المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي. (Others)
تابعنا

في مثل هذا اليوم وتحديداً عام 1921، عاش مغاربة بسطاء، مسلحون ببنادق خفيفة وخناجر ومناجل وإيمان صلب يختلج صدورهم، زهو انتصار شعبي كاسح على جيش الاستعمار الإسباني، الذي كان يفوقهم بأضعاف العدة والعتاد، فيما بات يُعرف بعدها بمجد معركة أنوال التي كسرت شوكة الإسبان وأسقطت عرشهم.

الملحمة بدأت قبل هذا التاريخ بأعوام، حين آمن قاض كهل يدعى محمد بن عبد الكريم الخطابي بالمقاومة كسبيل وحيد لحرية بلاده من نير الاحتلال الذي كان يستبيح أراضيها وقتها؛ الإسبان في الشمال وفي الصحراء، والفرنسيون فيما بين ذاك من أراض مغربية. فقرر أن يقود حرباً لصد هذا العدوان، وهي حرب الريف التي دارت رحاها في عام 1920.

حرب الريف

بدأت فكرة حرب الريف مع ميلاد قائدها، في وقت تزايدت فيه الأطماع الاستعمارية الأوروبية في المغرب نهاية القرن 19، وشروع كل من فرنسا من الشرق وإسبانيا من الشمال بقضم أراضي البلاد، ودخول ألمانيا وإنجلترا على خط السباق على قطعة من كعكة البلاد الممزقة أساساً بفعل التطاحنات الداخلية. في ظل هذه الظروف وُلد محمد بن عبد الكريم الخطابي، في بلدة أجدير (شمال المغرب) عام 1882، وترعرع على قناعة مقاومة المحتل التي ورثها من والد عبد الكريم.

ويذكر المؤرخ المغربي محمد العربي المساري في كتابه "محمد بن عبد الكريم الخطابي، من القبيلة إلى الوطن"، قائلاً: "الحقيقة أن الفقيه عبد الكريم (الخطابي) كان الأستاذ الفعلي لابنه محمد، وذلك في الفقه والدين عموماً، والوطنية والسياسة".

ويضيف المؤرخ أنه في لحظة احتضار عبد الكريم، إثر تسميمه من قبل الإسبان، أوصى ابنيه قائلاً: "إني ذاهب بعد أيام معدودة إلى ربي وخالقي. وصيتي لكم أن تدافعوا عن بلادكم، لأن الإسبان أعداؤنا وأعداء الله قد بيّتوا العزم على تلويث وطننا بأحذية جنودهم. ولذلك، فواجبكم المقدس الذود بكل ما استطعتم من قوة عن حوزة هذه البلاد".

عامل آخر دفع محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى الثورة ضد الاستعمار، هو اكتواؤه بنار سجونه عندما كان يعمل قاضياً بثغر مليلة المحتل. إذ كان المقاوم المغربي يعبر علانية عن آرائه المناصرة لألمانيا والإمبراطورية العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من أن الإسبان ظلوا على حياد خلال تلك الحرب، إلا أن تقاربهم مع الفرنسيين ومصالحهم المشتركة في المغرب دفعهم إلى اتهام الخطابي بالتآمر مع جاسوس ألماني لتسليح قبائل الريف.

عام 1920، سعى الجيش الإسباني إلى بسط نفوذه العسكري على منطقة الريف، عبر إنزال عسكري في الشواطئ المتاخمة لمدينة الحسيمة، بقيادة مانويل سلفستري أحد أقوى جنرالاته وأكثرهم خبرة. هذا الحدث كان الشرارة الأولى التي أطلقت حرب الريف، إذ إنه ومع وصول أخبار الاستعدادات الإسبانية، كان محمد بن عبد الكريم الخطابي يحشد القبائل لحمل السلاح في وجه المحتل، ولقي الجنود الإسبان مقاومة شرسة جداً منعتهم من اجتياح المدينة الساحلية، بل ودفعتهم بعيداً نحو الغرب وإلى المحيط الأطلسي، حيث نزلوا بمدينة العرائش تعويضاً عن هزيمتهم الأولى.

ومن العرائش استمر الإسبان في التوغل شرقاً، ساعين إلى إغلاق الكماشة على قبائل الريف الثائرة، ومحاصرتهم بشكل تام بعد أن بسط الفرنسيون نفوذهم على وسط البلاد بعقد حماية. بالمقابل، وأمام ضعف تسليح مقاتليه وقلة عددهم، إذ لم يتعدوا، حسب المصادر التاريخية، الـ1500 مقاتل، عمد قائد المقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى ابتداع شكل القتال، هو ما نعرفه اليوم بحرب العصابات، مستفيداً من أنه يحارب على أرضه ذات التضاريس الوعرة والتي يعرفها حق المعرفة. حيث كان المقاومون يحسنون التمويه بأنفسهم بين الجبال، وشن غارات على نقاط عسكرة جيوش المستعمر، ثم التخفي مجدداً متمترسين بتلك الحواجز الطبيعية.

ووفق ما يقول المؤرخ المغربي محمد العربي المساري، كانت الفترة الأولى من الحرب هجومية بامتياز، حيث حاصرت فيها مجموعات المجاهدين قليلة العدد معسكرات العدو واستنزفت طاقاته قبل مهاجمته، بل كان تسليحهم معتمداً على ما يغتنمونه من العدو بعد قتله، أو بعد سرقته منه بالتسلل ليلاً إلى مخازنه، عرايا مطليين بالزيت، كي لا يحدثوا صوتاً ينبِّه الحراس إلى وجودهم. وبهذه الخطة أرهقت المقاومة القوات الإسبانية، وعرقلت تقدمها نحو الريف من محور شفشاون الذي استولت عليه في ذات السنة (1920).

ملحمة أنوال

تُعَد معركة أنوال، في 17 يوليو/تموز 1921، قمة صعود نجم المقاومة في الريف. وهو ما يؤكده الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة بالمغرب، في مقاله "حرب الريف والعالم"، بوصفها أنها لا تقل أهميةً ولا وزناً بالمقارنة بمعارك مشهورة عالمياً، كمعركة وادي المخازن والزلاقة والقادسية وووترلو وفردان.

أيام قليلة قبل ذاك، وبالرغم من تهديدات المقاومين له بعدم الإقدام على تلك الخطوة، عمد الجنرال الإسباني سلفستري إلى التوغل بقواته في عمق منطقة الريف، نحو جبل أبران، فوجد المقاتلين له بالمرصاد، إذ اقتحموا طليعة جيشه وقضوا على معظمها. ستثير هذه الضربة حنق الجنرال، الذي سيصر على التوغل أكثر نحو الشرق ملاحقاً مقاتلي الخطابي في أنوال، بجيش يفوق تعداده 28 ألف جندي. هذا بالرغم من تحذيرات السلطات في مدريد له بعدم الاستمرار في التقدم.

ومع دخول سلفستري لأنوال، وقع في فخ المقاومة التي عمدت إلى محاصرة حاميته وقطع خطوط الإمداد القادمة من مليلة، مع القيام بهجمات خاطفة تضعف خطوط العدو وتقلق راحته. وفي 24 يوليو/ تموز، وبعد أن كثر المصابون في صفوف جيشه وشحت المؤونة، أقدم الجنرال الإسباني على خطوة متهورة أخرى، حينما قرر شن هجوم كاسح على المقاومة.

يومها، بدأ الإسبان في قصف محيط معسكر الثوار بالطائرات والمدافع، في هجوم كان قد علم به محمد بن عبد الكريم الخطابي قبل وقوعه، ما منحه أفضلية الجاهزية. ومساء اليوم نفسه هاجم عدد من المرتزقة خنادق المجاهدين، غير أن سقوط قائدهم جعل بقية المرتزقة ينسحبون من المعركة عائدين صوب الحامية الإسبانية .

وبعد هذا الهجوم الفاشل، تيقن الخطابي أن سلفستري سينسحب إلى ما وراء أنوال، لذلك أصدر أوامره بقطع خط الانسحاب والسيطرة على جميع المسالك المؤدية إلى المراكز التي يسيطر عليها الإسبان، عبر تمركز القوات الثورية وكمونها على المرتفعات وقمم التلال والأحراش. فيما رفض سيلفستري التفاوض مع المقاومة المغربية، وقرر الانسحاب عشوائياً، كي تتلقَّف قواتِه بعدها كمائنُ الثوار وبنادقهم التقليدية.

وتجمع مصادر تاريخية أنه سقط في تلك المعركة أكثر من 18 ألف جندي إسباني، بمن فيهم سيلفستري، الذي كان يراقب انسحاب الجيش من أنوال على قمة مرتفعة وهناك لمحه أحد الأهالي المسلحين، فتسلل نحوه وأطلق عليه النار فأرداه قتيلاً. ولم ينجُ من أنوال سوى فرقة بقيادة جنرال يدعى نافارو، كانت قد تُركت لتغطية الانسحاب، نجحت في الفرار من كماشة المقاومين نحو الشرق، إلى منطقة جبل العروي، حيث جرت ملاحقتها والقضاء عليها بعد أسر قائدها.

ويذكر عبد الكريم الخطابي في مذكراته متحدثاً عن انتصار أنوال: "ردت علينا هزيمة أنوال 200 مدفع من عيار 75 أو 65 أو 77 ، وأكثر من 20 ألف بندقية، ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتمويناً كثيراً يتجاوز الحاجة، وأدوية، وأجهزة للتخييم، وبالجملة، بين عشية وضحاها. وبكل ما كان يعوزنا لنجهز جيشاً ونشنَّ حرباً كبيرة. وأسرنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15 ألف جندي ما بين قتيل وجريح".

ووصف الكاتب المغربي حسن أوريد، ملحمة أنوال، بأنها كانت " كان أولَ انتصار للمستضعَفين بعد أن أطبقت القوى الاستعمارية قبضتها على العالم. استطاعت فئة من المجاهدين ببنادق قديمة أن تنتصر على قوة استعمارية بجيش نظامي، مع لفيف من المرتزقة".

وبالرغم من انتصاره الكاسح على المستعمر الذي احتل بلاده وسعى إلى استعباد شعبها، ظل محمد بن عبد الكريم الخطابي متشبثاً بالقيم الإسلامية في معاملة الأسرى من الجيوش المحتلة بالرحمة والإنسانية الواجبتين. هكذا روت مصادر تاريخية عن كيف ترك سريره للجنرال الإسباني نافارو كي يستريح، بعد أن أسره المقاومون في معركة جبل العروي. وكذا تصريحات أسيرة أخرى للصحافة الإسبانية بعد أن سألها أحدهم: "هل تشعرين بالخوف هنا؟"، لترد: "مِمّ أخاف؟ إننا نلقى معاملة طيبة وليس هناك ما نشكو منه".

أسقطت عرش إسبانيا!

أدت هزيمة أنوال إلى تحرير منطقة الريف بأكملها، بعد سقوط مراكز الجيش الإسباني واحداً تلو الآخر، وصولاً إلى مليلة، التي كان من الممكن تحريرها من طرف عبد الكريم الخطابي، لولا أنه فضَّل التراجع لإعادة بناء جيشه وتنظيم مناطق نفوذه سياسياً بتأسيس ما سمي وقتها "جمهورية الريف" التي أعلن استقلالها.

في مدريد، التي تداعت تماماً مؤسساتها أمام وقع الكارثة الهائلة، أدت الهزيمة إلى صعود نجم جنرال أرستوقراطي يدعى بريمو ريفيرا، فقد أخاه هو الآخر في أنوال، وكانت حصيلتها المخزية علة لإعلانه عصياناً عسكرياً أسقط الحكومة الإسبانية وقتها، وأسس لديكتاتورية عسكريَّة حكمت البلاد بقبضة من حديد. تلك القبضة الحديدية التي لم تدم طويلاً، وكانت سبباً في تهاوي الحكم الملكي أمام ضغط الجمهوريين الإسبان، وتأسيس الجمهورية الإسبانية الثانية.

لكن هذا الحكم العسكري لم يتهاوَ إلا بعد أن دخل فيما أسماه "حرب استرجاع" مستعمراته بالريف المغربي.

وتحالف مع القوات الاستعمارية الفرنسية، خاضت الجيوش الإسبانية حربَ إبادة جماعية ضد المدنيين الريف، من أجل إرغام عبد الكريم الخطابي على الاستسلام مقابل إيقاف فظاعاتها. مستعملين في ذلك شتى الأسلحة المتطورة، من طائرات ومدفعية. وكذلك أسلحة كيماوية، على رأسها غاز الخردل. مخلفة آثاراً ما زالت مستمرة إلى الآن، حيث تسجل منطقة الريف أعلى نسبة في الإصابة بالسرطان، يجمع ناشطون على ربطها بالأسلحة الكيماوية التي قصفت بها المنطقة.

TRT عربي
الأكثر تداولاً