استئناف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل (Others)
تابعنا

تتمثل هذه الخيارات إما القبول "بحلّ مبتكَر" للترسيم يعمل عليه المبعوث الأمريكي أموس هوكشتاين ويقضي باعتماد خط متعرج يسمح بتوزيع المكامن المشتركة بينهما، وإما نقل هذا الملفّ نهائياً إلى "بازار" الصراعات الإقليمية بين إيران وإسرائيل بانتظار التسويات الكبرى أو الانفجارات الأكبر.

ولأن اللبنانيين باتوا "يتعلقون بحبال الهواء" كما يقال للخروج من الكارثة السياسية والاقتصادية التي يتخبطون بها، فإنهم يتطلعون حالياً إلى تحديد موعد زيارة هوكشتاين للبنان التي تأجلت أكثر من مرة في إطار جولاته المكوكية، باعتبارها مؤشراً على حصول توافق بين أركان النظام السياسي على "الحلّ المبتكر" الذي حرص هوكشتاين على "تسريبه" لهم بعد مباحثاته مع المسؤولين الإسرائيليين الشهر الماضي، مرفقاً بتسريبة إعلامية عن موافقة إسرائيل المبدئية.

وقد حدّد المبعوث الأمريكي مهلة لنفسه هي مطلع الربيع المقبل للتوصل إلى حل قبل أن يطلب إعفاءه من مهمته. وتتزامن هذه المهلة مع الانتخابات اللبنانية، والأهمّ مع بدء شركة إنيرجان اليونانية أعمالها في حقل كاريش الشمالي المتنازع عليه مع لبنان.

خطوط وخطايا

ولتوضيح معضلة الترسيم وأبعاد التخبط السياسي اللبناني في مقاربتها، نشير باختصار إلى تطورات هذا الملف المثيرة للاستهجان. فمعروف أن ترسيم الحدود البحرية بين الدول المتقابلة أو المتجاورة، يتم عادة بأن تقوم كل دولة بإعلان حدودها وإيداعها لدى الأمم المتحدة، ليبدأ التفاوض على أساسها والتوصل إلى تسويات. وبالنسبة إلى لبنان فقد ارتكبت الحكومات المتعاقبة وكذلك القوى السياسية شتى أنواع الأخطاء والخطايا في رسم الحدود البحرية، نستعرضها باختصار شديد:

الخطّ.. الخطيئة

في العام 2006 قام لبنان بترسيم حدوده البحرية مع سوريا وقبرص ومع إسرائيل، واعتمد جنوباً النقطة 1 كنقطة ثلاثية مع قبرص وإسرائيل. وتم في يناير 2007، توقيع اتفاقية مع قبرص لترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، ولكن البرلمان اللبناني لم يصدّق عليها. وتَبيَّن أن هذا الترسيم خاطئ بكل المعايير القانونية والتقنية، ويحرم لبنان من مساحة قدرها 860 كلم2 قُدّمت كهدية مجانية لإسرائيل التي سارعت إلى قبولها وقامت بتوقيع اتفاقية لترسيم حدودها البحرية مع قبرص على أساس هذا الخط.

الخط.. الخطأ

تم في العام 2008 إعداد دراسة جديدة للحدود البحرية تم بموجبها تعديل النقطة (1) لتصبح (23)، ما أعاد قانوناً مساحة الـ860 كلم2 إلى لبنان. وفي العام 2011 تم إصدار هذا الترسيم بالمرسوم الشهير 6433، وإيداعه لدى الأمم المتحدة. وحاولت أمريكا حل النزاع الناشئ من خلال عدد من المبعوثين كان أشهرهم فريدريك هوف الذي اقترح تقاسم المنطقة المتنازع عليها على قاعدة 500 كلم2 للبنان و350 كلم2 لإسرائيل وفق ما بات يُعرف بخط هوف. وهو ما رفضه لبنان بمكوناته السياسية كافة. (راجع الرسم)

الخط.. القنبلة

بعد صدور المرسوم الشهير، تَبيَّن أنه يعتمد إحداثيات خاطئة في الترسيم، كما أكدت دراسة أعدها الجيش اللبناني وجاءت متوافقة مع دراسة أعدها المكتب الهيدروغرافي البريطاني، واعتمدت النقطة 29 كنقطة ثلاثية بدلاً من النقطة 23، ما رفع المساحة العائدة إلى لبنان من 860 إلى 2190 كلم2 تقريباً. ويُعتبر هذا الترسيم الأكثر دقة من الناحية القانونية والتقنية لأنه بعكس الترسيم السابق ينطلق من آخر نقطة على البر، ويتعامل مع جزيرة تاكيليت بعدم إعطائها أي تأثير باعتبارها مجرد صخرة لا يتعدى طولها 70 متراً وتغمرها مياه المدّ.

ولكن لبنان لم يُقدِم على اعتماد هذا الترسيم وإصداره بمرسوم تخوُّفاً من تداعياته، إذ يؤدي مثلاً إلى جعل نصف حقل كاريش تقريباً أو ما يُعرَف بكاريش الشمالي من حصة لبنان، وتخوفاً أيضاً من قلب طاولة مفاوضات الترسيم التي بدأت بين لبنان وإسرائيل في العام 2020 برعاية الأمم المتحدة وبوساطة أمريكية. ولكن الوفد اللبناني "فجَّر قنبلة" في المفاوضات بإعلانه أنها يجب أن تستند إلى الخط 29، وهو ما رفضته إسرائيل ومن ورائها أمريكا وأدَّى إلى تعطيل المفاوضات.

الخط المتعرج: تقاسم المكامن

تَرافَق وقف المفاوضات مع إعادة أمريكا تعيين أموس هوكشتاين مبعوثاً خاصّاً، ما شكّل دلالة على تغير جذري في مقاربتها لملف الترسيم باتجاه تركيز المفاوضات على المكامن المشتركة بدلاً من رسم خطوط وهمية على سطح البحر. وهي المقاربة التي يتبناها هوكشتاين منذ تولّيه هذه المهمة للمرة الأولى إبان ولاية الرئيس باراك أوباما. وقد سعى حينها إلى اعتماد صيغة تقاسم إنتاج المكامن المشتركة من خلال الشركات النفطية كما هو الحال في حقل أفروديت المشترك بين إسرائيل وقبرص. ولكن ذلك اصطدم برفض الثنائي الشيعي (حزب الله وأمل) الذي كان يتولى ملف التفاوض من خلال رئيس مجلس النواب نبيه بري. لأن هذه الصيغة تحمل في طياتها نوعاً من التطبيع مع العدو الإسرائيلي.

واليوم يعمل هوكشتاين على إحياء مقاربته "بحلّ مبتكر"، يقضي بتوزيع المكامن بين لبنان وإسرائيل وليس تقاسم إنتاجها، ويتم ذلك باعتماد الخط 23 بعد إجراء تعديلات عليه ليصبح خطّاً متعرجاً، ينطلق من آخر نقطة برية كما يطالب لبنان، ويتجه جنوبا ليكون حقل قانا بكامله من حصة لبنان، ثم ينحرف جنوباً ليكون حقل كاريش بشماله وجنوبه من حصة إسرائيل. (راجع الرسم)

ترسيم الخطوط البحرية بين لبنان وإسرائيل (Others)

تحقّق هذه الصيغة مصلحة مزدوجة للبنان، فهي تثبت من جهة حقه في مساحة الـ860 كلم2 وفقاً للخط 23، باعتبار أن الخط 29 طُرح لرفع سقف التفاوض وليس للتمسك به كما قال رئيس الجمهورية ميشال عون في معرض تفسيره لعدم توقيع المرسوم. وتحقق من جهة ثانية تجاوز مشكلة المكامن المشتركة، على الأقل المعروف منها حتى الآن، وتفتح المجال أمام البدء بمشوار استغلال حقل قانا الذي تشير تقديرات متطابقة إلى أنه قد يكون من أضخم الحقول في شرق المتوسط. كما تحقّق بالمقابل مصلحة مؤكدة لإسرائيل تتمثل بإزالة التوترات والنزاعات السياسية وربما العسكرية، ما يشجع الشركات على تكثيف استثماراتها لاستغلال حقول الشمال الواعدة (لفياتان، تانين، كاريش، إلخ).

ما الذي يعوق الحل إذاً؟

يجيب أحد أركان النظام اللبناني الذي رفض ذكر اسمه، بقوله: "إنه قصر النظر السياسي والمواقف الشعبوية في لبنان، والمكر والخبث السياسي في إسرائيل". ويؤكد: "الجميع موافق على هذا الحلّ، حتى الحلفاء المباشرون لحزب الله، أي رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر وحركة أمل. ولكن الجميع أيضاً يخشى الإعلان عن موقفه خوفاً من تهم التخوين والتفريط بالحقوق، وهو ما عبّر عنه صراحة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي". ويضيف: "كلهم ينتظرون موقف حزب الله، وحزب الله ينتظر موقف إيران في ضوء مفاوضات فيينا. فالترسيم يشكّل ورقة ثمينة بيدها سواء نجحت المفاوضات وتم التوصل إلى اتفاق لا بد أن يتضمن مراعاة نفوذ ومصالح إيران في لبنان وسوريا، أو فشلت واتجهت الأوضاع إلى التصعيد والمواجهة، إذ ستكون الحدود البحرية ومنصات الحفر الإسرائيلية ورقة ضغط مهمة بأيدي حزب الله وإيران وأهدافاً للأعمال العسكرية أو للألغام السياسية".

أما إسرائيل، ورغم التسريبات المتعمدة لهوكشتاين عن موافقتها المبدئية على "حلّه المبتكَر"، فهناك قوى مؤثرة خاصة من اليمين المتطرف، تعارض أي اتفاق مع لبنان في هذه الظروف لأنه سيؤدي إلى تخفيف الأزمة الاقتصادية والسياسية، وتفضل ممارسة الضغط الأقصى عليه لمفاقمة حالة الانهيار والإفقار وتحميل حزب الله المسؤولية بما يسهم في إضعافه.

وليبقَ اللبنانيون بانتظار موعد زيارة هوكشتاين علّها تشكّل نقطة ضوء في دهاليز الانهيار و"بازارات" الصراعات الإقليمية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي