تابعنا
يرجع استمرار تغيّر المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض إلى ظاهرة الاحترار العالمي أو الاحتباس الحراري، وهي ظاهرة تنتج عن احتجاز جزء من حرارة الشمس المنعكسة من المحيطات واليابسة داخل الغلاف الجوي للأرض، ومنعها من النفاذ خارجه.

في رقم قياسي جديد تحطمه درجات الحرارة، قالت خدمة كوبرنيكوس لتغيّر المناخ (C3S) التابعة للاتحاد الأوروبي، إن الفترة بين فبراير/شباط 2023 ويناير/كانون الثاني 2024 كانت الفترة الأكثر سخونة على الإطلاق، التي قيست على مدى 12 شهراً.

وارتفع خلال هذه الفترة متوسط ​​درجات الحرارة العالمية لأول مرّة بمقدار 1.52 درجة مئوية أعلى من متوسط ​​درجات الحرارة في بداية الثورة الصناعية التي قيست بين عامي 1850 و1900.

وأعلنت خدمة كوبرنيكوس سابقاً أن عام 2023 كان الأكثر سخونة منذ 173 عاماً على الأقل، بمقدار 1.48 درجة مئوية، ومع إدراج بيانات شهر يناير/كانون الثاني الماضي ضمن هذه القياسات ارتفع متوسط ​​مقدار الاحترار إلى الرقم القياسي الجديد.

وتمثل هذه الفترة المرّة الأولى التي يرتفع فيها متوسط ​​درجات الحرارة العالمية فوق 1.5 درجة مئوية، مما يوفر لمحة عن عالم قد تفشل فيه البشرية في السيطرة على تغيّر المناخ.

لماذا 1.5 درجة مئوية؟

تبرز حدود 1.5 درجة مئوية بأنها أعلى درجة حُددت كجزء من اتفاق باريس للمناخ لعام 2015، الذي تعهدت فيه كل دول العالم تقريباً بخفض انبعاثاتها الغازية، للحدّ من زيادة درجة الحرارة العالمية إلى درجتين مئويتين مع السعي إلى الحدّ من الزيادة إلى 1.5 درجة في نهاية القرن قياساً بعصر ما قبل الصناعة.

ولا يعني تجاوز متوسط درجات الحرارة لعام واحد حدود 1.5 درجة مئوية فشل أهداف اتفاق باريس، لكنه يشكل مؤشراً حول إمكانية فشل الجهود العالمية في تحقيق هذا الهدف الواعد، وهو ما عبّرت عنه الأمم المتحدة في تقرير سابق بأن العالم ليس على المسار الصحيح لتحقيق الأهداف طويلة المدى لاتفاق باريس، وعلى دول العالم بأسره بذل مزيد من الجهود الفورية وعلى كل الجبهات لمواجهة أزمة المناخ.

ويرى بعض العلماء أن هدف اتفاق باريس لم يعد من الممكن تحقيقه بشكل واقعي، لكنهم ما زالوا يحثون الحكومات على التصرف بشكل أسرع لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للحد من تجاوز الهدف.

ما أسباب هذا الاحترار العالمي؟

يرجع استمرار تغيّر المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض إلى ظاهرة الاحترار العالمي أو الاحتباس الحراري، وهي ظاهرة تنتج عن احتجاز جزء من حرارة الشمس المنعكسة من المحيطات واليابسة داخل الغلاف الجوي للأرض، ومنعها من النفاذ خارجه.

وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة طبيعية وضرورية للحفاظ على درجة حرارة الكوكب صالحاً للعيش، فإن زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز الناتجة عن النشاط البشري، شكّلت طبقة عازلة للأرض تحتجز الحرارة داخلها، في ظاهرة تشبه ظاهرة البيوت البلاستيكية المستخدمة في الزراعة، أسهمت بشكل واضح في رفع متوسط درجة حرارة الأرض وتغيير أنماط المناخ على المدى الطويل.

ومنذ أن بدأت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، أضاف البشر كميات كبيرة من الغازات الدفيئة إلى الغلاف الجوي عن طريق حرق الوقود الأحفوري في قطاعات النقل والتصنيع وإنتاج الطاقة، إضافةً إلى قطع الغابات، وعندما تنبعث الغازات الدفيئة إلى الغلاف الجوي، يبقى كثير منها هناك لفترات زمنية طويلة تتراوح بين عقد من الزمان وعدة آلاف من السنين، وبمرور الوقت تُزال هذه الغازات من الغلاف الجوي عن طريق التفاعلات الكيميائية أو عن طريق المحيطات والغطاء النباتي، التي تمتص غازات الدفيئة من الغلاف الجوي.

لكن ونتيجة للأنشطة البشرية، تدخل هذه الغازات إلى الغلاف الجوي بسرعة أكبر من سرعة إزالتها، وبالتالي فإن تركيزاتها تزداد، ويعني طول فترة بقاء ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أن درجات الحرارة ستستمر في الارتفاع لسنوات عديدة قادمة.

وتشير الأرقام إلى زيادة تركيزات ثاني أكسيد الكربون بشكل كبير منذ بداية العصر الصناعي، إذ ارتفعت من متوسط ​​سنوي قدره 280 جزءاً في المليون في أواخر القرن الثامن عشر إلى 414 جزءاً في المليون في عام 2021 بزيادة قدرها 48%، وترجع كل هذه الزيادة تقريباً إلى الأنشطة البشرية.

كما تضاعف تركيز الميثان في الغلاف الجوي منذ عصور ما قبل الصناعة، إذ وصل إلى أكثر من 1800 جزء في المليار في السنوات الأخيرة، وترجع هذه الزيادة في المقام الأول إلى الزراعة واستخدام الوقود الأحفوري.

ظاهرة النينيو وتغيّر المناخ

إلى جانب النشاط البشري الذي يعد العامل الحاسم في معادلة تغيّر المناخ، تلعب بعض الأنشطة البشرية الطبيعية دوراً ثانوياً لكنه واضح.

على سبيل المثال، يؤدي تذبذبٌ طبيعيٌ غير منتظم في حركة الرياح ودرجة حرارة المياه شرق المحيط الهادئ الاستوائي، إلى سلسلة من التأثيرات في أنماط الطقس حول العالم، تسمى التذبذب الجنوبي لظاهرة النينيو أو (ENSO)، ويظهر هذا التذبذب في حالتين رئيسيتين متعاقبتين ومتعاكستين بالتأثير هما النينيو (El Niño) والنينيا (La Niña).

وشهد عام 2023 بالفعل نمط ظاهرة النينيو المرتبطة بارتفاع درجة الحرارة وسط وشرق المحيط الهادئ الاستوائي، ويشير مصطلح "النينيو" إلى ارتفاع درجة حرارة سطح المحيط، في وسط وشرق المحيط الهادئ الاستوائي، ويحدث الاحترار عندما تضعف الرياح التجارية السائدة من الشرق إلى الغرب التي تتدفق حول خط الاستواء، وتهبّ المياه الدافئة من غرب المحيط الهادئ باتجاه الشرق قبالة شواطئ أمريكا الجنوبية، دافعةً كميات كبيرة من الحرارة إلى الغلاف الجوي.

الطقس المتطرف أبرز آثار تغيّر المناخ

شهد عام 2023 ظواهر مناخية قاسية ومتطرفة خلَّفت كثيراً من الدمار والكوارث في كثير من أنحاء العالم، تمثلت بفيضانات وأعاصير مدمرة، وارتفاع درجة حرارة سطح البحر إلى مستويات قياسية.

وتلعب حرارة سطح المحيطات دوراً كبيراً في تحديد مظاهر الطقس كونها تعدّ مصدراً لتغذية الأعاصير المدارية بالطاقة، إذ تؤدي إلى ازدياد معدلات التبخر وتكدس السحب الركامية التي تحمل كميات كبيرة من الهطولات المطرية الغزيرة.

وكانت للأحداث المتطرفة في جميع أنحاء العالم في عام 2023 آثار كبيرة على صحة الإنسان والنظم البيئية والطبيعة والبنية التحتية، ومن بين الحالات الأكثر استثنائية كانت الفيضانات وحرائق الغابات والجفاف والحرارة الشديدة.

وتراوحت أحداث الفيضانات المؤثرة من الفيضانات المفاجئة الناجمة عن هطول الأمطار الغزيرة إلى الفيضانات واسعة النطاق والأمطار الموسمية وأنظمة الضغط المنخفض الكبيرة والأعاصير المدارية.

كما أدى الجفاف الشديد كما هو الحال في القرن الإفريقي إلى تفاقم الفيضانات بسبب انخفاض مستويات رطوبة التربة وقلّة نفاذيتها، وبالتالي تسارع الجريان السطحي لمياه الأمطار على شكل سيول عارمة.

كما حدثت موجات حارة في جميع أنحاء العالم خلال عام 2023، وأسهمت الظروف الحارة والجافة في بعض المناطق في انتشار حرائق الغابات على نطاق واسع، لا سيما في جنوب أوروبا وكندا وأمريكا الجنوبية وأستراليا وهاواي ومناطق أخرى.

تراجُع الجليد القطبي

تراجعت مساحة الجليد البحري في القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) خلال العام الماضي إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق منذ بدء عصر الرصد بالأقمار الصناعية عام 1979 وحتى الوقت الحاضر، وبلغ الحد الأقصى السنوي في سبتمبر/أيلول 16.96 مليون كيلومتر مربع، أي أقل بمليون كيلومتر مربع من الحد الأقصى القياسي المنخفض السابق في عام 1986، وفق بيانات المنظمة العالمية للأرصاد الجويّة.

كما سجَّل الحد الأقصى السنوي لمساحة الجليد البحري في المنطقة القطبية الشمالية خامس أقل معدلاته، في حين سجَّل الحد الأدنى السنوي سادس أدنى مستوى له على الإطلاق.

وشهدت الأنهار الجليدية في غرب أمريكا الشمالية وجبال الألب الأوروبية موسم ذوبان شديد، ففي سويسرا فقدت الأنهار الجليدية في العامين الماضيين ما يقرب من 10% من حجمها المتبقي، حسب المنظمة الأممية.

آثار اقتصادية واجتماعية

يهدد تغيّر المناخ سبل العيش ويترك آثاراً اقتصادية فادحة على المجتمعات خصوصاً في البلدان النامية التي تشكل الزراعة عماد اقتصادها.

يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى جفاف الأراضي الزراعية وزيادة التصحر وفقدان المحاصيل الزراعية أو ضعف مردودها، وانتشار آفات زراعية جديدة بسبب تهيئة الظروف المناخية لانتشار أنواع جديدة من الحشرات والبكتيريا والفيروسات التي تدمّر المحاصيل، وهو ما يهدد الأمن الغذائي للدول ويزيد مستويات الجوع والفقر فيها.

كما يؤدي تغيّر المناخ إلى زيادة معدلات الهجرة من الريف إلى المدينة بحثاً عن فرص عمل جديدة، الأمر الذي يزيد من الضغوط البيئية على المدن خصوصاً تلك التي تعاني نقص الموارد المائية فيها، وكذلك انتشار العشوائيات والأحياء الفقيرة التي تفتقر إلى الخدمات الصحية والتعليمية.

كما تترك الفيضانات وحرائق الغابات آلاف الأسر المشرَّدة التي فقدت منازلها وفقدت سبل العيش، وهو ما يرفع معدلات النزوح الداخلي أو الهجرة الخارجية بشكل يترك آثاراً على المجتمعات المضيفة التي تعاني أيضاً تبعات التغيّر المناخي.

TRT عربي