تابعنا
إننا بحاجة إلى المقاطعة اليوم؛ ليس من أجل فلسطين فقط، ولكن من أجل أنفسنا، وأن تستعيد الوعي بقيمك والتقدير لذاتك هو أمر لا يتحقق إلا بتجسد تلك القيم والمعاني في سلوكك وتخلصك من رؤية تختزل قيمتك في قدراتك الاستهلاكية.

من الصعب أن لا يكون اسم سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، قد مر على أذنك من قبل، إنْ لم يكن قد مرّ على عقلك أيضاً، لكنّ قليلين فحسب هم من يعرفون ابن أخته إدوارد برنايز الذي ربما تفوق أهميته أهمية خاله بالنظر إلى معايير السوق.

ورغم نشأته في نيويورك التي انتقلتْ إليها أسرته، بعيداً عن خاله في فيينا، فإن برنايز ورث شغف خاله باكتناه النفس البشرية، لكن برنايز لم يعمل طبيباً أو أستاذاً جامعياً، وإنما حمل شغفه إلى فضاء الصحافة وعالم الإعلان.

يمكن النظر إلى عمل برنايز في مجال الإعلان بوصفه تأويلاً خاصاً لنظرية التحليل النفسي. المركزية الطاغية للاوعي في توجيه السلوك البشري عند فرويد تتحول عند برنايز إلى مدخل تلِج منه الدعاية إلى صميم النفس البشرية. عندها تتماهى السلعة مع الرغبة على عرش اللا وعي.

أبرز حملات برنايز الناجحة مثلاً كانت حملته في ترويج التدخين بين السيدات، بدأها بالتركيز على تكريس "جمالية النحافة" التي تمثل إحدى سمات العصر الحديث، ولأجل ذلك، جنّد جيشاً من المصورين والمودلز والمجلات لإبراز زوايا الجمال النحيف، ولم يكن بحاجة بعد ذلك إلى جهد كبير لإقناع الجمهور النسائي بأهمية السجائر بالنسبة للمرأة إذا كانت تساعد على التخسيس.

وضع النساء أمام خيار السجائر التي تحافظ على جمالهن أو الحلوى التي يدفعن ثمنها من جاذبيتهن يضمن للسجائر نصيباً معقولاً من سوق لم يكن يمكنها أن تدخلها من قبل، حتى عندما ظهرت مشكلة أن النساء يتجنبن التدخين العلني نظراً للتقليد الذي يرى التدخين نقيضاً للأنوثة، تحولت السجائر في دعاية برنايز إلى "مشاعل للحرية" تضمن انعتاق المرأة من ضغوط هذا العالم الذكوري.

عكسَ عمل برنايز وثورة عالم الإعلان التطور الاقتصادي الذي تطلب تحفيز الاستهلاك بعد تضخم الإنتاجية، لم يعد الإنتاج هو مركز الاهتمام الاقتصادي بل الاستهلاك، ليس العامل بل الزبون، ليست الندرة وإنما الوفرة الضارية التي تبحث عن جموع المستهلكين. التسويق والإعلانات والغرافيكس والميديا كلها مجالات هي ابنة ذلك التحول، وبإمكان المصنع أن ينتج أي شيء بأي كمية، لكن المهم أن تستوعب السوق هذا الإنتاج.

برنايز هو رائد عالم الإعلان الحديث بامتياز، فالمسألة ليست محاولته التلاعب باللا وعي، ولا نظرته إلى الجمهور على أنهم قطيع، كما سبقه إلى ذلك جوستاف لوبون، بل المسألة هي أن برنايز كان رائداً في إدراك كيف تتحول السلعة من وسيلة إلى غاية عندما تتجسد فيها القيمة، ومن ثمّ يصبح الاستهلاك طريقة الإنسان في الوجود المتماشي مع تلك القيمة.

في مثال السجائر السابق، يصبح التدخين هو نفسه الحرية وعدم التدخين تعبيراً عن الخضوع، ويصبح شراء وتدخين مزيد من السجائر تعبيراً عن مزيد من السعي نحو الحرية، والعزوف عن التدخين تعبيراً عن الخضوع.

الفرنسي جان بودريار يلاحظ بالفعل أن الاستهلاك ليس نتيجة للتطور الاقتصادي فحسب، وإنما هو محرك للمجتمع الرأسمالي، فقيمة السلعة لا تعود مجرد قيمة تبادلية أو استعمالية، وإنما تكتسب السلعة كذلك قيمة العلامة.

أنتِ تدخنين السجائر إذن أنتِ امرأة متحررة، السجائر علامة الحرية. أنت تحمل هاتفاً ذكياً، إذن أنت شخص ناجح وتعمل في وظيفة مرموقة. ليست السلع الصناعية فحسب، ولكن السلع الخدمية أيضاً، كما أن المقهى الذي تقضي فيه وقتاً يصبح علامة، صالة الألعاب الرياضية والبنية الجسدية علامة.

باختصار، فإن "العمل الثقافي الذي كانت تؤديه الآلهة والملاحم الدينية في الماضي"، أي بناء نظام القيم والعلامات أو نظام الأشياء، تشكّله اليوم الإعلانات وشخصيات الكوميك، كما يقول رولان بارت.

عندما تتحول السلعة إلى علامة، يتحول الاستهلاك إلى طريق وحيد للقيمة، الحرية لا تتحقق إلا بالاستهلاك، والجمال لا يتحقق إلا بالاستهلاك، والنجاح لا يتحقق إلا بالاستهلاك. وهنا تظهر الذات الإنجازية أو الإنسان الذي ينظر إلى نفسه على أنه مشروع، كما يقول بيونغ شول هان، يجب أن يجري إنجازه عبر النجاح في استهلاك مزيد من السلع/العلامات. تتحول الأحلام الاستهلاكية إلى آفاق لا متناهية ودافعة إلى مزيدٍ من العمل المضني.

يربط هان بين ظهور الذات الإنجازية وظهور كثير من الاضطرابات والعلل النفسية والجسدية النابعة من الضغط الاستهلاكي على الذات، فالاحتراق (burnout) هو نوع من الاعتلال النابع من ضغط بدني أو نفسي عام يصل بالإنسان إلى فقدان القدرة النفسية والجسدية. الاحتراق اعتلال حديث بامتياز لا يمكن تصوره في العالم القديم رغم الضغوط الطبيعية الهائلة التي كان يعانيها الإنسان في بيئات لا يمكنه السيطرة عليها.

كما يعد كل من الاكتئاب والقلق وضعف تقدير الذات، أشكالاً من الاضطرابات التي تنشأ عن الضغوط الاستهلاكية. يحقق الاستهلاك دفقات من الارتياح العاطفي كجرعات المخدرات، لكنها تكون دفقات قصيرة ومؤقتة وسرعان ما يعود بعدها شعور مضاعف بالكرب.

في هذا العالم، تقود مقاطعة بعض السلع لدوافع أخلاقية إلى نوع من الالتئام، والالتئام عموماً هو أحد المصطلحات الرائجة في البوب سايكولوجي، ويعني عملية التعافي من التروما النفسية على غرار التئام الجروح الجسدية.

ويقدم المعالج النفسي إريك باتريسون مثلاً عشر نصائح للالتئام من التروما، على أحد مواقع البوب سايكولوجي، تتمحور جميعها حول التقبل والتكيف وقبول الدعم والعودة إلى الروتين والاهتمام بالذات، فيما يغيب أي سلوك يمكن أن يساعد الذات على الشعور بالقيمة والالتزام بها والتخلص من هشاشتها.

وتقدم المقاطعة بديلاً فعالاً للالتئام، فهي تُشعر الذات بفاعليتها، بغضّ النظر عن المردود الاقتصادي المباشر لها، وقد لا يتأثر المنتج، لكنّ شعور الذات بالتزامها القيمي وتجسُّد القيمة؛ العدل أو الحرية أو الخير، في سلوكها يمنحها الثقة بالذات والتقدير النفسي الذي تحتاج إليه، كما يُخلصها من الرؤية السلعية للعالم التي تربط القيم بالسلع واستهلاكها، ومن ثمّ تتخلص الذات من الضغوط الاستهلاكية التي تخلقها تلك الرؤية وما سيتبعها من اعتلالات واحتراق.

تشكل المقاطعة نوعاً من المقاومة القاعدية لكل منظومات الاستغلال أو الإخضاع، إنها الإكسير المضاد لبروباغندا برنايز، فهي تُعيد للذات ولوعيها بنفسها وقيمها الاعتبار، أمام رؤية برنايز القائمة على احتقار الذات وعدّها انعكاساً سلوكياً لغرائزها اللا واعية التي يمكن لنخبة أكثر عقلانيةً وذكاءً توجيهها على النحو الذي يخدم المصالح العامة التي لا تعني شيئاً سوى منظومة الاستغلال والإخضاع التي تخدم مصالح تلك النخبة.

إننا بحاجة إلى المقاطعة اليوم؛ ليس من أجل فلسطين فقط، ولكن من أجل أنفسنا، وأن تستعيد الوعي بقيمك والتقدير لذاتك هو أمر لا يتحقق إلا بتجسد تلك القيم والمعاني في سلوكك وتخلصك من رؤية تختزل قيمتك في قدراتك الاستهلاكية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً