عند نقطة ما، سوف تُنهي إسرائيل عملياتها العسكرية وعدوانها على قطاع غزة، إما بسبب التكلفة الباهظة للغاية في الأرواح والشواكل، وإما بسبب الضغوط الدولية التي خسّرتها بالفعل مكانتها الدولية بعد أن باتت توصف في أكثر من محفل عالمي بأنها "دولة إرهاب" جراء ما مارسته من أنشطة إبادة جماعية بشعة بحق المدنيين العزل في غزة.
فشل إسرائيل في تحقيق أيٍّ من أهدافها المعلنة، التي يأتي على رأسها تدمير حماس وتحرير الأسرى بقوة السلاح، سيقابله القبول ضمنياً بانتصار حماس، التي ستبقى مسيطرة على مجريات الأمور في غزة، مع تعزيز مكانتها في الضفة الغربية وأماكن أخرى بشكل كبير.
وبعد أن أصبحت مكانة إسرائيل الدولية، بما في ذلك في واشنطن، في حالة يرثى لها، سيمتلئ الداخل الإسرائيلي بالانقسامات السياسية والاجتماعية، وتصبح الخلافات أكثر وضوحاً مما كانت عليه قبل الحرب، الأمر الذي سيؤدي فعلياً إلى إصابة البلاد بالشلل، بحسب التقرير الذي نشرته فورين بوليسي تحت عنوان "نظرة مستقبلية على الحرب الإسرائيلية لتدمير حماس"، الذي تلقي فيه الضوء على المتاعب التي قد تواجه تل أبيب مستقبلاً جراء عدوانها المستمر منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على قطاع غزة.
سيناريوهات قاتمة
في مطلع مقاله الذي نشرته المجلة الأمريكية، سافر دانيال كانيمان عامين في المستقبل لإلقاء نظرة على شكل إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى وما تبعها من عدوان إسرائيلي غاشم خلف عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى في قطاع غزة، وذلك لرصد أسوأ السيناريوهات التي يمكن أن تنتج بعد توقف العدوان.
ويُعرف هذا النوع من التحليل باسم ما قبل الوفاة، وهي تقنية اقترحها لأول مرة عالم النفس غاري كلاين لتقليل خطر الفشل، وأوصى بها كانيمان الحائز على جائزة نوبل، كوسيلة لمواجهة الثقة المفرطة.
بينما خلص كانيمان، الذي سبق وزار إسرائيل مع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية لإجراء مقابلات مع مسؤولين أمنيين وشخصيات رفيعة أخرى، إلى نتيجة مفادها أن إسرائيل في غزة قد تتعرض لمخاطر كبيرة بسبب تقليلها من قدرة حماس نفسها، وتعزيزها عن غير قصد حركة المقاومة الفلسطينية، وإضعاف التماسك الداخلي، والفشل في الانتقال من الحرب إلى الحكم في غزة، فضلاً عن مخاطر تقويض علاقة إسرائيل مع الولايات المتحدة.
وعلى المستوى الإقليمي، أوضح دانيال كانيمان، أن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن حلفاء إيران بالمنطقة أصبحوا أكثر عدوانية من أي وقت مضى، مع الهجمات الصاروخية المنتظمة على شمال إسرائيل من حزب الله، ومع مواصلة الحوثيين في اليمن تهديد السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر.
أزمات بالجملة
على الرغم مما تملكه إسرائيل من قدرات عسكرية هائلة ودعم دولي كبير، لم يحقق جيش الاحتلال الإسرائيلي أيّاً من أهدافه المعلنة طوال العدوان الذي يقترب من دخول شهره الثالث، بل على العكس فشل حتى اللحظة في مهماته الأساسية، كتحرير الأسرى، أو وقف إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية، أو تقديم صورة نصر زائف، ناهيك عن هدفة الأساسي بتدمير المقاومة وإعادة احتلال غزة، وذلك وفقاً لما نقلته صحيفة هآرتس.
وعلى المستوى الداخلي، أجبرت عملية طوفان الأقصى العديد من الإسرائيليين على ترك منازلهم في الجنوب بالقرب من حدود غزة. وأدى إطلاق حزب الله للصواريخ وقذائف الهاون بشكل شبه مستمر على شمال إسرائيل إلى نزوح عشرات آلاف آخرين.
كما أن منح هؤلاء الأشخاص الثقة للعودة إلى ديارهم هو أمر غاية الصعوبة على المستويين العسكري والنفسي. ويجب أن تكون إسرائيل قادرة على هزيمة أو ردع كل من حماس وحزب الله. ولكن "الهزيمة" و"الردع" مفهومان بعيدا المنال، ويتعيّن على إسرائيل أن تقنع شعبها بأنه في أمان. وهذا أمر صعب نظراً لفشل 7 أكتوبر/تشرين الأول، عندما فشلت المخابرات الإسرائيلية في اكتشاف الهجوم والتحذير منه، وفشلت القوات الإسرائيلية في الدفاع عن المجتمعات القريبة من غزة، حسب تقرير بصحيفة "فورين بوليسي".
وقد تحتاج إسرائيل أيضاً إلى نشر أعداد كبيرة من القوات على كل جبهة وتزويد كل منطقة مأهولة بالسكان بقدرات أكبر للدفاع عن النفس.
مثل هذه التدابير مكلفة وصعبة بشكل خاص على إسرائيل، لأن قوتها العسكرية تعتمد على جنود الاحتياط، ما يجعل من الصعب الحفاظ على جيش كبير في حرب طويلة.
وما يزيد الطين بلةً هو وجود أزمة ثقة في النظام السياسي. قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت إسرائيل مجتمعاً منقسماً إلى حدٍّ كبير، مع انقسامات حادة بين المجتمعات الدينية والعلمانية.
وبينما تتصاعد الانتقادات الدولية للعدوان الإسرائيلي، ما زالت تل أبيب تعتمد على الولايات المتحدة للحصول على الذخائر، فضلاً عما تقدمه واشنطن من دعم مالي وسياسي، الذي تشتد الحاجة إليه مع خفتان الدعم الغربي. ومع ذلك، فإن العلاقة يمكن أن تنحرف بسهولة، ولا سيما أن بايدن يحاول جاهداً إدارة الحزب الديمقراطي المنقسم، الذي يعارض معظمه دعمه القوي لإسرائيل.
يمكن لهذه الفجوات السياسية والاستراتيجية أن تقسم الولايات المتحدة وإسرائيل، ما يترك الأخيرة أكثر عزلةً على المستوى الدولي، ومن دون الدعم العسكري الذي تحتاجه.