تابعنا
مع هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هبت واشنطن لنجدة الكيان وأعلنت دعمها الكامل له، على اعتبار أنها لا تسمح بأن تتعرض ركيزتها الاستعمارية في المنطقة لأيّة هزة تؤثر في مكانة الولايات المتحدة العالمية.

تصاعدت في الآونة الأخيرة الخلافات بين إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يسعى لتجديد ولايته الرئاسية في الانتخابات الأمريكية العام المقبل، وبين حكومة المتطرفين في إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو المتعطش للبقاء في السلطة.

ومن المعلوم أن الخلافات ليست وليدة الحرب على غزة، فقد بدأت مع نجاح حكومة الاحتلال في تمرير التعديلات القضائية التي تقيد استقلالية القضاء، وهو ما أشعل الخلافات في الساحة الإسرائيلية، ودفع الولايات المتحدة إلى إعلان معارضتها لذلك، على اعتبار أن هذه التعديلات ستغير الوجه الديمقراطي للكيان.

كما عارضت الإدارة الأمريكية توسيع النشاط الاستيطاني لحكومة الاحتلال، الذي يجازف باستقرار المنطقة وتسهيل عملية التطبيع فيها، ويتناقض مع رغبة واشنطن بإعطاء الأولوية لروسيا والصين.

دعم مع قيود

ومع هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هبت واشنطن لنجدة الكيان وأعلنت دعمها الكامل له، على اعتبار أنها لا تسمح بأن تتعرض ركيزتها الاستعمارية في المنطقة لأيّة هزة تؤثر في مكانة الولايات المتحدة العالمية.

ولكن حكومة بايدن لا تزال ترى أن الحكومة الإسرائيلية التي يهيمن فيها غلاة اليمين الاستيطاني مثل بن غفير وسموترتش، تؤثر سلباً في مكانة الولايات المتحدة التي تسعى لتحقيق الاستقرار في المنطقة.

ولذلك، ومع تطور المعركة بدأت الخلافات بين الطرفين تطفو إلى السطح، خصوصاً أن الاحتلال شن حرباً دموية ركز فيها على المدنيين والمستشفيات والمدارس، واستخدم أسلحة فتاكة وغير متناسبة في حجم تدميرها مع الأماكن المستهدفة، بما في ذلك استخدام القنبلة السجادة ضد المستشفى المعمداني والتي قتلت أكثر من 500 مدني فلسطيني.

ولم يتمكن الاحتلال من إثبات مزاعمه بأن حماس تستخدم المستشفيات، واضطرت لبث مسرحيات وفبركة روايات مكشوفة لغرف وأسلحة محدودة في أقبية مستشفيي الشفاء والرنتيسي، جعلتها أضحوكة أمام العالم، واكتملت هذه الصورة باحتلالها الوحشي لمستشفى الشفاء وطرد معظم المرضى والكادر الطبي منه، والتسبب بعشرات -إن لم يكن مئات- حالات الوفاة؛ بسبب عدم التمكن من تقديم الرعاية الصحية لها.

في الوقت ذاته أدت صور المجازر في المعمداني، وغيرها من الصور إلى انقلاب الصورة عالمياً ضد الاحتلال وممارساته الوحشية النازية.

وشاهدنا المظاهرات المليونية في عقر دار الدول التي قدمت الدعم الكامل لإسرائيل، مثل أمريكا وبريطانيا.

وأظهرت استطلاعات تراجع التأييد للرئيس بايدن في فئة الشباب، وذلك ضمن الصورة الأوسع التي شهدت انحياز الجماهير للرواية الفلسطينية، ونبذها لرواية معاداة السامية التي استخدمها اليهود لترهيب الناس ومنعهم من انتقاد الكيان الصهيوني.

كما أدى التغيير في الرأي العام العالمي إلى خلخلة مواقف التحالف الذي دعم الحرب على غزة، إضافة إلى معارضة عدد من الدول الأوروبية الحرب على غزة، وانتقاد ممارسات حكومة الاحتلال، كما فعلت كل من إسبانيا وبلجيكا.

كل هذا دفع بايدن إلى ممارسة الضغوط على حكومة نتنياهو، ومطالبتها بالتخفيف من استهداف المدنيين، والتزام القانون الدولي في الحرب، مع الإقرار بحقها الكامل فيما أسماه "الدفاع عن نفسها".

تصاعد الخلافات

ومع استطالة الحرب، بدأت تتسع حدة الخلاف بين واشنطن وتل أبيب، فقد فشلت قوات الاحتلال في تحقيق أي إنجاز عسكري ضد حماس، فلا هي حيدت القيادة العسكرية، ولا ألحقت ضرراً بمنظومة السيطرة والقيادة لديها.

كما فشل الاحتلال في دخول المناطق ذات الكثافة السكانية، وكان يتعرض لخسائر حين يحاول التقدم فيها.

وهنا تدخلت الإدارة الأمريكية لتلزم حكومة نتنياهو الموافقة على هُدن إنسانية لمبادلة النساء والقصّر مع حماس بنسبة 1 إلى 3، بعد طول مماطلة، أملاً في الحصول على صورة نصر لم يحصل، مع تصاعد احتجاجات أهالي المحتجزين لمطالبة نتنياهو بإعادتهم بأسرع وقت.

استمرت الهدنة لمدة سبعة أيام، من دون أن تستكمل عملية التبادل في فئتي النساء والقُصّر، إذ تبادل الاحتلال مع حماس الاتهامات بإنهائها، إلا أن الواضح أن الاحتلال لم يكن يرغب في التمديد؛ لأنه يريد استئناف العدوان واستغلال ما تبقى له من وقت لتحقيق إنجاز يستطيع تقديمه لجمهوره.

وخلال زيارة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن إلى تل أبيب، أعلن وبوضوح دعم واشنطن لاستئناف الحرب على جنوب القطاع تحديداً مع استكمالها في شماله.

إلا أن ما نُشر عن كواليس اجتماعه مع قادة الاحتلال في مجلس الحرب، أنه طالب الاحتلال بتخفيف استهداف المدنيين، ومراعاة الاحتياجات الإنسانية لهم، في إشارة واضحة إلى تعمّد الاحتلال تعطيل دخول قوافل المساعدات والوقود إلى قطاع غزة.

أضف إلى ذلك، أن وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالنت قال إن الحرب قد تستغرق أشهراً، ولكن بلينكن أكد له أنه لا يملك هذه الأفضلية، في مؤشر على عمق الخلاف بين الطرفين، حتى وإنْ اتفقا في ضرورة استمرار الحرب على غزة.

وأعربت واشنطن كذلك عن معارضتها تهجير أهالي غزة واقتلاعهم من أماكن سكناهم، إذ يثير ذلك الانتقادات العالمية، ويهدد بخلخلة علاقات واشنطن مع حلفاء لها في المنطقة، مثل الأردن ومصر اللذين يرفضان ذلك رفضاً قاطعاً.

فسحة الوقت تضيق

من الواضح أن الإدارة الأمريكية تريد أن تضبط حدّة الهجوم الإسرائيلي لما يثيره من تداعيات سلبية عليها، فضلاً عن رغبتها في أن ينجز هذا الهجوم أهدافه قُبيل حلول موعد الدعاية للانتخابات الأمريكية، فضلاً عن الاستمرار بمطالبة الاحتلال بوضع حد لقطعان المستوطنين في الضفة.

ونقلت قناة "إن بي سي" (NBC) عن مسؤولين أمريكيين، أن إدارة بايدن تواجه معارضة داخلية استثنائية لم تحدث في إدارات سابقة، بسبب دعمها الهجوم العسكري الإسرائيلي في غزة، ومطالبات بإخضاع المساعدات لها لقيود.

بدوره، أكد مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية أن رسائل دبلوماسييهم بالشرق الأوسط تحذر من أن سمعتهم تتضرر بشدة، بسبب نهجهم الداعم لإسرائيل.

وكان عدد من المشرعين الأمريكيين طالبوا البيت الأبيض بأن يربط تدفق المساعدات العسكرية إلى إسرائيل بالتزامها القانون الدولي.

وترتبط الضغوط الأمريكية على حكومة نتنياهو بعدم وجود خطة واضحة للاحتلال لما بعد تحقيق أهدافها المزعومة بتفكيك حركة حماس القتالية إلى أجزاء صغيرة لا تعرض إسرائيل للخطر.

تريد هذه الحكومة الاستمرار في السيطرة على غزة من دون قيد زمني، وتعارض أي دور للسلطة الفلسطينية فيه، على عكس واشنطن التي تتخوف أيضاً من اشتعال صراع إقليمي تشارك فيه أدوات إيران في المعركة في حال استطالتها، ووقوع خسائر فادحة بالمدنيين التي بدورها ستؤلّب الرأي العام الدولي على الولايات المتحدة أكثر وأكثر.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، عن مسؤولين في الأمن القومي، أنهم يخشون أن يؤدي سوء التقدير بين واشنطن وطهران إلى صراع إقليمي.

حدود الضغط الأمريكي

ولا يبدو أن أي إدارة أمريكية قادرة على إلزام إسرائيل مواقفَها، والدليل أن الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة لم يراعِ إلى حد كبير المطالب الأمريكية، لا من ناحية وحشيته وعنفه، ولا من ناحية وقف تدفق المساعدات الإنسانية، ولا من ناحية المدة الزمنية، إذ تحدث الناطق باسم جيش الاحتلال أن "مهمة تفكيك حماس ستستغرق أشهراً"!

إلا أن الإدارة الأمريكية قد تضطر إلى استخدام نفوذها إذا شعرت أن الهجوم الإسرائيلي سيلحق ضرراً كبيراً بمصالحها، أو حين تشعر بخطر حرب إقليمية محدق.

وفي هذه الحالة، فإن واشنطن تملك أدوات كثيرة للضغط على إسرائيل، مثل إبطاء المساعدات العسكرية المطلوبة في ضوء الحاجة المتزايدة للاحتلال لها، أو حتى تأخير المصادقة على رزمة المساعدات الخاصة في الكونغرس التي تبلغ 14 مليار دولار، وذلك فضلاً عن وسائل الضغط الدبلوماسية الأخرى، واستدعاء الخلافات الإسرائيلية والتركيز عليها.

ولذلك، فإن الاحتلال مستمر بحربه الشرسة واللا أخلاقية على غزة، ومستمر بخرق قواعد القانون الدولي، وقواعد حقوق الإنسان، بدعم وشراكة كاملة مع الولايات المتحدة ودول غربية محددة، ولن يوقف العدوان إلا صمود الشعب الفلسطيني، أو توسيع دائرة الصراع مع إسرائيل، أو في حال وصلت ضغوط الرأي العام إلى مرحلة حرجة تهدد فرص بايدن في الانتخابات المقبلة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً