تابعنا
تتطلع الصين  إلى التحوط اقتصادياً بعيداً عن الدولار، للتخفيف من تهديد العقوبات الأمريكية مثل التي واجهتها روسيا.

مثَّلت وساطة الصين في المحادثات بين المملكة العربية السعودية وإيران في مارس/آذار خطوة أخرى ذات أهمية في إعادة رسم ميزان القوى في العالم. إلى جانب هذا الانتصار الدبلوماسي -في الوقت الذي تحقق فيه نجاحات اقتصادية واسعة في جميع أنحاء العالم- تسعى بكين لاقتلاع هيمنة الدولار الأمريكي من جذورها.

في العالم العربي، كانت هناك محاولات سابقة لاعتماد عملات بديلة. خلال السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين في السلطة، سعى العراق لبيع النفط باليورو. بالإضافة إلى ذلك، طمحت ليبيا إلى إنشاء معيار من الذهب لعموم إفريقيا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك لم تتحقق جهود كبيرة لتقويض الدولار الأمريكي، ويرجع ذلك جزئيّاً إلى الأزمة المالية في 2007-2008، التي أبطأت جهود إزالة الدولار.

ومع ذلك فإنّ صعود الصين السريع قد غيَّر هذا الواقع. لم يُخفِ المسؤولون الصينيون رغبتهم في إضعاف قوة الدولار، الأمر الذي قد يشهد مزيداً من تبنّي اليوان الصيني . والقيام بذلك من شأنه أن يضعف القوة الاقتصادية الأمريكية، التي إلى جانب هيمنتها العسكرية سمحت للولايات المتحدة بتشكيل النظام العالمي.

تتطلع الصين أيضاً إلى التحوط اقتصادياً بعيداً عن الدولار، للتخفيف من تهديد العقوبات الأمريكية مثل التي واجهتها روسيا، الأمر الذي دفع موسكو أيضاً إلى زيادة احتياطياتها من الرنمينبي.

مع الافتقار الملحوظ إلى السلطة من قبل واشنطن في المنطقة، أدى الهجوم العسكري الروسي في أوكرانيا إلى مزيد من التغيير في نظام الشرق الأوسط، إذ دفعت العقوبات الأمريكية على موسكو دول المنطقة إلى الانحياز إلى أحد الأطراف.

لقد عزز الصراع الأوكراني حقيقة أن العقوبات الأمريكية يمكن فرضها بأي وقت، لكن بعض الدول، بما في ذلك بعض دول الخليج الغنية بالنفط، تحدَّى واشنطن وحافظ على علاقاته مع روسيا والصين، بل عمل على تعزيزها. وبما أن الصين تعمل باعتبارها قوة اقتصادية ترغب الدول في التجارة معها، فقد عزز الصراع بلا شك النفوذ الاقتصادي لبكين في المنطقة.

في نهاية المطاف فإنّ القوة الاقتصادية تعني ضمناً قوة سياسية. جرى تحقيق الهيمنة الأمريكية في النظام العالمي بعد الحرب الباردة إلى حد كبير من خلال الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية. وأي انخفاض في استخدام الدولار سيرتبط بشكل مماثل بانخفاض الهيمنة الأمريكية.

الرنمينبي في الشرق الأوسط

رحَّب بعض دول الشرق الأوسط بفرصة التجارة بعملات بديلة للدولار، وهي نتيجة متوقعة لصعود الصين باعتبارها لاعباً اقتصادياً رائداً في المنطقة. وبعد كل شيء، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لمنطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك دول رئيسية مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعراق وإيران.

خُذ الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال، التي ابتعدت تدريجياً عن التبعية للولايات المتحدة على مدى العقد الماضي وعززت نفسها باعتبارها دولة يجب على القوى العالمية جميعاً أن تتعاطى معها. في مارس/آذار ساهمت في أكبر صفقة للغاز الطبيعي المسال (LNG) باليوان الصيني بين شركة Total Energies وشركة China National Offshore Oil Corporation. هنا ليس من المهم أن شركة توتال هي بالأصل شركة فرنسية، ولكن من المهم النظر إلى أن أبو ظبي ساعدت في دفع هذه الخطوة إلى الأمام، وبالتالي فتح الباب أمام استخدام اليوان أكثر.

إنه يعكس بالتأكيد تحولاً أوسع في الكتلة الإقليمية وتحديداً مجلس التعاون الخليجي. وحسب ما ورد أجْرت المملكة العربية السعودية مؤخراً محادثات مع المسؤولين الصينيين بشأن بيع النفط إلى الصين باليوان بعد أن اقترحه الرئيس شي جين بينغ في ديسمبر/كانون الأول 2022. وكانت الولايات المتحدة في السابق أكبر مشترٍ للنفط السعودي، وكان الدولار مرتبطاً بالنفط، مشكلاً ما عُرف بـ"البترودولار". لقد منح هذا الولايات المتحدة نفوذاً كبيراً على منظمة أوبك، مما يعني أن العلاقات مع المملكة العربية السعودية كانت أساسية لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

بالمناسبة، حتى لو قبلت المملكة العربية السعودية المدفوعات باليوان -التي قد تستخدمها بعد ذلك لدفع ثمن الواردات الصينية-، فإن هذا التوجه وحده لن يفكك هيمنة الدولار. في نهاية المطاف، تعي العواصم الخليجية بالإجماع أن "البترودولار" لن تذهب إلى أي مكان، وما زالت ترحب به حالياً بسبب الاستقرار والسيولة اللذين وفرهما.

ومع ذلك فإن تقدم الصين وتراجع انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط سيفتح الباب أمام الرنمينبي. في فبراير/شباط أعلن العراق أنه يعتزم قبول التجارة مع الصين باليوان، الذي يأتي بعد أن واجهت بغداد نقصاً في الدولار الأمريكي في بنكها المركزي، وهو وضع مقلق بالنسبة إلى اقتصاد غني بالنفط. لقد حلّت الصين بالفعل محل الولايات المتحدة من خلال الاستثمار بكثافة في البنية التحتية النفطية في العراق، التي أهملتها الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب في البلاد.

ليس اليوان فقط هو الذي يدخل أسواق الشرق الأوسط. في يناير/كانون ثاني، ناقشت الهند والإمارات خططاً لأبو ظبي لبيع سلع غير نفطية إلى دلهي بالروبية الهندية (INR). من الواضح أن دول مجلس التعاون الخليجي، وبالتحديد من خلال الإمارات العربية المتحدة، تدفع بهذا التحول إلى تنويع المشهد الاقتصادي.

العقوبات والضغط الأمريكي

قد تبدو العملات الجديدة جذابة بالتأكيد، بالنظر إلى كيفية استخدام الولايات المتحدة للدولار لممارسة الضغط السياسي، وذلك بدعم من المؤسسات المالية مثل صندوق النقد الدولي، الذي اعتبره النقاد ذراعاً للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.

تُظهِر العقوبات المفروضة على روسيا أن الولايات المتحدة استخدمت وضع العملة الاحتياطية لإكراه الدول ومعاقبتها. مثل روسيا، تعرَّض البنك المركزي الإيراني للاختناق بسبب العقوبات الأمريكية، كما هددت بخفض قيمة عملتها وذلك للحصول على اليد العليا في الحروب التجارية، فيما تستفيد واشنطن بشكل كبير من وصول الدولار إلى جميع أنحاء العالم من أجل تعزيز اقتصادها.

نجحت عملية تسليح الدولار عندما كانت الولايات المتحدة القوة المهيمنة العالمية الأساسية، مع بقاء الدولار عملة احتياطية دولية. في الوقت الراهن، الدول التي تستشعر الضغط الاقتصادي الأمريكي تمتلك خيارات أخرى. بعد سنوات من العقوبات الأمريكية، أدرج البنك المركزي الإيراني اليوان باعتباره واحدة من العملات الرئيسية للتداول. باعت إيران بالفعل النفط إلى الصين باليوان، وفي ظل الضغط الغربي تأمل طهران في التخلي تماماً عن الدولار واليورو والاكتفاء بالتجارة باليوان مع الصين حيثما أمكن ذلك.

أظهر بعض الدول الإقليمية رغباته في الابتعاد عن النفوذ الاقتصادي للولايات المتحدة، الذي يُنتقَد أحياناً باعتباره تدخلاً في الشؤون الداخلية بسبب مساعدتها المرتبطة بالاشتراطات السياسية. في تونس، قالت حركة موالية للحكومة إنها تأمل في أن تنضمّ تونس إلى الجزائر ومصر والمملكة العربية السعودية في التقدم للانضمام إلى مجموعة البريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا في الوقت الحالي.

في حين أن مثل هذه المقترحات ليست مؤكدة وقبولها ليس مضموناً، فإن المشاعر المعادية للغرب والمناهضة لصندوق النقد الدولي في تونس توضح كيف أنها والدول الأخرى قد تفضل التحرك نحو الصين وغيرها من القوى الاقتصادية الناشئة، التي يمكن اعتبارها أقل تدخلاً في شؤونهم الداخلية.

يقول بعض المراقبين إن مجموعة بريكس نفسها برزت وسيلةً محتملةً لتقويض الهيمنة الأمريكية والدولار، ومن الواضح أن داخل المنظمة رغبة في تحقيق ذلك. في 13 أبريل/نيسان دعا الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا إلى عملة جديدة لأعضاء البريكس للتداول بها مقابل الدولار، قائلاً: "كل ليلة أسأل نفسي لماذا يتعين على جميع البلدان أن تبني تجارتها على الدولار"، في ظل تصفيق كبار الشخصيات الصينية والبرازيلية التي كانت حاضرة في شنغهاي.

على الرغم من كونها بياناً رمزياً إلى حد كبير في هذه المرحلة، فإنّ مثل هذه التطلعات يمكن أن تعزز فرص دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للتجارة بعملات مختلفة في حالة انضمامها إلى مجموعة البريكس.

تحدي الدولار

على الرغم من هذه التحديات التي يواجهها الدولار فإنه لا ينبغي علينا استبعاده على الفور. تجري معظم المعاملات المالية والديون الدولية والفواتير التجارية حالياً بالدولار. واعتباراً من عام 2021 جرى تخزين ما يقرب من 60% من احتياطيات النقد الأجنبي في العالم بالدولار. وفي ما يتعلق بالنفط فإنّ 80 في المئة من المعاملات العالمية مسعرة بالدولار.

ستواجه الصين تحدياً كبيراً للاستبدال بالدولار في جميع أنحاء العالم وفي الشرق الأوسط. فمن الناحية العملية، ستحتاج إلى إقناع البنوك المركزية بالاحتفاظ من اليوان باعتباره احتياط عملة أجنبية بما يعادل نحو 700 مليار دولار على غرار ما تفعله الولايات المتحدة.

علاوة على ذلك، لا يُعتبر اليوان عملة صعبة، مما يعني أنه يُعتبر حالياً أقل استقراراً من الدولار. ستحتاج الصين إلى التفكير في تكييف سياستها النقدية وإثبات للبنوك المركزية أن استقرار اليوان يمكن أن يضاهي استقرار الدولار، وبالتالي تدويل عملتها بالكامل.

لقد ارتبطت الاحتياطيات العالمية بالقوة المهيمنة في العالم. سيطرت البرتغال ثم إسبانيا على الاحتياطيات، كما فعلت عملات هولندا وفرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. جعلت الإمبراطورية البريطانية الجنيه الإسترليني العملة الاحتياطية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين للتداول داخل مستعمراتها حتى أخذت الولايات المتحدة زمام الأمور بوصفها قوة عظمى عالمية.

من الواضح أن المستقبل غير مؤكد، والكثير من الأمور يمكن أن يتغير. ومع ذلك، في الوقت الحالي، هناك مزيد من البلدان التي لديها عديد من الفرص للتجارة بعملات متعددة، مثل الرنمينبي، جنباً إلى جنب مع الدولار.

تراقب الصين من كثب تراجع الهيمنة الأمريكية، وهو ما يتوافق مع التطور الاقتصادي السريع لبكين على مدى العقود القليلة الماضية. بالإضافة إلى ذلك، توقع عدد من المحللين الماليين أن الاقتصاد الصيني سوف يتجاوز اقتصاد الولايات المتحدة بحلول عام 2050. صعود الصين إلى موقع القوة الاقتصادية الرائدة في العالم سيكون له تأثير كبير في مَن يسيطر على الاحتياطيات العالمية.

ومن المثير للاهتمام أن هذا التوقع سيُجرى بعد عام واحد من الذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني في عام 2049، الذي استشهد به الرئيس شي جين بينغ باعتباره هدفاً تتطور من خلاله البلاد إلى الحد الذي يمكنها فيه ممارسة نفوذ وقوة عالمية هائلة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً