لم تنجح تكتيكات إسرائيل المختلفة للقضاء على خطر الأنفاق التي تستخدمها المقاومة. / صورة: Reuters (Reuters)
تابعنا

بالتزامن مع مرور أكثر من 100 يوم على العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، كانت الأصوات تتعالى داخل إسرائيل، أو في أروقة غربية تشكِّك في قدرة إسرائيل على "الانتصار" أو تحقيق أهدافها الشاملة التي رفعتها عند بداية العدوان في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

خلال مسيرة الصراع، الممتدة لعقود بين حماس ومعها قوى المقاومة من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، كانت أهداف الحرب الأخيرة هي الأعلى سقفاً وطموحاً بالنسبة لإسرائيل، فالمعركة هذه المرة ليست مجرد سلوك لردع المقاومة، تنفيذاً لإستراتيجية "جزّ العُشب"، التي تستهدف النَّيل الدائم والمستمر من مقدرات المقاومة لمنعها من القدرة على إيذاء إسرائيل، وإنما تحمل جملة من الأهداف الكبيرة التي يعني تحقيقها كسر ظهر المقاومة فعليّاً وإنهاء أدنى تأثير لها انطلاقاً من القطاع ولعقود قادمة.

منذ الأسابيع الأولى للحرب ركَّز القادة الإسرائيليون، وعلى رأسهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، على أن هدف الحرب هو القضاء على حماس وتدمير قدراتها العسكرية وإنهاء حُكمها في غزة، إضافة إلى إطلاق سراح المحتجزين لدى المقاومة، وضمان عدم تكرار هجوم "7 أكتوبر" مجدداً، وفي حين حظيت إسرائيل بغطاء دولي غير مسبوق في حربها التدميرية على القطاع، فإن التذمر من سلوك الجيش الإسرائيلي وغياب الرؤية لدى القيادة السياسية أدى إلى تآكل في شرعية الحرب داخليّاً وخارجيّاً.

صورة المشهد العام للحرب الإسرائيلية على غزة بعد أكثر من 100 يوم عليها، وإنْ أظهرت ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية باستشهاد أكثر من 25 ألف شخص، بينهم أكثر من 10 آلاف طفل، فضلاً عن تدمير ممنهج وغير مسبوق للأحياء السكنية والبِنى التحتية، واستخدام التجويع سلاحاً ضد أكثر من 2 مليون فلسطيني في القطاع، فإنها لا تبشّر في الوقت ذاته بتحقق الأهداف العسكرية والسياسية للحرب التي أعلنت عنها إسرائيل، وعلى رأسها تدمير حماس.

فيما تعالت الانتقادات الدولية للاستراتيجية الإسرائيلية المدمرة في القطاع، التي تسعى إلى جعل الحياة في القطاع غير محتملة بالنسبة للسكان المدنيين، أما على صعيد الصراع مع المقاومة، فهذا شأن آخر.

في الأيام الأولى للمعركة، كان تدمير حماس يجري على لسان الساسة والمحللين الإسرائيليين كافة، وقد كان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، إلى جانب نتنياهو، أكثر المتشددين إزاء ضرورة تحقيق الهدف، و"محو حماس من على وجه الأرض"، لكن أصواتاً أخرى داخل إسرائيل باتت تعكس حالة اليأس من إمكانية تحقيق هذا الهدف.

ولعل أكثر النماذج وضوحاً على ذلك تصريحات الوزير في مجلس الحرب، جدعون ساعر، الذي أقر مؤخراً بأن "حماس بعيدة جدّاً عن الانهيار"، وأنه لا بديل لحكمها في قطاع غزة، وذلك بعد قرابة شهرين من تصريحات معاكسة أدلى بها وشدد على عدم النية بوقف الحرب قبل هزيمة حماس وإنهاء حكمها في غزة، فيما أن ساعر ليس وحده الذي أظهر قناعة بشأن استبعاد إمكانية هزيمة حماس، إذ شاركه في ذلك غادي أيزنكوت، الذي شكّك في قدرة إسرائيل في إمكانية القضاء على الحركة.

واقع الأمر أن الحرب بشكلها الحالي لم تعُد محل إجماع كبير شعبيّاً ورسميّاً في إسرائيل، وقد أظهرت مؤشرات عديدة حالة الانقسام الواسع داخل مجلس الحرب وعدم الاتفاق على رؤية موحدة أسهمت في تفاقم التحديات التي يوجّهها الجيش الإسرائيلي في ميدان المعركة، وفي هذا الصدد تبرز جملة من المعطيات التي عززت حالة الانقسام داخل حكومة الحرب الإسرائيلية:

أولاً: غياب صورة النصر الحاسم بعد أكثر من 100 يوم من المعركة

رغم الإعلانات المتكررة للجيش الإسرائيلي بشأن النجاحات الميدانية التي يحققها جنوده على أرض المعركة، فإن شكوكاً بدأت تُلقي بظلالها على المتلقي الإسرائيلي الذي لا تزال تصل إليه تحديثات مستمرة بمصرع جنود جُدد في أرض المعركة، إضافة إلى استمرار إطلاق الصواريخ تجاه بلدات ومدن إسرائيلية، فيما بعض عمليات الإطلاق جرت من مناطق شمال قطاع غزة، الذي زعم الجيش الإسرائيلي إحكامه السيطرة عليه.

كما انعكس غياب الانتصار الإسرائيلي الواضح على حماس على قناعات الجمهور الإسرائيلي الذي أظهرت استطلاعات الرأي تراجع ثقته باحتمالية تحقيق النصر في المعركة، مقارنة بأول شهرين في الحرب، وقد يؤدي طول أمد المعركة إلى مزيدٍ من التآكل في ثقة الإسرائيليين بشأن إمكانية الحسم العسكري ضد حماس وقطاع غزة.

ثانياً: تواضع الإنجازات مقابل كثافة النيران الهائلة

رغم القوة النارية الكبيرة وعمليات القصف الواسعة التي استُخدمت ضد قطاع غزة، الذي تعرض خلال الحرب حسب تقارير غربية "لأعنف حملات القصف التقليدية في التاريخ"، ما تسبب في مأساة إنسانية مروعة، فإن عمليات القصف والغزو البري لمناطق واسعة في القطاع لم تسفر على ما يبدو عن تأثير كبير في قدرات حماس العسكرية ومواصلتها القتال.

وتعكس تقارير عبرية وغربية حجم الإحباط من ضآلة الإنجازات العسكرية من خلال الاعتراف بفشل الجيش الإسرائيلي في اغتيال أو اعتقال معظم قيادات الصف الأول لحماس وكتائب القسَّام وتقديرات الجيش الإسرائيلي بأن معظم مقاتلي الحركة، البالغ عددهم 30 ألف مقاتل، لا يزالون على قيد الحياة بعد أكثر من 100 يوم من الحرب.

كما لم تنجح تكتيكات إسرائيل المختلفة للقضاء على خطر الأنفاق التي تستخدمها المقاومة، خصوصاً كتائب القسَّام، فيما تشير التقارير الأخيرة بشأن الذهول الإسرائيلي والأمريكي من نطاق وعمق ونوعية أنفاق حماس، إدراكاً لاستحالة مهمة إزالة تهديد الأنفاق.

ثالثاً: التعارض بين الأهداف المختلفة للحرب

كرّست أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، الرغبة الجامحة في الانتقام لدى الجمهور الإسرائيلي، وعلى هذا الأساس دعمت الأغلبية حرباً قاسية على قطاع غزة بهدف إسقاط حماس، غير أن طول أمد المعركة لأسابيع ثم شهور صعَّد معه المطالبات التي بدأت تتوسع بضرورة التوصل إلى صفقة لإعادة المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس وفصائل المقاومة في غزة.

إن معضلة إسرائيل الحالية لا تكمن في موقفها بشأن إبرام صفقة التبادل، بل بشرط حماس الواضح عدم إمكانية إبرام أي صفقة تبادل للأسرى قبل وقف نهائي لإطلاق النار، وهو الشرط الذي تعني الاستجابة له نهاية للحرب من جهة، وفشلاً رسميّاً لإسرائيل في تحقيق أهدافها الأساسية بالقضاء على حماس وتدمير مقدراتها العسكرية من جهة أخرى.

وعلى أي حال، فإن إبرام صفقة تبادل للأسرى، سواء بوقف إطلاق نار شامل أو بهدنة مؤقتة، يعني إسقاطاً لإستراتيجية كل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، القائمة على أن الضغط العسكري سيسهم في استعادة الرهائن.

رابعاً: تصاعد التنديد الدولي بالحرب

رغم الشرعية الواسعة دوليّاً التي حازتها إسرائيل خلال الأيام الأولى لعملياتها الانتقامية ضد غزة، فقد أدى السلوك الإسرائيلي الوحشي من خلال عمليات القصف الواسع للقطاع، والارتفاع السريع في أعداد الضحايا من المدنيين، خصوصاً النساء والأطفال، إلى تراكم الانتقادات الرسمية والشعبية لإسرائيل حول العالم، إذ خرجت مظاهرات واسعة في دول وعواصم مختلفة تنديداً بالحرب.

وقد ازدادت أعداد الدول التي باتت تعبّر بشكل أكثر وضوحاً عن موقفها الرافض للحرب، وفي حين قطعت دول مختلفة حول العالم علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل أو سحبت سفراءها، فإن دولاً أخرى على علاقة أوثق بتل أبيب ودعمت حربها على غزة في البداية، باتت تنأى بنفسها عن سياسات إسرائيل في حربها على غزة كفرنسا وكندا ونيوزلندا وأستراليا وغيرها.

التحول الأبرز في مسار التنديد الدولي ضد إسرائيل، جاء عبر جمهورية جنوب إفريقيا، التي ترفع حاليّاً طلباً لدى محكمة العدل الدولية بمحاكمة إسرائيل، بسبب ارتكابها جريمة إبادة جماعية ضد سكان قطاع غزة وانتهاكها الاتفاقية الدولية ذات الصلة، فيما مخالفة إسرائيل أمراً محتمل الصدور عن المحكمة بوقف الحرب يعني توريطاً لحلفاء إسرائيل حول العالم من خلال إلزامهم اتخاذ إجراءات تضمن عزل إسرائيل إلى حين الامتثال لأوامر المحكمة.

خامساً: التداعيات الاقتصادية للحرب

يشكّل الضغط الاقتصادي الذي أنتجته الحرب الإسرائيلية على غزة عاملاً آخر في إعادة حكومة وجيش الاحتلال تقييم الموقف من خلال جملة من الإجراءات، بينها سحب مزيدٍ من القوات العاملة في القطاع، وهي الخطوة التي حظيت بانتقادات من وزراء في الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً مع استمرار انطلاق الصواريخ من غزة إلى الأراضي المحتلة عام 1948.

مع بداية العام الجاري سجّلت وزارة المالية الإسرائيلية عجزاً في الميزانية بلغ أكثر من 4% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، بسبب زيادة الإنفاق الحكومي لتمويل الحرب، فيما تقدر إسرائيل تكلفة الحرب بنحو 56 مليار دولار للدفاع والتعويضات فقط، كما أدى حشد مئات الآلاف من قوات الاحتياط للمشاركة في الحرب إلى استنزاف سوق العمل التي عانت من نقص في أعداد القوى العاملة، ما اضطر عشرات الشركات إلى إغلاق أبوابها.

هل نهاية الحرب وشيكة؟

رغم حالة الإحباط التي بدأت تنتاب أوساط نخب إسرائيلية إزاء إمكانية حسم المعركة مع حماس بهزيمتها والقضاء على قوتها في غزة، وانفتاح قيادات سياسية وعسكرية على فكرة "الخروج بنتائج محدودة"، فإن الصوت الغالب حتى اللحظة يميل إلى استمرار القتال لأسباب عديدة، أهمها أن نتيناهو لا يرغب في إنهاء الحرب، لأنها تعني نهايته السياسية أيضاً، وإصرار التيار اليميني المتشدد في الحكومة الإسرائيلية على مواصلة الحرب.

المرحلة المقبلة ستزيد فيها الضغوط على حكومة الحرب الإسرائيلية في ظل استمرار تزايد الانتقادات لطريقة سير الحرب وفشل الجيش في تحقيق إنجازات مهمة على صعيد القضاء على قوة حماس، وكذلك اعتقال أو اغتيال قادتها، وإلى حين وصول الجميع إلى تلك القناعة، فإن مهمة الجيش الحالية ستظل مقتصرة على قتل مزيدٍ من المدنيين وتدمير المربعات السكنية والبِنى التحتية، تعويضاً عن فشله الكبير في الحرب.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً