عبد الكريم الخطابي (Others)
تابعنا

بالنسبة إلى المغاربة هو "أسد الريف"، وبالنسبة إلى أهل الريف المغربي هو الأب "سيدي محند"، وتاريخياً هو محمد بن عبد الكريم الخطابي، بطل المقاومة المغربية ضد المحتل، وقاهر أعتى القوى الاستعمارية في معركة أنوال.

وبين كل هذه التسميات، يعد المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي علامة فارقة في تاريخ مقاومة المغاربة لمحتلهم خلال النصف الأول من القرن العشرين، وعلاوة على ما اتصف به من بطولات وما تناقلت عنه كتب التاريخ من مكارم أخلاق، استطاع أن يمثل رمزية الصمود والإباء التي ما زالت راسخة في أذهان أهل الريف والشعب المغربي بأكمله.

ميلاد المجاهد

ولد محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1882، في بلدة أجدير بين جبال الريف (شمال). في المغرب، كما يصف وزير الحربية الفرنسي وقتها بول بانوفبي، أنه "كان ما زال ممزقاً إلى وحدات فيودالية، يعيش فيها الفلاح عُرضةً للاعتصار والاضطهاد والنهب. وكانت هذه البلاد موطناً للفوضى والفساد العام، وتبدو فريسة سهلة المنال، بحيث إنها كانت تحمل في طيّاتها نيران الحروب وتهدد بإشعالها بين الدول الأوروبية".

وكانت أسرة الخطابي ليست بعيدة عن هذا الوضع المتردي الذي تعيشه البلاد، ولا الأطماع الاستعمارية التي بدأت في التنامي وقتها. فقد كان الأب عبد الكريم الخطابي قاضي المهنة، له ارتباطات سياسية متشابكة مع مختلف المكونات السلطوية على تلك الأرض وفي ذلك الحين، وله هَمٌّ كبير هو المغرب، الذي كان يؤمن بضرورة إخراجه من حالة الضياع تلك.

هذا ما دفع عبد الكريم الأب إلى السهر على تجهيز أبنائه كي يكونوا أهلاً لإصلاح هذا الحال، وعلى رأسهم بكره محمد الذي بعث به لتحصيل العلم في جامعة القرويين بفاس. حيث يحكي إدريس الخطابي، نجل المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، أن "الحقيقة أن الفقيه عبد الكريم كان الأستاذ الفعلي لابنه محمد، وذلك في الفقه والدين عموماً، والوطنية والسياسة".

غير أن هذا الارتباط بين الأب والابن لم يدم، حيث ارتأت السلطات الإسبانية أن لا سلطة تعلو سلطتها في الريف، وأن لا كلمة تُسمع غير كلمتها، وكان ذلك علة كافية لتُقدم على اغتيال عبد الكريم الخطابي بتسميمه في أغسطس 1920، بسبب أفكاره ومقامه الرمزي العظيم بين قبائل الريف، ولعزمه الذي أبداه في المقاومة.

وقبل وفاته، ترك عبد الكريم الخطابي لابنه محمد وصية، قال فيها: "إني ذاهب بعد أيام معدودة إلى ربي وخالقي. وصيتي لكم أن تدافعوا عن بلادكم، لأن الإسبان أعداؤنا وأعداء الله قد بيّتوا العزم على تلويث وطننا بأحذية جنودهم. ولذلك، فواجبكم المقدس الذود بكل ما استطعتم من قوة عن حوزة هذه البلاد".

وصيةٌ حملها محمد على عاتقه طوال حياته، هو الذي لم يكن غِرّاً في السياسة حينها، بل كان ذراع والده اليمنى، ونفذ مهام عدة منها على سبيل المثال: تكليفه باستقصاء روابط الإسبان ببوحمارة، وكذا إرساله إلى فاس لتفقد استعدادات المخزن لمواجهة ذلك التمرد الذي قاومه الريف.

وقاومت عائلة الخطابي تمرد بوحمارة لسببين: الأول أن مطامع بوحمارة كانت انتهازية واضحة بعدما استنجد بالاستعمار الأوروبي لمساعدته، ولأن ذلك الاستنجاد كلّف الروكي منح الفرنسيين والإسبان عقود استغلال مناجم الريف، وبالتالي جعل للمحتل موطئاً هناك.

قاضي في مليليا

وقبل اغتيال والده، كان محمد بن عبد الكريم الخطابي قد انتقل في طَوْر من حياته إلى مليلية بغرض العمل، وشغل عدة وظائف منذ حلوله بها سنة 1907، منها تدريس اللغة العربية في المدرسة الأهلية، والإشراف على القسم العربي في جريدة محلية، ليرجع بعدها إلى حرفة أبيه كقاضي القضاة في ذلك الثغر المغربي المحتل.

وخلال مقامه في مليلية، سعى الخطابي إلى توثيق علاقاته السياسية بمختلف مراكز القوى هناك، من متعاونين سريين إلى شخصيات السلطة المخزنية التي انشقت ولجأت إلى المحتل، إلى سياسيين أوروبيين وعسكريين في الجندية الإسبانية. وعبر تلك العلاقات، كان الخطابي على اطلاع كبير بما يجري في البلد وما يُحاك حوله من الخارج، وكوّن صورة بانورامية للخارطة السياسية المغربية، ومع ذلك لم يتزحزح عن موقفه الصامد وسعيه إلى دحر كل التهديدات لوحدة البلد واستقلاله.

هكذا، حسب ما تذكر مصادر تاريخية، تعرض بن عبد الكريم للاعتقال في إسبانيا لمدة سنة تقريباً، بتهمة الخيانة العظمى للدولة الإسبانية، بالتخابر مع عميل يشتغل لصالح الألمان، هو عبد المالك، حفيد المقاوِم عبد القادر الجزائري، بموجبه كان ينوي الأمير التحصُّل على سلاح لدحر الوجود الإسباني في الشمال.

حرب الريف

سنة 1920، سيحاول الجنرال الإسباني مانويل سلفستري إنزال جيشه في الحسيمة، على غرار إنزال القوات الفرنسية في وجدة شرقاً سنة 1907، تمهيداً للاجتياح البري لمنطقة الشمال. عمليةٌ كانت لها مقاومة عبد الكريم الخطابي بالمرصاد، وكانت السبب في إحباطها.

ستضطر المقاومة الريفية إسبانيا إلى التوجه غرباً وإنزال عساكرها في أصيلة والعرائش على الساحل الأطلنطي، لكن المقاومة في تلك الثغور لم تكن بهذه القوة، بل جنح زعيمها "الريسوني" إلى مهادنة المحتل والحفاظ على مكاسبه المادية على الأرض. في خيانة وجد الريفيون أنفسهم بسببها محاصَرين من كل الجهات، شرقاً وغرباً من المحتل، وفي الجنوب لا يُرجى مدد من المخزن، الواقع تحت رحمة الفرنسيين بعقد حماية منذ 1912.

بعد احتلال شفشاون في نفس السنة، كانت انطلاقة المواجهات المباشرة بين أهل الريف بزعامة ابن عبد الكريم وجحافل المستعمر، ما عرف بعدها بـ"حرب الريف". مواجهاتٌ كان المجاهدون فيها بعتاد بسيط وبدائي، بندقيات تقليدية، غير أن روح المواجهة كانت الفيصل في تحركاتهم، والضامن لحِلف حافظوا عليه طويلاً مع النصر.

يخبرنا الباحث المغربي محمد العربي المساري، في كتابه "محمد بن عبد الكريم الخطابي: من القبيلة إلى الوطن"، أن الفترة الأولى من الحرب كانت هجومية بامتياز، حاصرت فيها مجموعات المجاهدين قليلة العدد معسكرات العدو واستنزفت طاقاته قبل مهاجمته، بل كان تسليحهم معتمداً على ما يغتنمونه من العدو بعد قتله، أو بعد سرقته منه بالتسلل ليلاً إلى مخازنه، عرايا مطليين بالزيت، كي لا يحدثون صوتاً ينبِّه الحراس إلى وجودهم.

معجزة أنوال

في أواسط شهر يوليو/تموز سنة 1921 بجبال الريف (شمال شرق المغرب)، كل التحصينات الدفاعية للحامية العسكرية الإسبانية المتمركزة ببلدة أنوال تساقطت في يد الثوار المغاربة. بعد أن استصغر قائد تلك القوات الاستعمارية، الجنرال سلفستري، تهديدات المقاومة الريفية بقطع خطوط إمداده مع مدينة مليلية المحتلة.

بالنسبة لقائد الثوار، "أسد الريف" كما دأب المؤرِّخون على تلقيبه، محمد بن عبد الكريم الخطابي، لا شيء يدعو إلى التسرُّع بل هو الوقت الأنسب للدخول في حرب استنزاف، ومحاصرة العدو لإضعافه أكثر ودفعه للتهور ومغادرة تحصيناته. ففي آخر المطاف، لم تكن قوات عبد الكريم تتعدى الـ1500 مقاتل، ضعيفي التسليح والتدريب، وبالتالي أي هجوم على الحامية الإسبانية سيكون بمثابة انتحار لجنوده وإعدام لحركته المقاومة.

غير أن ذلك القرار لم يخلُ من مخاطرة، ورغم امتيازهم الكامن في معرفتهم الكاملة بالجغرافيا التي يحاربون فيها، فقد كان العدو الإسباني يفوقهم عدَّة بسبعة أضعاف وعتاداً بأكثر من ذلك، كما يضم هو الآخر مرتزقة من أبناء المنطقة. وكذلك كان، بعد أن طال الحصار بالإسبان وكثر لديهم الجرحى وبدأت المؤن في النفاد، قرَّر الجنرال سيلفستري شن هجوم على مواقع المقاومين في الجبال المحيطة به.

ويوم 24 يوليو/تموز بدأ الإسبان في قصف محيط معسكر الثوار بالطائرات والمدافع، في هجوم كان قد علم به عبد الكريم الخطابي قبل وقوعه ما منحه أفضلية الجاهزية. ومساء اليوم نفسه هاجم عدد من المرتزقة خنادق المجاهدين، غير أن سقوط قائدهم جعل بقية المرتزقة ينسحبون من المعركة عائدين صوب منازلهم حاملين معهم الأسلحة التي حصلوا عليها من عند المستعمر.

وبعد فشل هذا الهجوم تيقن الخطابي أن سلفستري سينسحب إلى ما وراء أنوال، لذلك أصدر أوامره بقطع خط العودة والسيطرة على جميع المسالك المؤدية إلى المراكز التي يسيطر عليها الإسبان، عبر تمركز القوات الثورية وكمونها على المرتفعات وقمم التلال والأحراش. فيما سيلفستري الذي فقد أعصابه عند تلك اللَّحظة، رفض التفاوض مع المقاومة المغربية، قرر الانسحاب عشوائياً، كي تتلقَّف قواتِه بعدها كمائنُ الثوار وبنادقهم التقليدية.

تجمع مصادر تاريخية أنه سقط في تلك المعركة أكثر من 18 ألف جندي إسباني، بما فيهم سيلفستري، الذي كان يراقب انسحاب الجيش من أنوال على قمة مرتفعة وهناك لمحه أحد الأهالي المسلحين، فتسلل نحوه وأطلق عليه النار فأرداه قتيلاً. ولم ينجُ من أنوال سوى فرقة بقيادة جينرال يدعى نافارو، كانت قد تُركت لتغطية الانسحاب، نجحت في الفرار من كماشة المقاومين نحو الشرق، إلى منطقة جبل العروي، حيث جرت ملاحقتها والقضاء عليها بعد أسر قائدها.

ويذكر عبد الكريم الخطابي في مذكراته متحدثاً عن انتصار أنوال: "ردت علينا هزيمة أنوال 200 مدفع من عيار 75 أو 65 أو 77 ، وأكثر من 20 ألف بندقية، ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتمويناً كثيراً يتجاوز الحاجة، وأدوية، وأجهزة للتخييم، وبالجملة، بين عشية وضحاها. وبكل ما كان يعوزنا لنجهز جيشاً ونشنَّ حرباً كبيرة. وأسرنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15 ألف جندي ما بين قتيل وجريح".

هو الذي كان بالذكاء والحنكة الاستراتيجية التي مكّنته من استشراف سيرورة المعركة، وقيادة قواته نحو الظفر بها. كما من الترفق والرحمة اللتين جعلا حتى أسراه فيها يشهدون له بمكارم الأخلاق. حيث سجَّل التاريخ عنه تركه سريره مُستَراحاً للجنرال الإسباني نافارو الأسير لديه بعد معركة جبل عرويت، وكذا تصريحات أسيرته للصحافة الإسبانية بعد أن سألها أحدهم: "هل تشعرين بالخوف هنا؟"، لترد: "مِمّ أخاف؟ إننا نلقى معاملة طيبة وليس هناك ما نشكو منه".

TRT عربي