يتبادر إلى الأذهان لدى ذكر حكام الدولة العثمانية، أمراء وسلاطين بعينهم، لشهرتهم الواسعة، أمثال المؤسس عثمان، ومحمد الفاتح، وسليم الأول، وسليمان القانوني، وعبد الحميد الثاني.
إلا أن عديداً من حكام الدولة العثمانية لهم أعمال جليلة وسيرة حسنة نبيلة، لم يأخذوا نصيبهم من هذه الشهرة الواسعة، ومن هؤلاء: الغازي مراد، أو مراد الأول، أو كما أُطلق عليه "مراد خداونديكار"، ومعناه صاحب السلطة.
مراد بن أورخان بن عثمان بن أرطغرل، هو حفيد مؤسس الدولة، وُلد عام 1326م، تَسلَّم الحكم بعد وفاة أبيه وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وفي العام التالي لتوليه الحكم فتح أنقرة مرة أخرى، ثم فتح أدرنة وجعلها العاصمة بدلاً من بورصة.
وفي العام الذي يليه فتح فيليبا، أحد المراكز الحيوية في البلقان، ليتسنى له جعْل مدينة القسطنطينية محاطة بالأراضي العثمانية. وبفتوحات مراد صارت الإمارة العثمانية متاخمة للصرب والبلغار وألبانيا.
أثارت فتوحات الغازي مراد مخاوف الدول الأوروبية، فعبَّأ البابا أوربانوس الخامس الجيوش الصليبية التي هاجمت أدرنة في غياب مراد الذي كان محاصِراً مدينة أخرى، لكنه عاد ليواجه الجيش الصليبي فهزمه.
كوّن ملك الصرب الجديد وقتها جبهة صليبية مع الأمير البلغاري ضد الدولة العثمانية، إلا أن الجيش العثماني دحر هذا الجيش الصربي-البلغاري، وعلى أثر ذلك وقّع ملك الصرب وأمير البلغار معاهدة مع مراد، يلتزمان بموجبها دفع جزية سنوية للدولة العثمانية.
عهِد مراد الأول إلى وزيره تيمور طاش بتكوين سلاح للفرسان، ففتح الأخير عديداً من البلدان، منها مدينة صوفيا، العاصمة الحالية لبلغاريا.
ثم هاجم الصرب العثمانيين في البلقان عام 1387م، وانتصروا على العثمانيين الذين كان يقودهم تيمور طاش في معركة بلوشنك، الأمر الذي أغرى الجيوش الصليبية باستهداف الدولة العثمانية.
وجّه مراد الأول أحد القادة العثمانيين الكبار وهو علي باشا، بالتحرك للهجوم على أمير بلغاريا، وفتَح عدة مدن بلغارية، الأمر الذي جعل الأمير البلغاري يفرّ إلى نيكوبولي، ثم عاد لمباغتة الجيش العثماني على حين غرة، إلا أن العثمانيين كانوا يقظين، فدحروه وأسروه.
عام 1389م، قام تحالف صليبي بين ملك الصرب ستيفان أوروس الخامس، وأمراء ألبانيا، ضد الدولة العثمانية، فألحق مراد الأول بهذا التحالف في قوصووَه (كوسوفو)، وقاد الجيش العثماني بنفسه، وجعل ابنيه بايزيد عن يمينه ويعقوب عن يساره.
وتعد هذه المعركة من المعارك الكبرى ليس في التاريخ العثماني فحسب، بل في التاريخ الإسلامي ككل، وفيها انتصر العثمانيون على الجيش الصليبي انتصاراً ساحقاً قُتل فيها قائد الصرب.
كان من نتائج هذه المعركة الكبرى بدء العثمانيين حكم 5 قرون للبلقان، وكانت بداية التوغل العثماني في صربيا ومنها إلى أوروبا، وظلت قوصووَه (كوسوفو) حاضرة الألبان المسلمين لعدة قرون.
ومن حينها أمدّت قوصووَه، الدولة العثمانية بقادة بارعين، منهم القائد حامد باشا الأرناؤوط، وأحمد بك الأرناؤوط، وأصبحت خطّ الدفاع الأول للدولة العثمانية في أوروبا، ومن ثم أصبحت مركزاً للجيش العثماني الثالث.
ظلت هذه المعركة الفاصلة ماثلة أمام الصرب إلى العصر الحديث، واستخرجت ذكراها الأحقاد الكامنة في الضمير الأوروبي تجاه الدولة العثمانية.
ففي عام 1989 وبعد 6 قرون على مصرع الملك الصربي في تلك المعركة، وقف الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش يبثّ سمومه في حشد من الصربيين العنصريين، يستحضر أجواء هذه المعركة وذكراها ليشحذهم ضدّ مسلمي البوسنة.
وذكّرهم حينها بمقتل ملكهم الصربي التاريخي في معركة كوسوفو على يد الجيش العثماني بقيادة مراد الأول، وكانت نتيجة هذا الاستحضار التاريخي للمعركة أبشع مذابح العصر ضد المسلمين في البوسنة.
في أعقاب هذه المعركة الفاصلة، تَفقَّد الغازي مراد ساحة المعركة التي امتلأت صفحتها بالدماء في ليلة مظلمة أضاء فيها الهلال والنجوم مكان الواقعة، وعزا بعض المؤرخين شكل العلم العثماني إلى هذا المشهد، فلونه الأحمر يذكّر بالدماء التي ملأت ساحة المعركة، والهلال والنجوم زينت سماء تلك الليلة.
فيما كان مراد يتفقد الساحة، وجد أحد الجنود الصرب في تعداد الجرحى يتظاهر بأنه يريد الدخول في الإسلام، فلم يكد يقترب منه حتى عاجله الصربي بطعنة بخنجره أردته قتيلاً، وحُمل رحمه الله إلى بورصة حيث دفن وهو في الخامسة والستين من عمره، بعد رحلة طويلة من الكفاح والنضال.
لقد كانت أبرز الخصال الحميدة التي عُرف بها مراد الأول تسامحه الديني مع غير المسلمين، فعلى الرغم من أن الكنيسة أعلنته عدواً للمسيح وحكمت بأنه كافر، فإن المسيحيين الذين عاشوا في ظل حكمه كانوا يحبونه أكثر مما يحبون البابا، لأنه كان يعاملهم بسماحة وعدل تعاليم الإسلام التي كان يدين بها.
وشهد له المؤرخ البيزنطي هالكو نديلاس بذلك فقال: "كان يعامل رعيته معاملة شفوقة بلا نظر إلى فروق العرق والدين".
على الصعيد العسكري نجد أن مراد الأول فاز في 37 معركة في الأناضول أو في البلقان، وزاد رقعة الدولة العثمانية 5 أضعاف ما كانت عليه عندما تولى الإمارة، فقد ترك له والده أورخان حدوداً بلغت 95 ألف كم2، وعندما مات مراد كانت بلغت خمسمائة ألف كم2، في غضون 3 عقود تقريباً، هي فترة حكمه.
ويذكر المؤرخ أحمد آق كوندز في كتابه "الدولة العثمانية المجهولة"، أن مراد الأول أحاط نفسه بعدد من الكفاءات التي كانت سبباً رئيسياً في نجاحاته.
إذ استحدث منصباً جديداً هو "قاضي العسكر"، ووكله إلى العالم جاندارلي قره خليل، الذي نظّم مع قره رستم القرماني المؤسسة المالية، وطوّر ووضع تفاصيل مؤسسة الإنكشارية ومؤسسة "عجمي أوغلانلاري" اللتين شُكّلتا في عهد أبيه أورخان.
كما أحاط نفسه بعدد من رجال الدولة البارزين المشهود لهم بالكفاءة، أمثال: علي باشا، وتيمور طاش باشا، ولالا شاهين باشا، وساروجا باشا، وأورنوس بك، وغيرهم من رجال الدولة البارزين.