تابعنا
يمكن استخلاص الهيدروجين وإنتاجه عبر عمليات كيميائية مختلفة، لكنّها تتفق جميعاً في التكلفة العالية، مقارنةً بأشكال الوقود الأحفوري التقليدية، لكنّ مراكز بحثية كثيرة حول العالم تراهن على ابتكار تقنيات تخفض تلك التكلفة.

مع ولادة صناعة النفط الحديثة منتصف القرن التاسع عشر، لم يتخيل أحد أنّ هذا الخام الأسود الذي يُستخدم بصورة رئيسية في الإضاءة، سيصبح مع مرور السنين عصب الاقتصاد العالمي، لا سيّما في القرن العشرين.

غير أنّه في السنوات الأخيرة، بدأت تتردد بكثرة توقعات ودراسات تؤكد قرب نهاية عصر النفط، وبدء انحسار دوره، مع سطوع نجم مصادر طاقة بديلة متجدّدة، لا تُلحق الضرر بالعالم كما يفعل الوقود الأحفوري.

ويأتي في مقدمة هذه المصادر، الهيدروجين، وهو أكثر العناصر الكيميائية وفرةً في الكون، حيث يشكل 75% من كتلته، لكن ما يُصعب استخدامه وقوداً أنّه لا يتوفر في صورة منفردة، إنّما في روابط مع ذرات أخرى، كالوضع في الماء المكوّن من ذرة أكسجين وذرتَي هيدروجين (H₂O).

ويمكن استخلاص الهيدروجين وإنتاجه عبر عمليات كيميائية مختلفة، لكنّها تتفق جميعاً في التكلفة العالية، مقارنةً بأشكال الوقود الأحفوري التقليدية، لكنّ مراكز بحثية كثيرة حول العالم تراهن على ابتكار تقنيات تخفض تلك التكلفة؛ ما سيكتب نهاية عصر النفط الذي بات يشكل خطراً وجودياً على كوكب الأرض.

وفي أحدث تقاريرها عن آفاق سوق النفط متوسطة الأجل، توقعت وكالة الطاقة الدولية تباطؤ نمو الطلب على النفط بوتيرة حادة في حلول عام 2028، ما يُرجح أن يصل الاستهلاك العالمي إلى ذروته قبل نهاية عام 2030.

وأرجعت الوكالة الدولية ذلك إلى تغيّر سياسات حكومات العالم مع ارتفاع الأسعار والمخاوف بشأن أمن الإمدادات، التي أبرزتها أزمة الطاقة العالمية المتواصلة منذ 2020، والتي زادت حدتها مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في 2022، ما دفع إلى تسريع التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة، وفي مقدمتها الهيدروجين.

قصة الهيدروجين

اكتشف غازَ الهيدروجين لأول مرة العالم البريطاني هنري كافنديش عام 1766. وترجع أصل تسميته إلى لفظَين لاتينيين، هما "هيدرو" و"جين"، ويعنيان مُشكِّل الماء أو مُنشئ الماء، وفق الجمعية الملكية للكيميائيين في بريطانيا. فيما جاءت بداية التعامل التجاري مع الهيدروجين في مطلع القرن العشرين، بصفته غاز رفع، لأنّه أخف من الهواء 14 مرة، واستُخدم بالمناطيد في الولايات المتحدة.

وفي خمسينيات القرن العشرين، بدأ استخدام الهيدروجين وقوداً، وذلك من وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" من خلال استغلاله في رحلات مركباتها الفضائية، بسبب طبيعته منخفضة الوزن وعالية الطاقة.

ولكونه غير متوفر بصفة عنصر حرّ في الطبيعة، يجري إنتاج الهيدروجين، وفق أمرين، الأول: المادة الخام التي ينتج منها، والآخر: الوقود المستخدَم في عملية الإنتاج؛ لذا يُصنَّف على أساس عدة ألوان.

وفي مقدمة هذه الألوان، يأتي الهيدروجين الرمادي الذي ينتَج من الغاز الطبيعي، الذي يحتوي على ذرة كربون و4 ذرات هيدروجين، عبر عملية معروفة باسم "إصلاح الميثان بالبخار"، فصل الهيدروجين عن الكربون، لكن يتسبب ذلك في زيادة نسبة الكربون في الهواء.

وعندما تتضمن عملية الإنتاج احتجاز الكربون وتخزينه، حينها يطلَق عليه الهيدروجين الأزرق.

أما إنتاج الهيدروجين الأخضر، فيجري عبر تجنب الوقود الأحفوري، واستخدام الماء بدلاً منه، ومع عملية تحليل كهربائي، ينفصل الماء إلى جزيء أكسجين وجزيء هيدروجين، وفي هذه الحالة يتكون الهيدروجين الأخضر.

وهناك أيضاً هيدروجين أصفر ينتج عبر الطاقة النووية، والهيدروجين القرمزي الذي ينتج عبر أكسدة الغاز الطبيعي أو الكتلة الحيوية.

الهيدروجين الأخضر

يحتوي الهيدروجين على نحو ثلاثة أضعاف الطاقة التي يحتويها الوقود الأحفوري، ما يجعله أكثر كفاءة، ويُعد أيضاً مضاعفاً للكهرباء، فمع بعض الماء وقليل من الكهرباء، يمكن توليد مزيدٍ من الكهرباء، وفق كلية كولومبيا للمناخ.

وعلى الصعيد العالمي، يجري إنتاج نحو 120 مليون طن من الهيدروجين سنوياً، بواقع 95% من الإنتاج العالمي من الغاز الطبيعي والفحم (الهيدروجين الرمادي)، و1% من طاقة الشمس والرياح (الهيدروجين الأخضر)، وفق بيانات عام 2021 الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة المتجددة.

وتشير إلى أنّ الطلب العالمي على الطاقة سيقفز بما يتراوح بين 25 و30% بحلول عام 2040، وهو ما يعني تفاقم آثار التغيّرات المناخية بالنسبة للاقتصادات التي تعتمد على الوقود الأحفوري.

ويمكن أن يوفر الهيدروجين الأخضر ما يصل إلى 25% من احتياجات الطاقة في العالم بحلول عام 2050، وتتوقع الوكالة أنّه مع انخفاض تكاليف إنتاج طاقة الشمس والرياح، سيزداد الإقبال على الهيدروجين الأخضر الذي سينخفض سعره بطبيعة الحال.

وفي هذا الإطار، تؤكد مجلة العلوم الأمريكية، على أنّ شركات كثيرة تتسابق في الوقت الراهن من أجل تطوير آلات بإمكانها إنتاج الهيدروجين الأخضر بالتكلفة ذاتها التي يُنتَج بها الهيدروجين الرمادي والأزرق، وهو الهدف الذي يُتوقع تحقيقه في غضون السنوات العشر القادمة.

وفي أحدث صور هذا السباق، كشفت شركة "نيوهيدروجين" الأمريكية عن ابتكارها تقنية جديدة لإنتاج "أرخص هيدروجين أخضر في العالم" عبر تفكيك جزيء الماء باستعمال الحرارة بدلاً من الكهرباء، التي تمثل ما نسبته 73% من إجمالي تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر.

وتدّعي الشركة أنّه يمكن استخدام في هذه الطريقة الحرارة المتجددة الناتجة عن مصادر مثل الطاقة الشمسية المركزة أو الطاقة الحرارية الأرضية أو حتى الحرارة المهدرة من محطات الطاقة النووية، والعمليات الصناعية.

استثمارات ضخمة

في الوقت الراهن، تضخ دول كثيرة استثمارات ضخمة في هذه التكنولوجيا، لا سيّما تلك الدول التي تتوافر لها طاقة متجددة قليلة التكلفة، مثل أستراليا، وتشيلي، والسعودية، والإمارات، ودول شمال إفريقيا.

وفي أحدث تقاريرها، تتوقع شركة "ديلويت" البريطانية، أنّه بحلول عام 2050، ستكون المناطق الرئيسية المصدّرة للهيدروجين الأخضر، هي شمال إفريقيا (110 مليارات دولار سنوياً)، وأمريكا الشمالية (63 ملياراً)، وأستراليا (39 ملياراً)، والشرق الأوسط (20 ملياراً).

وأشارت الشركة البريطانية الشهيرة في مجال الاستشارات إلى أنّ هناك أكثر من ألف مشروع هيدروجين قيد التنفيذ في كل أنحاء العالم في الوقت الراهن.

وحسب دراسات دولية، يُعد المغرب والإمارات ضمن الدول الأقل تكلفة في إنتاج الهيدروجين الأخضر.

إذ تُقدّر تكلفته في المغرب بنحو 3.2 يورو/كيلوغرام، والإمارات 3.6 يورو/كيلوغرام، ويسبق الدولتين العربيتين كلٌّ من أستراليا وتشيلي وإسبانيا بتكلفة إنتاج تُقدّر بنحو 3.1 يورو/كيلوغرام.

وفي المقابل، ترتفع تكلفة الإنتاج لدى دول شمال أوروبا إلى ما يتراوح بين 6 و8 يوروات/كيلوغرام.

وتُرجح تلك التقديرات أنّ دول الاتحاد قد تفضل الاستيراد عن الإنتاج المحلي تجنباً للتكلفة المرتفعة، لا سيّما مع طرح إمكانية نقل تدفقات الهيدروجين الأخضر عبر أنابيب نقل الغاز الطبيعي.

وتُعد السعودية من الدول التي انضمت بقوة إلى سوق الهيدروجين الأخضر، إذ تبني أكبر محطة لإنتاج الهيدروجين الأخضر في العالم بمدينة "نيوم" شمال غربي المملكة، بقيمة 8.4 مليار دولار، بحجم إنتاج يصل إلى 600 طن يومياً، بحلول أواخر عام 2026.

إلى ذلك، أقرّت الإمارات مؤخراً استراتيجية للهيدروجين الأخضر، تهدف إلى إنتاج 1.4 مليون طن سنوياً من الهيدروجين بحلول عام 2031 (مليون طن من الهيدروجين الأخضر و0.4 مليون طن من الهيدروجين الأزرق).

وتستهدف مصر إنتاج 1.5 مليون طن سنوياً من الهيدروجين الأخضر بحلول 2030، وفق وزير الكهرباء والطاقة المتجددة محمد شاكر.

وتحتل تركيا أيضاً المرتبة 12 عالمياً والخامسة أوروبياً في إنتاج الطاقة المتجددة، وتستهدف الوصول إلى إنتاج سنوي من الهيدروجين الأخضر يصل إلى 3.4 مليون طن بحلول عام 2050.

وفي هذا الصدد، قرّرت تركيا إطلاق مشروعَي "وادي الهيدروجين في جنوب مرمرة" و"منصة شاطئ جنوب مرمرة للهيدروجين"؛ بهدف دعم جهودها من أجل التقدّم في مجال إنتاج الهيدروجين، بالإضافة إلى تصديره إلى أوروبا.

TRT عربي
الأكثر تداولاً