حوار مع العازف الإسرائيلي جلعاد آتزمون (Others)
تابعنا

إذا كنت مكروهاً من الصهاينة المحافظين والليبراليين المناهضين للصهيونية على حد سواء، فهذا لا يعني سوى أمر واحد: أنَّك جلعاد آتزمون.   

وُلِد جلعاد آتزمون في إسرائيل عام 1963 لأسرةٍ صهيونية، وهو ما يعني أنه نشأ على اعتبار أن أرض الميعاد اليهودية هي وطنه الأم، وقال إنه كان يُنتَظر منه أن يخدم الأيديولوجية الإسرائيلية التي تقضي بسيادة اليهودية ويرسخها.    

لكن حين كان في السابعة عشر من عمره، وقع أسيراً لألحان شارلي باركر، عازف الجاز الأميركي من أصول إفريقية. ولأنَّه كان إسرائيلياً حتى النخاع، كان ذلك بمثابة تحدٍ لكل ما آمن به حتى تلك اللحظة: اليهود وحدهم هم من يصنعون الأمجاد.     

وخلال عمله مسعفاً وموسيقياً في صفوف الجيش الإسرائيلي إبان غزو لبنان عام 1982، شهد آتزمون المعاناة الشديدة التي لاقاها العرب.    

ويقول إنَّه في تلك المرحلة بدأ ينظر للحياة "من منظور أخلاقي وليس صهيوني".

وعقب ذلك بسنوات، انتقل آتزمون إلى بريطانيا لدراسة الفلسفة، وبدأ مسيرته المهنية عازفاً لموسيقى الجاز. واليوم، يسعى لتنوير الناس وتوحيدهم من خلال فنه.   

لكن فترة عمله كاتباً يستقصي الهوية اليهودية شهدت نعته بالمُروِّج لنظريات المؤامرة المعادية للسامية. إلا أنه يحتج أنها محاولات لحجب التحليلات الصادقة حول التأثير اليهودي الهائل في الثقافة الجمعية والسياسة والاقتصاد العالمي، وانعاكسها عليها من خلال أمثال مدرسة فرانكفورت وميلتون فريدمان.         

وفي ظل تزايد حركات المقاطعة والانتقادات الدولية ضد إسرائيل، يرى آتزمون أنَّ موطنه السابق قد يتعرض فقط لمعارضة صارمة لما يرتكبه من ظلم إذا نُظِر لهذه الأفعال في إطار السياق الأشمل لسياسة الهوية اليهودية، وهو السياق الذي يسعى لينتزع نفسه منه. وأجرت شبكة TRT حواراً معه لتعرف أسباب ذلك.       

شبكة TRT : باعتبارك موسيقياً، كيف تشعر حول إلغاء المغنية لانا ديل راي والكثيرين غيرها مشاركتهم في مهرجان ميتيور للموسيقى في إسرائيل عقب مناشدات من حملة "مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها"، المعروفة اختصاراً بـ"BDS   

جلعاد آتزمون: إنه لأمر رائع. أنا لا أدعم تصعيد حملة BDS للضغوط على الفنانين، لكنني أرى أنَّ رفض الفنانين تقديم عروض في دول تُرتَكب فيها الكثير من الجرائم ضد الإنسانية أمرٌ جدير بالتقدير. أنا شخصياً قررت مقاطعة إسرائيل قبل أن تظهر حركة BDS بكثير. فأنا لم أزر بلدي الأم منذ عام 1996.          

أرى أنَّ رفض الفنانين تقديم عروض في دول تُرتَكب فيها الكثير من الجرائم ضد الإنسانية أمرٌ جدير بالتقدير. أنا شخصياً قررت مقاطعة إسرائيل قبل أن تظهر حركة BDS بكثير

جلعاد آتزمون

تداولت نشرات الأخبار الكثير من القصص الكبرى حول إسرائيل هذا العام، أبرزها كان قانون الدولة القومية اليهودية. ما تقييمك لهذا؟     

آتزمون: هذا إنما يؤكد ما أدركناه منذ وقت طويل، من أنَّ إسرائيل دولة يهودية وكل ما يحدث فيها لابد وأن يُنظَر له في إطار يهوديتها. ويؤكد كذلك ما ظللت أقوله لسنوات: لابد أن نتعمق في مفاهيم اليهود والهوية اليهودية والديانة اليهودية لكي نفهم الفرق بين الثلاثة والعلاقة بينها.

هل يمكنك أن توضح لنا أكثر؟     

آتزمون: أنا أفرق بوضوح بين الشعب اليهودي، وهو تصنيف اعتبره بريء، والهوية اليهودية باعتبارها أيديولوجية، واليهودية كديانة.         

أرى أنَّ الشعب اليهودي والديانة اليهودية فئتان بريئتان. فحقيقة أنك ولدت يهودي لا تجعل منك مجرم حرب أو صاحب فكر استعلائي. والديانة اليهودية كذلك هي فكر بريء نسبياً. ونحن نعلم أنَّ المجتمع اليهودي العريق الوحيد الذي يعمل بنشاط حقاً لصالح فلسطين هم اليهود التوراتيون، أو اليهود الأرثوذوكس.      

أما بالنسبة للهوية اليهودية فالوضع معقد. خضت جدلاً مع يهودي ذي فكر استعلائي أمس وكانت حجته أنَّه ليس هناك ما يُدعى بالهوية اليهودية، فالأمر يتغير بمرور السنوات. أتفق تماماً، فالمرونة شيء متأصل في الهوية اليهودية، لكن الشيء الوحيد الذي يظل ثابتاً هو التمييز. فالهوية اليهودية هي اكتشافات مختلفة لعقيدة "الشعب المختار". ويشعر بعض اليهود بأنهم مختارون دوناً عن غيرهم لأنَّ الله قد اصطفاهم، في حين يشعر آخرون بأنهم مختارون لأنهم بلاشفة، ويمكنهم بعدها بأسبوع أن يشعروا أنهم مختارون لأنهم يدعمون السوق الحر، مثل ميلتون فريدمان. ويمكنهم الإحساس بأنهم مختارون لأنهم متدينون، أو لأنهم علمانيون. وأعتقد أنَّ هذا الشعور بـ"الاستثنائية" الذي تستند إليه عقيدة "الشعب المختار" ذات الدوافع العنصرية هو النقطة المشتركة بين الثقافات اليهودية كافة.                  

ولهذا لم أشر على الإطلاق إلى اليهود من الجانب البيولوجي أو العرقي أو الطائفي. لكنني أعتقد أنَّ الفكر الاستعلائي جوهري في الهوية اليهودية؛ ولهذا السبب فبدلاً من الحديث عن "اليهود" أتحدث عن الأشخاص الذين يُعرَفون "سياسياً" بأنهم يهود.        

لقد تغيرت 180 درجة عمَّا تمثله إسرائيل، لكن أخبرنا عن طفولتك التي قلت إنك تأثرت خلالها بشدة بجدك الصهيوني.    

آتزمون: لا أظن أنه يمكنك الإشارة في حالتي إلى التحول 180 أو 45 أو حتى 360 درجة. فأنا أرى أنني أؤدي دور الفيلسوف، وبصفتي فيلسوفاً فعملي هو تنقيح الأسئلة وليس المشاركة بشعارات أو إعادة تدويرها. أنا أعمل الآن على دراسة الصهيونية، وأرى -هذا أمرٌ مثير- أنكم ستكونون أول من أسبر أغوار هذه الفكرة معه. ترعرت في مجتمع يرى نفسه ثورياً. وحظيت بنشأة قومية متطرفة مدفوعة بالازدراء التام ليهود الشتات، وهو ما لم أفهمه لأنني كبرت في إسرائيل ولم أتعرف على أي من يهود الشتات. لكننا كنا ننظر إلى يهود الشتات على أنهم حفنة من الرأسماليين الاستغلاليين الذين يولون ظهورهم للمجتمع، وأننا ولدنا لنصبح أشخاصاً عاديين، عمال. كان أبي وأمي يكدحان في العمل، وتربيت على أن أصبح إسرائيلياً متفانياً في العمل.

وعلى خلاف يهود الشتات الذين سيقوا مثل الخراف إلى مذبحة معسكر أوشفيتز النازي لإبادة اليهود، نشأنا على أن نقاتل، وبالتالي كنت سعيداً واتطلع للموت في ساحة الحرب. هذه هي نشأتي. دعني أخبرك شيئاً: حين شارفت الحرب، لم أكن متأكداً ما إذا كنت أرغب في الموت دفاعاً عن إسرائيل. ومن ثم بدأت أفهم أنَّ ثمة شيء خاطيء.                  

ومع بدء تحولنا نحو الدولة اليهودية، زاد تبنينا للمظاهر اليهودية. إذ أصبحنا ضحايا، وبدأنا نتباكى حول الهولوكوست. حين كنت صغيراً، كنا ننظر إلى الهولوكست بازدراء. وكنا ننظر باحتقار إلى اليهود الذين سيقوا مثل الخراف إلى المذبحة. إذا كنت لا تصدقني أقرأ كتاب The Seventh Million لتوم سيرغيف، الذي يتحدث عن المليون يهودي الذين نجوا من المحرقة، وكيف كانت تُساء معاملتهم في إسرائيل. وهناك أفلام أيضاً تتحدث عن ذلك. وأخبرني والديّ -وهو ما ستسمعه من آخرين أيضاً- أنهما لم يُسمَح لهما باللعب مع الصغار الناجين من المحرقة أو استضافتهم بالمنزل. إذ كان يعتبرهم الإسرائيليون في ذلك الوقت أنهم أقل من البشر. وهناك فيلم يحكي هذه الأحداث يدعى Aviyas Summer       

وما استوعبته مؤخراً هو أنني كنت في البداية متحمساً جداً للثورة الإسرائيلية. كنت اتفق معها.   

كل ما أردته هو أن أكون إنساناً عادياً، لكن مع تحول إسرائيل إلى دولة يهودية، كان عليّ أن أغادر البلد.   

ما الذي كنت تتعلمه في المدرسة حول قيام دولة إسرائيل؟

آتزمون: كنا مضللين. أخبرونا أنَّ الفلسطينيين غادروا طواعيةً. ولم أسمع كلمة النكبة حتى نهاية التسعينيات من القرن العشرين. ومع ذلك، حين كنت في لبنان عام 1982، بدأت أرى مخيمات اللاجئين. وبدأت أتحرى المسألة بعمق، وأدركت حجم التطهير العرقي الذي حدث.      

حين نظرت إلى اتفاقية السلام التي فُرِضَت على الفلسطينيين، أدرك حينها أنَّ الفلسطينيين هم من طُردوا من البلد التي اعتقدت أنها بلدي، وأدركت وقتها أننا لم نكن نقصد السلام، بل ما كانت تعنيه إسرائيل بالسلام هو تحقيق أمن اليهود

جلعاد آتزمون

هل يمكنك أن تطلعنا على بعض ما شاهدته؟

آتزمون: لا أحب الحديث عن الأمر. لكنني حين رأيت الجيش الإسرائيلي في لبنان، فهمت أننا لم نكن على درجة الورع الذي كنَّا ندعيه، وكانت هذه هي بداية تحولي في مطلع الثمانينيات. كانت هذه هي البداية الحقيقية لرحلتي.    

 ما هي النقطة الفاصلة التي دفعتك للرحيل؟

آتزمون: ببساطة، اتفاقية أوسلو عام 1993. فحتى تلك اللحظة، كان هناك اعتقاد مشترك أننا نحن الإسرائيليون نرغب في السلام. لكن حين نظرت إلى اتفاقية السلام التي فُرِضَت على الفلسطينيين، أدركت حينها أنَّ الفلسطينيين هم من طُردوا من البلد التي اعتقدت أنها بلدي، وأدركت وقتها أننا لم نكن نقصد السلام، بل ما كانت تعنيه إسرائيل بالسلام هو تحقيق أمن اليهود.     

ولهذا السبب لست متفائلاً. لن تسمعني أتحدث عن تسوية. فبالنظر إلى الحقائق على أرض الواقع، ستُجبَر إسرائيل على الوصول لحل بفعل الواقع على الأرض.      

أنا إسرائيلي مئة بالمئة، ولكنني اضطررت لترك إسرائيل لأنها لم تعد كما كانت. توقفت عن كونها إسرائيلية وأصبحت يهودية، والهوية اليهودية تحتفي بكونها ضحية

جلعاد آتزمون

ما التغيير الذي أحدثته فيك الموسيقى؟ فهي جزء من رحلتك بعيداً عن إسرائيل، أليس كذلك؟

آتزمون: كانت المرة الأولى التي أدرك فيها أنه يمكنني الانضمام لحوار عالمي -يهدف للجمال- بدلاً من أنَّ أكون جزءاً من روح قبلية قومية متعصبة. وإذا كانت الجاز هي موسيقى المضطهدين، فيسعدني أنني انضممت لهم وتعلمت لغتهم وصنعت لنفسي منها مستقبلاً مهنياً ناجحاً جداً.        

**جلعاد آتزمون يعزف مقطوعة "غزة يا حبي

كيف ساعد كونك فنان جاز عملك في مجال الفلسفة؟

آتزمون: في العقد الثالث من عمري، حاولت دمج الموسيقى العربية في موسيقى الجاز الخاصة بي. كنت بحلول ذلك الوقت قادراً على عزف أي نوع من الموسيقى تقريباً، لكنني أدركت كم يصعب علي عزف الموسيقى العربية وهو ما يُدهِش نظراً لأنني نشأت وأنا استمع للمغنية المصرية أم كلثوم في كل مكان حولي.           

وجدت الموسيقى العربية صعبة جداً، لكنني أدركت بعدها أنَّ الأولوية في الموسيقى العربية هي للأذن، بعكس تعلّم الموسيقى الغربية الذي يقوم على عرض النوتات الموسيقية أمامك ثم عليك أنَّ تتعلم كيف تترجم ما استبقت ورأته عيناك. الغرب مهووس بإعمال العين أولاً، لكن البشرية بأكملها تعطي الأولوية للأذن. وتبدأ الأخلاق حيث تكون الأسبقية لحاسة السمع؛ ولهذا علينا أنَّ نستمع لبعضنا. بذلت جهداً كبيراً لأستمع للفلسطينيين ولأفهم معاناتهم. إذا كنت صحفياً يهودياً، فستقول: "وماذا عن الاستماع لليهود؟" أنا أقول الإنصات لليهود ليس ضرورياً لأنه يمكنك الاطلاع على المعلومات كافة في كل مكان، بدءاً من وسائل الإعلام وحتى متاحف الهولوكوست. لكن الهولوكوست الذي يعنينا الآن هو الذي يحدث في غزة وسوريا والعراق وليبيا.         

حدثنا عن بعض المفكرين والفلاسفة والنشطاء الذين أثروا فيك.                  

آتزمون: أشعر بالاشمئزاز من الطبيعة التي تكون عليها غالبية الأنشطة الحقوقية، فأنا أعتقد أنَّ النشطاء ليس لديهم سوى القليل مما يمكنهم تقديمه لتوعيتنا. ولهذا السبب هم لا يحققون أي إنجاز. هم في الواقع جزء من المعارضة المُسَيّرة. وانتهى بي المطاف لتعلم الفلسفة الألمانية، بدأت بدراسة إيمانويل كانت وما تعلمته منه هو القدرة على تنقيح التساؤلات. ثم انتقلت لدراسة هيغل ونيتشه، والأهم من ذلك مارتن هايدغر المُعلِّم الأعظم في تنقيح المفاهيم، وهذا هو ما أفعله. فبتعديل المسائل الفلسفية، يمكنني أن أرى أنَّ الإجابات أصبحت مرنة؛ إذ تتغير بتغير الاسئلة.   

حين نظرت إلى اتفاقية السلام التي فُرِضَت على الفلسطينيين، أدرك حينها أنَّ الفلسطينيين هم من طُردوا من البلد التي اعتقدت أنها بلدي، وأدركت وقتها أننا لم نكن نقصد السلام، بل ما كانت تعنيه إسرائيل بالسلام هو تحقيق أمن اليهود

جلعاد آتزمون

إذاً، ماذا قيل لك عن تعريف "الوجود" أثناء نشأتك في إسرائيل؟

آتزمون: أعتقدت أن تكون إسرائيلياً، في تلك المرحلة المبكرة من نشأتي، يعني أن تتحلى بالقوة والتصميم وأن تقاتل في سبيل ما تؤمن به وتكون مستعداً للتضحية في سبيل تحقيقه. صدق أو لا تصدق، من هذا المنظور، أنا إسرائيلي مئة بالمئة، ولكنني اضطررت لترك إسرائيل لأنها لم تعد كما كانت. توقفت عن كونها إسرائيلية وأصبحت يهودية، والهوية اليهودية تحتفي بكونها ضحية، وهو ما لن أفعله أبداً. أفضل أن أموت على أن أكون ضحية.                  

كيف تصف نفسك الآن؟

آتزمون: أطمح لأنَّ يسود العالم الوعي بفلسفة الإنسانية، فتطبيق هذه الفلسفة يمثل تحدياً للجميع، فالإنسانية مهمة وليست حالة وجودية. وهي تُستَهلم من القدرة على أن ترى نفسك مخلوقاً عادياً، وأنَّ تنزع عن نفسك أي شعور بالتميز.          

والإنسانية العالمية لا تتمثل في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا في مجموعة من الوصايا، ولكنها شيءٌ عضوي يستمر في التغير وأصبح يزداد شمولية؛ ولهذا السبب لا يسعك سوى أن تطمح بأن تصبح إنساناً عالمياً وأن تعمل ليل نهار في سبيل ذلك، وألا تكتفي بإعلان نفسك واحداً.         

آتزمون: من الناحية النظرية، هذا صحيح، لكن في الواقع هذا بالتأكيد ليس صحيحاً. إذ أنَّ المنتمين للماركسية الثقافية اليسارية الجديدة -أي مدرسة فرانكفورت- جميعهم يخرجون للعلن ويقررون من قد ينضم إليهم ومن لا يمكنه الانضمام. استحدثوا سياسة لمنع معارضيهم من التعبير عن آرائهم. كيف يمكن للأشخاص الذين يتمسكون بهذه السياسة أن يكونوا من أتباع الفلسفة الكونية؟             

جلعاد آتزمون  (Others)
TRT عربي
الأكثر تداولاً