تابعنا
استطاعت الصين تحقيق أمرَين هامَّين حتى الآن هما: أولاً، كشف تراجع الولايات المتحدة قوة عظمى. وثانياً، تشكيل بديل عن وشنطن.

شكل توسط الصين مؤخراً في ترميم العلاقة بين السعودية وإيران، وهما الخصمان اللدودان في المنطقة على مدار عشرات السنوات، مفاجأة من العيار الثقيل وعلى مختلف الأصعدة. وهو الأمر الذي بات يفرض معه عديداً من التساؤلات حول دور الصين في النظام الدولي في الفترة اللاحقة، وإذا كنا سوف نشهد عصر باكس-سينيكا (Pax Sinica) أي السلام الصيني من جديد على غرار باكس-بريتانيكا أو باكس-أمريكانا.

لا شك أن دخول الصين على خط الوساطة بين السعودية وإيران كان مدفوعاً بالمصالح العليا لبكين. فالبلدَين محوريَّين لنهضتها الاقتصادية من حيث أمن الطاقة، وسلاسل التوريد. فالصين تستورد من منطقة الخليج ما يقرب من 90% من حاجتها النفطية، في حين يعد موقع الخليج الجغرافي، حلقة وصل بين آسيا وإفريقيا من جهة وآسيا وأوروبا من جهة أخرى، ومحورياً في مشروع الصين الهائل المتمثل ببطريق الحرير الجديد. ولذلك فالصين من بين كل الدول الكبرى معنية بأن تسهم في الحفاظ على منطقة الخليج آمنة ومستقرة وبعيدة كل البعد عن حروب قد تنخرط فيها دول كبرى كالولايات المتحدة خصوصاً في ظل التصعيد المتعلق بملف إيران النووي والذي تقوده إسرائيل-نتنياهو.

البعد الجيو-أمني، والجيو-طاقي آنف الذكر كان معززاً ببعد آخر يتعلق بالمكانة أو "البرستيج"، وهو بعد يبدو حاضراً بقوة في عقلية صانع القرار الصيني. فالسعودية وإيران من أهم وأكبر الدول الإقليمية. كما أن الخصومة بينهما معقدة ومتشابكة تشتمل على عوامل التاريخ والجغرافيا والدين. ولذلك فإن أي دول تستطيع الجمع بين هذه المتناقضات كلها وتعيد العلاقة بينهما من شأن ذلك أن يعطيها مكانة على الصعيد الدولي تدل على قدرتها الدبلوماسية وموثوقيتها. ولا شك أن الموثوقية والقدرة الدبلوماسية من أهم مكونات القيادة الدولية التي تسعى إليها الدول الصاعدة كالصين. وهنا ربما من الجدير التذكير أن الولايات المتحدة سعت للتقارب أيضاً من السعودية وإيران في مطلع سبعينات القرن العشرين ضمن استراتيجية الدعامة المزدوجة من أجل دفع التمدد السوفييتي بعيداً عن مياه الخليج الدافئة.

لقد كانت استراتيجية الدعامة المزدوجة محورية في سياق الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة بعيد الحرب العالمية الثانية والتي تمثلت بصد النفوذ السوفييتي واحتواء التوسع الشيوعي. وبالرغم من الحروب العديدة التي اشتعلت في عديد من أقاليم العالم ضمن تنافس المعسكرَين الغربي والشرقي فإن الولايات المتحدة استطاعت من خلال نفوذها أن تحيّد وقوع حرب واسعة النطاق بين الدول العظمى على شاكلة الحرب العالمية الأولى والثانية. كما كان لها دور فاعل في النهضة الاقتصادية العالمية من خلال المؤسسات الدولية التي انشأتها كصندوق النقد الدولي، هذا فضلاً عن حزام الاستقرار الذي فرضته على خطوط التجارة العالمية من خلال أحلافها العسكرية وأساطيلها البحرية. ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن يطلق على الحقبة التي بدأت ما بعد الحرب العالمية الثانية بعصر السلام الأمريكي أو Pax Americana.

بطبيعة الحال، فقد استُخدم مصطلح السلام البريطاني أو Pax Britannica سابقاً ويطلق على الفترة التي برزت فيها المملكة المتحدة قوة عظمى على المسرح العالمي وتحديداً منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين. ويشار إلى أن أول من استخدم هذا المصطلح هو الباحث الألماني أوغست فيلهلم شليغل وذلك لوصف السلام والاستقرار الذي كان في أوروبا خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي لعبت فيها بريطانيا دوراً رئيسياً في الحفاظ على توازن القوى في القارة العجوز.

وبالنظر إلى أن استقصاء جميع الشروط الموضوعية والتاريخية حول "عصر السلام" الـ Pax لأي قوة صاعدة لا يمكن في مقال واحد وعلى عجالة، فإن ذكر الخطوط العريضة يفي بالغرض. فأي دولة تطمح أن تبلغ مرحلة الـPax يجب أن تتوفر لديها شروط تتعلق بالقوة الصلبة العسكرية منها والاقتصادية. بالإضافة إلى القوة الناعمة المتمثلة بالموثوقية والثقة والدبلوماسية النشطة. وأي مراقب لوضع الصين في السنوات الأخيرة سيجد أنها قد أصبحت تتمتع بعديد من هذه الشروط الموضوعية.

فقد أصبحت، على سبيل المثال، ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وتمد شراكاتها الاقتصادية والتجارية إلى عديد من الأقاليم حتى بات يُطلَق عليها "مصنع العالم". يكفي النظر إلى حجم الاستثمارات الصينية في إفريقيا. هذا فضلاً عن التحالفات التي بدأت تنسجها مع القوى الصاعدة الأخرى كروسيا وإيران والسعودية وغيرها.

أما الجانب الأهم فيما يتعلق بالقوة في هذا العصر ألا وهو التكنولوجيا فالصين تبرز لاعباً محورياً ومتقدماً في عديد من الجوانب التي بات الغرب يتخلف بها على رأسها الحوسبة الكمية، على سبيل المثال، إذ استطاعت الصين أن تجري أول اختبار في العالم للاتصال عبر الحوسبة الكمية مع محطاتها في الفضاء الخارجي. كما تعتبر الصين رائدة تكنولوجيا شبكات الاتصال الجيل الخامس G5، والتكنولوجيا الحيوية. وفي الوقت الذي غابت فيه الصين لفترة طويلة عن سوق الماركات "البراندات" العالمي، فإننا نرى ماركاتها تغزو الأسواق من السيارات إلى الأجهزة اللوحية المحمولة.

بلا شك فإن التحول إلى قيادة النظام الدولي، أو نسج نظام دولي جديد لا يتحقق بين عشية وضحاها، ولكن يبدو أن الصين في الطريق الصحيح. هذا مع العلم بأنه يصعب التنبؤ متى يمكن للصين أن تحقق هذه المكانة. على أقل تقدير، فقط استطاعت الصين تحقيق أمرَين هامَّين حتى الآن هما: أولاً، كشف تراجع الولايات المتحدة قوة عظمى. وثانياً، تشكيل بديل عن الولايات المتحدة. وقد كانت الحرب الروسية-الأوكرانية أكبر تعبير عن هذَين الأمرَين. فالدول التي واجهت تهديدات من الولايات المتحدة بفرض عقوبات إذا تعاملت مع روسيا لم تكترث كثيراً ما دام كان البديل حاضراً وهو الصين.

في النهاية علينا التذكير أن الصين دولة ليست غريبة على مكانة الدول العظمى. يذكر التاريخ أن الصين مارست هذا الدور سابقاً وحظيت بفرصة أن يسمى عصر ما عصر السلام الصيني أو Pax Sinica.

فقد ظهر عصر السلام الصيني أو "باكس سينيكا" في عهد أسرة هان، التي استمرت من 206 قبل الميلاد إلى 220 م. وخلال هذا الوقت، شهدت الصين نمواً اقتصادياً وثقافياً كبيراً، وأصبحت أقوى دولة في العالم. فأسست أسرة هان حكومة مركزية، وبنت جيشاً قوياً، وطوّرت بيروقراطية متطورة ربما الأولى في العالم، مما ساعد على الحفاظ على الاستقرار والنظام في جميع أنحاء المنطقة التي خضعت لنفوذها.

لدى الصين فرصة لتحقيق ذلك مجدداً. لا يعرف متى بالضبط، ولكن بكل تأكيد أمامها عقبة تتمثل بالولايات المتحدة التي تعتبر قيادة العالم من ضمن اختصاصاتها قوة عظمى بحكم الأمر الواقع. حول مستقبل العلاقة بين بكين وواشنطن غموض كبير: هل الأمر ذاهب نحو صدام عسكري وحرب عالمية ثالثة يتحدد شكل النظام الدولي بناء على مخرجاتها؟ أم عيش مشترك قائم على إعادة رسم ملامح النظام الدولي وفق قاعدة رابح-رابح بحيث يكون لكل تكتل سياسي مجال نفوذ خاص به لا يُعتدى عليه؟

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً