلاوة على عشرات القتلى والجرحى الذين سقطوا جراء الاشتباكات الدائرة، فإن مئات العوائل اضطرت للنزوح والخروج من المخيم بحثاً عن مكان آمن في مدينة صيدا المجاورة. هذه المعاناة التي يعيشها أبناء المخيم الذين يعدّون حسب تقديرات غير رسمية قرابة ستين ألف نسمة، تُضاف إلى واقع صعب يتشاركه أبناء المخيم مع بقية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

فالانهيار الاقتصادي الذي لم يخرج من قعره منذ عام 2019 انعكس بشكل أكثر حدّة على أوضاع الفلسطينيين، بالتزامن مع تراجع كبير لتقديمات وكالة الأونروا التي أدت إلى تضاؤل الخدمات التي تقدمها الوكالة، ولاسيما في القطاعين الطبي والتربوي، هذا عدا استمرار السلطات اللبنانية بقرارها حرمان الفلسطينيين من العمل بعشرات المهن، والتضييق عليهم، ومنعهم من تملّك منازلهم، ما أدّى لارتفاع كبير في مستوى البطالة بين الفلسطينيين.

ربما تتوقف الاشتباكات المسلحة في مخيم عين الحلوة، ويعود النازحون الفلسطينيون إلى بيوتهم، لكن عودة الهدوء واستقرار الوضع الأمني لا ينفي حقيقة أن المخيمات الفلسطينية في لبنان وفي مقدمها مخيم عين الحلوة تعيش أوضاعاً أمنية وإنسانية واقتصادية واجتماعية بائسة، لا يستوي الاستمرار بتجاهلها، لأن ذلك سيعبّد الطريق أمام مزيد من فتائل التفجير الأمنية، ويجعلها بيئة خصبة للاختراق الخارجي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي