تابعنا
تأثرت وتيرة الإنتاج الفني عن القضية الفلسطينية في مصر باختلاف فترات الحكم، وكان للموقف الرسميّ أثر في شكل الغناء، فيما خاض مغنّون تجارب فنيّة في فترات أخرى بارتباط مع حوادث وقعت في الأراضي المحتلة.

وسط الركام والبنايات المهدمة في شوارع امتلأت بالشهداء يقف بجسده النحيل ملتحفاً وشاحاً فلسطينياً، ويناجي العالم بصوته الحزين على رحيل عائلات بأكملها.

قرّر صالح الجعفراوي استخدام اللغة الأكثر تعبيراً عما تعانيه العائلات من قلب الأحداث فطرح أغنية "وينك يا إنسانية؟".

وكتب تقديماً لها على يوتيوب: "خرج هذا العمل من رحم المعاناة بأبسط الإمكانيات، لنُري العالم بشاعة المشهد ونوصل رسالتنا إلى كلّ العالم باللغة التي يفهمها الجميع، لغة الصوت والصورة والموسيقى".

ليس الجعفراوي المغنّي الوحيد الذي قرّر الغناء لغزة وفلسطين في عز الحرب الإسرائيلية على القطاع، بل قام مغنون عرب بذلك على مرّ العقود.

في مصر.. "المقاومة منذ النكبة"

تأثرت وتيرة الإنتاج الفني عن القضية الفلسطينية في مصر باختلاف فترات الحكم، وكان للموقف الرسميّ أثر في شكل الغناء، فيما خاض مغنّون تجارب فنيّة في فترات أخرى بارتباط مع حوادث وقعت في الأراضي المحتلة.

يقول الدكتور محمد حسني، أستاذ الغناء في جامعة الإسكندرية، إن "الأعمال الفنية المرتبطة بالقضية الفلسطينية يصعب حصرها في لون واحد، لكن يمكن تقسيمها إلى أغانٍ نظامية صادرة عن الإذاعة الحكومية وأخرى غير نظامية".

ويضيف لـTRT عربي أن جلسات التيّار اليساري في مصر وُلدت منه أعمال الثنائي المصري الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، التي تُمثّل الخط الموازي للتيار النظامي، فكانت القضية الفلسطينية جزءاً راسخاً من مشروعهما الفني.

ويبيّن أن "ذِكر فلسطين لديهما لم يقتصر على الأعمال الخاصة بالقضيّة، بل امتد ليكون جزءاً من غالبية أعمالهما وإنْ كانت تتناول قضايا أخرى، فقدّما 'فلسطين' و'يا فلسطينية'، و'في ذكرى الميلاد العشرين'، و'الخط ده خطي'، وغيرها".

يرجع حسني بداية الإنتاج المُعبِّر عن القضية في مصر إلى عام النكبة (1948) وتحديداً بعد مذبحة دير ياسين، فكانت قصيدة "فلسطين" التي غنّاها محمد عبد الوهاب مردّداً الكلمات الشهيرة "أخي جاوز الظالمون المدى، فحقَّ الجهاد وحقَّ الفدا".

ثم أتى في العام ذاته فيلم "فتاة من فلسطين"، الذي ضمَّ 4 أغانٍ بصوت سعاد محمد، وأشارت إلى نزوح البطلة مُجبرة بعد مقتل والدها على أيدي العصابات الصهيونية.

لم تكن القضية قبل ثورة 1952 تمثل همّاً عامّاً ينعكس على الغناء بالشكل الذي ظهر بعدها، يقول حسني إنه "لم يكن مألوفاً قبل ثورة يوليو/تموز أن تُقدَّم أغانٍ وطنيَّة في حفلات، فكانت تخرج من المسرح، وتجربة سيّد درويش أكبر مثال على ذلك. لكن الأمر اختلف بعد الثورة، فالتوجُّه السياسي لحكم الرئيس عبد الناصر كان توجّهاً ثورياً يسعى لدعم الحريّة وإحياء فكرة القومية العربية".

ويوضّح الباحث الموسيقي أن المناخ العام أنتج أعمالاً فنيّة، مثل أغنية محمد فوزي "أخي مهما ادلهمّ الليل سوف نطالع الفجر"، وهي أول قصيدة كتبها الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد بعد دقّ أول خيمة للّاجئين في غزة، وقدمت له فايدة كامل قصيدة "قصة" من ديوان "مع الغرباء".

توالت الإنتاجات، وفق حسني، فقدَّم الفنان الشعبي محمد قنديل "أنشودة غزة" عام 1956، وغنّى كارم محمود "تذكر فلسطين" وهي من كلمات الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، وجميعها تؤكد حق العودة.

كما انطلق محمد عبد الوهاب مُبدِعاً أعمالاً فنية تناولت القضية الفلسطينية بوصفها قضية مصرية وعربية، ومن ذلك إنجازه لأوبريت "الوطن الأكبر" سنة 1960، وفي 1961 لحَّن نشيد فلسطين "هزت فلسطين حرّ النداء هيّا ولبيك قدس العرب".

وفي عام 1963 قدم أوبريت "صوت الجماهير" الذي حثّ على العمل الثوري لتحرير الأرض.

واستمرت تيمة الأغنية الوطنية الداعمة لفلسطين والمقاومة فغنت أم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية".

يقول حسني إنها "أغنيةُ مقاومَة بالدرجة الأولى، وليست مجرد اعتراف بالقضية أو تعاطف معها، بل تحث على النضال لتحرير الأرض، وهو الأسلوب الحماسيّ ذاته الذي يظهر في أغنية 'ازرع كل الأرض مقاومة' لسيد مكاوي".

اختلف المشهد قليلاً في السبعينيات باختلاف الخطاب الرسمي، خصوصاً بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 واتفاقية السلام مع إسرائيل، ويبيّن محمد حسني أن "الخطاب السياسي حينها نقل شعوراً بشكل لا إرادي للقائمين على الأغنية في مصر، وكأنَّ لسان حالهم يقول: نكتفي بما وصلنا إليه".

بعدها بسنوات عاد الإنتاج الفني في الثمانينيّات فقدم محمد منير أغنية "القدس"، ومع انتفاضة أطفال الحجارة في 1987 أصدر أغنية "العمارة".

خلال الانتفاضة الثانية، وبعد استشهاد الطفل محمد الدرة عام 2000، امتزجت الأغاني بين تمجيد تضحيات الشهداء مثل "أختي وفاء" التي غنتها آمال ماهر، وتأكيد الانتصار وحق العودة وعروبة القدس مع أغاني عمرو دياب "القدس" وهاني شاكر "على باب القدس"، وشارك مجموعة من الفنانين بعد الانتفاضة في أوبريت "القدس حترجع لنا".

وقبل الانتفاضة الثانية بعامين، قدّم مدحت العدل أوبريت "الحلم العربي"، وهي الأغنية التي أكدت ضرورة التسلح بالقوة لحماية العدل والتوقف عن ترديد الشعارات.

بعد هذه الموجة من الأغاني تراجع الإنتاج الغنائي الخاص بالقضية الفلسطينية لسنوات، لكن عملية طوفان الأقصى وما تلاها أحدثت زخماً ليطلق علي الحجار أغنيته "من فوقنا من سابع سما".

لبنان… "الرحبانية والقدس"

ميّزت التجربة الرحبانية ممثلة في صوت فيروز الأغنية اللبنانية وعلاقتها بالقضية الفلسطينية.

ويقول الباحث الموسيقي رواد زكّور إن "كتابة القصة بعد معايشتها كما حدث في أغنية 'القدس العتيقة' ليس كتخيّلها".

ويرجع الباحث زكّور ذلك إلى التصاق الرحبانية بإذاعة الشرق الأدنى المرتبطة بفلسطين، فكان لديهم ذاكرة ومخزون عما يعبّرون عنه.

ويوضّح أن "ثاني ألبومات فيروز عام 1957 وعنوانه 'راجعون' حوَّل القضية الفلسطينية، ومنذ ذلك الوقت ركزّ الأخوان الرحباني على القضية الفلسطينية".

قدمت فيروز القضية بطريقة عاطفية، وعزّز النص الرحباني قصة الأرض المقدسة والعودة والجانب الروحي والجغرافي بتفاصيل الأماكن والجوانب الاجتماعية حول حياة الناس في فلسطين والعلاقات الاجتماعية.

كما قدّمت فيروز أغنية "زهرة المدائن" ضمن ألبوم "القدس في البال" بعد نكسة عام 1967.

انتشرت تجارب لبنانية أخرى في العالم العربي بفضل التحامها بالقضية، مثل أغاني مارسيل خليفة وجوليا بطرس المُكملة لما أسّسه الرحبانية في الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وارتبطت أعمال مارسيل بأشعار محمود درويش، خصوصاً في السبعينيّات.

حدث ذلك بعدما بدأت حركات المقاومة في لبنان وفلسطين فكان هناك مد ثوري، وفق زكّور، مثّلت أشعارُه شعارَ المرحلة، وشاركت أميمة الخليل بدورها في تجربة خليفة، فقدّمت أغنيات كان أهمها "أحمد الزعتر".

وعن جوليا بطرس يقول زكّور إنها غنت لجنوب لبنان وفلسطين وقدّمت كثيراً من الأعمال، بينها "وين الملايين؟"، وهي أغنية أنتجت في ليبيا وشارَكَتها فيها أمل عرفة من سوريا، وسوسن الحمّامي من تونس، وقدّمت أيضاً "حجارة المنسيين"، و"الحق سلاحي"، ودائماً ما تحمل أغنياتها طابع المقاومة والانتصار والثورة والنضال المسلح.

في سوريا.. "فلسطين الفن"

يوضح رواد زكّور أن بين الجانبين السوري واللبناني اختلافاً في الإنتاج الفني الخاص بالقضية الفلسطينية، ويقول إن "لبنان تفوَّقت من ناحية صناعة الموسيقى والغناء، فيما تفوّقت سوريا في الجانب الدرامي، فبرزت القضية في الدراما السورية بشكل كبير، إلا أن ذلك لا ينفي وجود القضية واستحواذها على الفنانين الموسيقيين في سوريا منذ نكبة 1948".

ويستشهد على ذلك بالفنان الراحل صباح فخري، الذي غنى لفلسطين في تسجيلات عبر إذاعة دمشق، وعاد فسجّل "حكاية شهيد" من كلمات عبدالرحيم محمود.

كما لم يبخل نزار قبّاني بشعره الغنائي على أيّ من الأصوات العربية، وهو ما يعتبره زكّور "مشاركة سورية وإنْ كانت بالكلمات".

ويوضّح الباحث الموسيقي أن "فترة السبعينيات شهدت تأسيس فرق موسيقية تخصصت في الغناء عن فلسطين، كان وراءها فلسطينيون مقيمون في سوريا بدعم سوري وعناصر سورية".

ومن هذه الفِرق "مجموعة العاشقين التي أسسها الراحل حسين نازك، ومجموعة أغاني العاشقين، واعتمد أغلبها على تقديم التراث والفولكلور الفلسطيني في قوالب جديدة".

وغنت السوريَّة ميادة بسيليس أغنية "أجراس بيت لحم"، فوصفت دخول الفلسطينيين لاسترداد أراضيهم مستقبلاً، قائلة: "غداً سنأتي نركب الرياح زوابعاً تقتلع الدخيل"، ومن الألبوم ذاته كانت أغنية "عاش الولد" عن قصة استشهاد الطفل محمد الدرة.

يصف زكّور مشروع بسيليس بأنّه الأنضَج فنياً، إذ قدمت أغنيات تشمل كل الأنماط المتعلقة بالقضية الفلسطينية، فتغنّت بقيم الشهادة وحق العودة والمناطق الفلسطينية والأماكن المقدسة، فضلاً عن إحيائها الفولكلور الفلسطيني.

ويلفت إلى أنّ أغنيتها "أجراس بيت لحم" كانت في أعياد الميلاد ودعت للعودة إلى فلسطين، قائلة: "ما أقرب الدرب إلى يسوع"، وهي سمة أساسية في الأعمال السورية الخاصة بالقضية الفلسطينية، فتتحدث عن الوحدة العربية والنضال ومعاني الثورة.

لم يكن الإنتاج الغنائي عن القضية الفلسطينية في سوريا مرتبطاً بالأحداث فقط، فكانت الإنتاجات دائمة ومستمرة، يقول إن الأمر في سوريا مختلف، فيمكن أن نصفه بالمؤدْلج، وذلك نتاج للمناخ السياسي الذي يعيشه السوريون، فالقضية الفلسطينية هي الخبز اليومي لحزب البعث الحاكم في سوريا، وللشعب أيضاً، فالغناء لفلسطين شيء بديهي وكأننا نغني لسوريا، موضحاً أن الإنتاج الغنائي يشمل أوبريتات للأطفال، حتى إن النشيد المُقرر في مراحل التعليم الأولى كان "فلسطين داري"، فيترعرع الطفل على موسيقى تتحدث عن النضال العربي والقضية الفلسطينية لتصبح جزءاً من تكوينه.

ويرى زكّور أن ذلك "نتيجة المناخ السياسي الذي عاشه السوريون وجعل فلسطين الخبز اليومي لحزب البعث الحاكم، فعُدَّ الغناء لفلسطين كالغناء لسوريا، وشمل ذلك أغاني الأطفال، إذ إن النشيد المقرر في مراحل التعليم الأولى كان 'فلسطين داري' الذي أراد أن يترعرع الطفل وفلسطين جزء من تكوينه".

حجزت شارات الأعمال الدرامية مكانها في دعم القضية، وتحول بعضها إلى أيقونة كأغنية "أيها المارُّون" لمسلسل صلاح الدين بصوت أصالة نصري، وهناك أيضاً "التغريبة" من أداء عامر خياط.

ويبيّن زكّور أن الفن يتحدث عن استعادة الأراضي الفلسطينية كاملة من دون الإشارة إلى حل الدولتين، وبعضها تناول القضية بشكل ديني بآيات قرآنية أو معانٍ إنجيلية، فكانت التلوينات الروحية ضمن مضامين الغناء عن فلسطين في سوريا.

ويشير إلى أن "الجزء المتعلّق بتجديد التراث الفلسطيني كان يركّز على الربط بين سوريا وفلسطين عبر سردية فلسطين والشام لأنها كانت أرضاً مفتوحة تجمعها علاقات اجتماعية وتبادل تجاري".

ويتواصل الإنتاج الغنائي عن القضية في سوريا حتى يومنا هذا، وحديثاً طُرح ألبوم كارول سماحة "الألبوم الذهبي"، الذي يغنّي أشعار محمود درويش، كما قدمت لينا شماميان أعمالاً تتناول القضية الفلسطينية من دون ارتباط بأحداث بعينها.

ويقول زكّور إن شماميان تنوِّه دائماً بأن أي أغنية تحمل بُعداً إنسانياً أو وطنياً موجهة إلى أي شعب يعاني، فهي بالضرورة موجهة إلى الشعب الفلسطيني، لافتاً إلى أن هذا النوع من الغناء بارز ومميَّز عن غيره، ويهتم بالمعنى العام والشامل من منطلق الوجع العام.

تونس... "مساندة في الواقع وبالفن"

رغم البُعد الجغرافي بين فلسطين وتونس، فإن احتضان البلد المغاربي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتعرُضّ مدينة حمام الشط للقصف من قِبل الاحتلال عام 1985، خلقا رابطاً ورغبة في الثأر من العدو المشترك.

ويقول الناقد عمر بن إبراهيم إنه "رغم اقتران ذكر القضية في أذهاننا بلطفي بشناق وذكرى ولطيفة، فإن الغناء لفلسطين كان الهمَّ الأكبر للفنانين الملتزمين منذ سبعينيات القرن الماضي".

ويضيف ابن إبراهيم لـTRT عربي أن الغناء لم يرتبط بأحداث، بل أراد صُناعه أن يكون سلاحاً يُذكِّر بالقضية الفلسطينية في كل الأوقات.

وشاركت الفنانة لطيفة المطرب العراقي كاظم الساهر في أغنية "القدس" عام 1997، التي تغنّت فيها بما وصلت إليه الأحوال في المدينة.

وقدّمت لطيفة أغانيَ أخرى مثل "لو قسموا القدس اثنين"، و"يا قدس يا حبيبتي" في 2012 التي تقول فيها متحدثة عن فكرة العودة: "يا قدس يا مدينتي، غداً (...) ترجع الحمائم المهاجرة إلى السقوف الطاهرة، ويرجع الأطفال يلعبون ويلتقي الآباء والبنون في بلد السلام والزيتون".

كما حملت أعمال المطرب لطفي بوشناق رسالة واضحة بأن تحرير القدس لا يكون إلّا عبر المقاومة، فقدَّم "من تونس للقدس"، يقول فيها: "من تونس الخضراء للقدس رايحين للمسجد الأقصى شهداء بالملايين"، وكذلك "أجراس العودة" و"سهول فلسطين".

وعلى الدرب ذاته سارت الفنانة ذكرى التي أكّدت أنَّ السلام لن يكون دون حق العودة، وهو ما جاء في أغنية "لن نركع"، كما غنّت أيضاً "الشهيد الفلسطيني"، و"ما تحزني يا قدس"، وغيرها.

وبالعودة إلى الفنانين الملتزمين، يبيّن ابن إبراهيم أن "القضية الفلسطينية في أغنياتهم قضية انتماء"، مشدّداً على أن "أغانيهم تحث على تحرير الأرض كل الأرض والعودة".

ويستشهد الناقد بأغانٍ مثل "يوم استشهادي يا أمي" و"العودة" لمجموعة البحث الموسيقي في قابس، و"سجّل أنا عربي" للهادي قلة، و"يولدون" لمجموعة الحمائم البيض، و"من تونس لفلسطين" لمجموعة أنخاب.

ويلفت ابن إبراهيم إلى أن بعض الأغنيات التونسية لفلسطين كان مرتبطاً بحدث ما، مثل "أوكاموتو" -منفّذ عملية مطار اللّد (1972)- التي غنتها مجموعة الحمائم البيض، و"صبراً" لمجموعة البحث الموسيقي، و"محمد الدرة" للفنان ياسر الجرادي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً