تابعنا
الإيجابية السامّة هي "الافتراض سواءً من جانب الشخص نفسه أو من قبل الآخرين أنّه وعلى الرغم من الألم العاطفي الذي يشعر به الشخص أو الموقف الصعب الذي يمرّ به، فإنّ العقلية الإيجابية هي ما يجب أن يكون موجوداً فقط.

"حاول ألا تفكر في الأمر"، "كن ممتناً لما تملك"، "نحن في هذا معاً"، من المحتمل أنك سمعت هذه العبارات الإيجابية أو ما شابهها من صديق عند مرورك بموقف صعب، وقد تكون هذه العبارات هي أيضاً أسلوبك في التعامل مع الآخرين بهدف رفع معنوياتهم. ولكن مهلاً الإيجابية المفرطة قد تسبّب ردّ فعلٍ عكسيّ!

الإيجابية السامة.. الجانب الأسود للتفاؤل

الإيجابية السامّة هي "الافتراض سواءً من جانب الشخص نفسه أو من قبل الآخرين أنّه وعلى الرغم من الألم العاطفي الذي يشعر به الشخص أو الموقف الصعب الذي يمرّ به، فإنّ العقلية الإيجابية هي ما يجب أن يكون موجوداً فقط"، وهذا حسب تعريف جايمي زوكرمان الطبيب النفسي السريري بولاية بنسلفانيا الأمريكية متحدثاً لموقع healthline المعني بالصحة العامة.

يشكّل إنكار المشاعر غير السارة ومحاولة تجنُّبها والتفكير بإيجابية على الدوام خطراً على الصحة العقلية، فمحاولة إخفاء المشاعر السلبية من دون معالجة يجعلها تتضخّم داخل النفس ويخلق ضغطاً نفسياً داخلياً عميقاً، وسيجد الشخص نفسه في نهاية المطاف محاصراً داخل دائرة أكبر من المشاعر السلبية، فنحن كبشر غير مبرمجين لنشعر بالسعادة فقط.

عندما لا يعير الناس انتباههم للمشاعر السلبية ثم يصادفون الآخرين كأنهم لا يمتلكونها، فإن ذلك يجعلهم أقلّ قابلية للتواصل معهم، فالعلاقات الاجتماعية تحتاج إلى الصدق العاطفي، ومحاولة الآخرين صَرْفنا عن المشكلة الآنية يجعلنا نفقد مساحتنا الخاصة بالتعاطف مع الذات، الأمر المهم جداً لصحتنا العقلية، وهذا ما تؤكِّده بريت فورد الأستاذ المساعد بعلم النفس بجامعة تورنتو الأمريكية، إذ تقول: "إن الأشخاص الذين يميلون إلى عدم الحكم على مشاعرهم وعدم التفكير بعواطفهم على أنها جيدة أو سيئة وعدم محاولة تجنُّب أو وضع مسافة بينهم وبين عواطفهم، يميلون إلى التمتع بصحة نفسية أفضل بجميع المجالات". خلصت فورد إلى هذه النتائج بناءً على دراسةٍ أجرتها بمساعدة باحثين آخرين ونشرت نتائج هذه الدراسة بمجلة Journal of Personality and Social Psychology العلمية عام 2018.

إنّ الإيجابية المفرطة تقلّل قيمة التجربة البشرية وتجعلك تحكم على نفسك بشكل خاطئ عند مرورك بمشاعر غير سارة مثل الحزن والألم والخوف، إذ ستشعر عند عدم قدرتك على التفكير بشكل إيجابي بموقف ما أنّك تفعل شيئاً خاطئاً، ما سيخلق بالنهاية شعوراً بالخجل والذنب، وهذا بالطبع غير واقعي فالإنسان خليطٌ معقد من المشاعر والعواطف التي يجب عدم تحييدها، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ الإيجابية المفرطة تحرمك القدرة على مواجهة المشاعر الصعبة التي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى النمو العاطفي والبصيرة الأعمق.

كيف تعرف إن كنتَ مفرطاً بإيجابيتك؟

إذا كانت لديك شكوك حول ما إذا كنت أحد الأشخاص الذين يفكرون بإيجابية سامة فعليك الانتباه إلى الإشارات التالية التي من شأنها لفت انتباهك إلى هذا السلوك كما توضحها خدمات مشروع Taking Charge of Your Survivorship التابع لجامعة مينيسوتا الأمريكية:

ـ شعورك بالحاجة إلى إخفاء مشاعرك الحقيقية.

ـ محاولتك المضي قدماً من خلال رفض المشاعر فقط.

ـ شعورك بالذنب حيال حقيقة ما تشعر به من مشاعر مثل الخوف والألم والحزن.

تشكل محاولة التفكير الإيجابي على الدوام خطراً على الصحة العقلية (Others)

ـ شعورك بأنّ عبارات مثل "عليك الشعور بالرضا" تقلّل من شأنك.

ـ شعورك بالمعاناة في سبيل قبول عبارات ووجهات نظر مثل "كان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ" بدلاً من التحقق من صحة تجربتك العاطفية التي تعيشها.

ـ شعورك بالعار أو الخجل بسبب التعبير عن الإحباط أو أي شيء آخر غير الإيجابية.

محاولة تجاهل الأمور التي تزعجك وتجنُّب المشاكل بدلاً من مواجهتها.

التقليل من مشاعر الآخرين لأنّها تشعرك بعدم الراحة ومحاولة جعلهم يشعرون بالذنب لعدم تحلّيهم بتفكير إيجابي على الدوام.

تختبئ الإيجابية السامة تحت هذه الأقنعة

تختبئ الإيجابية السامة تحت عبارات نسمعها مراراً وتكراراً مثل: "انظر إلى الجانب المشرق"، أو "سيكون كل شيء على ما يرام"، أو "لكلّ شيء سبب"، أو "السعادة هي خيار"، وغيرها الكثير.

قد يستخدم البعض الإيجابية المفرطة لتغذية غرورهم بذاتهم المتعجرفة، إذْ يمتلك هؤلاء إحساساً بأنّهم فوق كلّ شيء سلبي وبمنأى عن المشاكل والضيق الذي يثقل كاهل الآخرين، كما يشير إلى ذلك الطبيب النفسي سيث جيليهان بمقال منشورٍ له بموقع WebMD الطبي، ويوضّح الطبيب أنّه وعلى النقيض فإنّ الإيجابية لدى هؤلاء الأشخاص ما هي إلا قشرة رقيقة تغطي طبقة أعمق من السلبية وانعدام الأمن، فالشخص الذي يشعر بالرضا الحقيقي لا يحتاج إلى التباهي بنفسه.

الإيجابية السامّة أكثر ضرراً بزمن الجائحة

لا يخفى على الجميع وبعد سنة من بدء جائحة كورونا المستجد تأثيراتها على الصحة العقلية، فإلى جانب التحديات التي يواجهها الجميع من قلق واضطراب ومستقبل مجهول فإنّ الإيجابية السامة كانت أكثر وضوحاً وتأثيراً السنة الفائتة، بل ولا تزال، إذ وقع الكثير منا تحت ضغط الإنتاجية والمقارنات نتيحةً لامتلاء مواقع التواصل الاجتماعية باستراتيجيات للاستفادة العظمى من الوقت أثناء الحجر الصحي والإغلاقات التامة والجزئية، متغاضين عن نقطة عدم قدرة الجميع التكيف مع التوتر والقلق عن طريق الانشغال، ما دفع الكثيرين إلى الشعور بعدم الكفاءة والخجل من أنفسهم لأنهم ببساطة يحاولون قضاء يومهم من دون نوبة هلع أو بكاء، إذْ كانت هذه الرسائل محفزاً لمزيد من مشاعر الاكتئاب والقلق.

في هذا الصدد يقول بول وونغ،عالم نفس وأستاذ فخري بجامعة ترينت في مقاطعة أونتاريو الكندية متحدثاً إلى هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) موضحاً أن هذه الأوقات ليست سهلة على الجميع: "لا بأس أن تشعر بالوحدة، لا بأس أن تكون لست بخير، ولا بأس أن تشعر بالقلق".

موازنة الإيجابية والسلبية ليست بالأمر الصعب

إن لاحظت أنّك تمارس التفكير الإيجابي السام سواءً مع نفسك أو مع الآخرين فعليك تذكير نفسك دائماً بأنّ الحياة خليطٌ من اللحظات المفرحة والمحزنة وبهذا تكون واقعياً، أعطِ نفسك الوقت والمساحة لتخطي الصعوبات المختلفة، وحاول التحدث مع أحد المقربين عن حقيقة ما تشعر، إذ تشير الأبحاث إلى قدرة ذلك على التقليل من حدّة المشاعر السلبية. إنّ مشاعرك الحقيقة مهمّة فلا تحاول تجنُّبها، فهي توفر لك رؤية أوضح للأمور المتعلقة بالموقف الذي تحتاج إلى العمل لتغييره.

في حال كنت تريد دعم الآخرين فعليك في البداية الإنصات إليهم جيداً وتجنُّب العبارات السامة التي أشرنا إليها مسبقاً، واستبدالها عبارات بها مثل: "أنا هنا مهما كان الأمر"، أو "مشاعرك حقيقية"، أو "الفشل جزء طبيعي من الحياة"، أو "في بعض الأحيان تحدث أشياء سيئة، كيف يمكنني أن أساعد؟"، فمن شأن هذه العبارات التركيز على إظهار الدعم المعنوي الحقيقي تجاه الآخرين.

يشير موقع verywellmind المعنيّ بالصحة النفسية إلى أن تقنين استخدام مواقع شبكات التواصل الاجتماعي قد يكون مفيداً لدى الأشخاص الذين تنتابهم مشاعر سلبية عند رؤيتهم منشوارت الآخرين الإيجابية على الدوام، خصوصاً تلك المنشورة بهدف رفع المعنويات، وتذكر دائماً أنّ الأشخاص يعمدون إلى إخفاء فشلهم وأوقاتهم العصيبة على شبكات التواصل الاجتماعي، ما قد يعطيك انطباعاً خاطئاً بأنّ لدى الآخرين قدرةً على التعامل مع الأوقات الصعبة بشكل أفضل منك، ما يحفز في نهاية المطاف الشعور بالذنب. احترس من المؤثرين على هذه المنصات الذين يروجون للإيجابية السامة من خلال نشر أفضل مظهر لهم وأفضل تجارب في الحياة ما يبدو لوهلة أنها مقومات الحياة المثالية.

من المهم التنبيه في النهاية إلى أنّ هذه ليست دعوة ضد مفهوم التفاؤل ككل، وإنما تذكير بأن الموازنة هي الأساس على جميع الأصعدة، فللتفاؤل بمفهومه الصحيح فوائد على الصحة الجسدية والعقلية.

TRT عربي