تابعنا
أثار مسلسل "إيميلي في باريس" من إنتاج شركة نتفليكس ضجةً بين المشاهدين الفرنسيين، وأظهر الكثير من النقاد غضباً واضحاً من تنميط المسلسل السطحي للفرنسيين.

ذات مساء استلقيت على الأريكة مرهقاً، ترغب في مشاهدة فيلم أو مسلسل يتميز بألوان مبهجة، وشخصيات بسيطة يسهل إدراكها، لست مهتماً بإعمال عقلك في أفكار عميقة أو تحليلات فلسفية أو تأملات فكرية، تريد وقتاً مسترخياً دون تفكير قبل أن تذهب للنوم. لا تقلق عزيزي القارىء فقد وفرت لك netflix حلاً مثالياً متمثلاً في مسلسل Emily in Paris.

يحكي المسلسل عن شركة إعلان أمريكية استحوذت على شركة فرنسية أصغر حجماً، ومن ثم قررت الشركة الأمريكية أن ترسل إحدى موظفاتها للعمل في الشركة الفرنسية كي تضيف إلى الشركة الرؤية الأمريكية في التسويق. هكذا كان حظ إيميلي السعيد المسؤول عن ذهابها للعمل في باريس عاصمة النور والجمال، أو هكذا اعتقدت. اصطدمت إيميلي فور ذهابها بالفارق بين الثقافتين وكما تقول فـ"باريس جميلة لكنَّ الباريسيين ليسوا كذلك". يستمر المسلسل ليعرض معاناة إيميلي في التأقلم مع هذا العالم الغريب عنها، لكنه يعرض هذا العالم من خلال جمعه لكل كليشيه ممكن عن فرنسا ودمجها جميعاً في عمل واحد.

بطبيعة الحال أثار المسلسل ضجة بين المشاهدين الفرنسيين، وأظهر الكثير من النقاد غضباً واضحاً من تنميط المسلسل السطحي للفرنسيين. علق راديو RTL قائلاً إن الباريسيين لن يستطيعوا تعرف حياتهم اليومية في هذا المسلسل، في حين علق آخرون بأنه تصوير كاريكاتيري للفرنسيين. من المدهش أن ينزعج الفرنسيون من الكاريكتير وهم من يثيرون المشكلة تلو الأخرى بسبب رسوماتهم الكاريكاتيرية المسيئة للمسلمين.

إلا أنه من المهم وضع المسلسل في سياقه، فهو ليس مسلسلاً جيداً على المستوى الفني، المسلسل سيئ ببساطة شديدة، ولا يستحق النقد في واقع الأمر، أما على المستوى الفكري فأعمال دارين ستار السابقة لم تعد بأكثر من هذا. كما ذكرت سابقاً فهذا مسلسل يعدك بصورة جميلة دون محتوى. لماذا أكتب نقداً عنه إذن؟ ذلك أننا إذا تجنبنا المسلسل كعمل فني واستغللناه كبوابة لمناقشة مواضيع كالعنصرية والتنميط والصوابية السياسية سنجده باباً فريداً للولوج إلى هذا العالم.

دليلك للعنصرية الصائبة

يرى الفيلسوف السلوفيني اليساري سلافوي جيجيك أن الصوابية السياسية هي المحاولة اليائسة لحل مشكلة لسنا قادرين على حلها، يبدو أننا عاجزين عن إيجاد ومعالجة المصدر الحقيقي لمشكلة العنصرية، لذا نتجه إلى التحكم في كيفية التحدث، وبمعنى آخر فهو تحكم في ظواهر وشكليات لا تنفذ إلى عمق المشكلة. وهو التناقض الحادث في مسلسل إيميلي في باريس بالضبط.

اقرأ أيضاً:

يجب علينا أن نتذكر أن المسلسل الذي أثار حفيظة الفرنسيين لنظرته العنصرية لهم وتمحوره الفوقي الاستعلائي حول ذاته الأمريكية هو في الأساس من إنتاج شركة نتفليكس netflix، ما يعني أنه يتبع الكود الصريح للشركة من حيث التزام الصوابية السياسية إلى درجة افتعال التنوع العرقي والثقافي في جميع إنتاجاتها. المسلسل الذي لم يخرج عن القاعدة اشتمل على المزيج الذي أصبح حتمياً، هذا المزيج يحتوي بالإضافة إلى الفرنسيين على فتاة أمريكية أنجلو-سكسونية، وفرنسي مثليّ من أصل إفريقي، وصينية درست في أمريكا. حتى إن كانت أدوارهم فرعية بل يكمن الاستغناء عن دور بعضهم بالكامل دون أن يتأثر المسلسل.

في ظل هذا التنوع الصائب سياسياً تمكن الأمريكيون من رسم صورة عنصرية عن الفرنسيين، من خلال معاناة فتاة أمريكية في التأقلم مع مجتمعها الجديد. بل إن المثير في الأمر أننا إذا قمنا بعكس الأدوار وتخيلنا مسلسلاً فرنسياً يقدم صورة عنصرية عن أمريكا فستكون النتيجة هي إيميلي ذاتها ربما باستثناء السمنة، فالصورة العنصرية عن الشخص الأمريكي كما ورد على لسان سيلفي جراتو في المسلسل ستكون فتاة استهلاكية غير مثقفة، تزور فرنسا لمدة عام على الأكثر لتحصل على بعض المرح وربما قليل من الثقافة، وتعود إلى بلدها مرة أخرى، وهو ما حدث بالضبط. لم تتعلم إيميلي الفرنسية حتى نهاية المسلسل، بل اكتفى صناع المسلسل بأن يكون كل من تلتقيهم إيملي من الفرنسيين الذين يجيدون الإنجليزية بطلاقة!

العنصرية، والتنميط، والصوابية السياسية

يبدو إذن أنه من الواجب فك الارتباط بين التنميط وبين العنصرية، فهما مفهومان مختلفان، والتحرر الشديد في استخدام اصطلاح عنصرية سيفقد الكلمة مضمونها. عندما نتحدث عن التنميط فإننا نبرز عناصر مشتركة في مجموعة من البشر، فالقول بأن الإفريقيين يتميزون ببشرة سوداء اللون هو إدراك لنمط بصري يميز أهل منطقة بعينها، في حين أن الاعتقاد بأن مجموعة البشر ذات البشرة السوداء أفضل أو أسوأ من مجموعة أخرى فقط لكونهم ينتمون إلى هذه المجموعة هو عنصرية، ومثال ذلك هو أفكار ألمانيا النازية عن كون العرق الآري أفضل من الآخرين وتاريخ أمريكا المعروف مع العبيد… إلخ.

اقرأ أيضاً:

هنا تظهر الأنماط بوصفها عملية تعميم تستخدم للاختصار، أو ربما لوضع توقعات مسبقة لتجنب الصدمات أو إعادة اكتشاف العجلة، وتختلف بعض الأنماط عن بعض في قدرتها على تفسير عدد أكبر من الحالات، فالقول بأن الأفارقة ذوي بشرة سوداء لا يفسر شعوب شمال إفريقيا على سبيل المثال ومن ثم فهو نمط قاصر، أو القول بأن الفرنسي كما تقول ميندي "سافل في مواجهتك" لا يفسر جميع الفرنسيين اللطفاء الذين قابلتهم إيميلي، لكنه يفسر عدداً كبيراً من الأشخاص بالفعل. هكذا يبدو أن لكل مجتمع أنماطاً ثقافية يشترك فيها، والكثير من الأنماط التي عرضت في المسلسل لم تجافِ الحقيقة في واقع الأمر لكنها كانت أنماطاً سطحية.

النمط الفرنسي

على الرغم من غضب كثير من الفرنسيين من الصورة التي عرضها المسلسل لهم بوصفهم منفتحين جنسياً، وجميع الرجال لديهم عشيقات خارج زواجهم والعكس، فإنه على الرغم من ذلك فالـ"رئيس السابق فرانسوا هولاند كانت له عشيقة يتسلل من الإليزيه للقائها مستخدماً دراجته، وبينما كانت شعبيته تتراجع التقطت له صورة وهو يتسلل من القصر فازدادت شعبيته عند نشرها، واعتبرها كثيرون تعبر عن الروح الفرنسية" كما ذكر الفيزيائي المقيم في فرنسا أحمد أبو الفضل في حوار مع TRT عربي.

ظهر الفرنسيون في المسلسل بوصفهم مجتمعاً منغلقاً، وهو أمر لطالما عُرف عن ثقافة المجتمع الفرنسي، يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي: "لطالما تميزت فرنسا بثقافة تشبه الجزر، بالنسبة إليهم ما يحدث هو ما يحدث في فرنسا فقط، أي شيء يحدث خارجها غير مهم. وهو أمر انعكس على كل شىء حتى الأبحاث العلمية التي ينتجونها".

ربما يكون هذا النمط غير مفسِّر لكل أفراد المجتمع، لكنه بكل تأكيد يعبر عن ثقافة سائدة تمثل عدداً كبيراً من أفراده. يذهب أبو الفضل إلى أبعد من ذلك قائلاً: "تجربتي في التحليل الأخير تجربة شخصية لا تعبر عن المجتمع بكامله بالطبع، لكن ما يمكننا ملاحظته تحليلياً أن المجتمع الفرنسي مجتمع مأزوم، فمخيلته ما تزال تعتبر أنه مجتمع متجانس كما كان تاريخياً، لكن على أرض الواقع فالأمر مختلف تماماً فهناك نسب كبيرة من جنسيات وأديان وثقافات مغايرة تعيش في المدينة"، فباريس اليوم مدينة كوزموبوليتانية لكنها لا تدرك ذلك.

لماذا إذن غضب الفرنسيون؟ ربما يكون السبب هو أحد الأنماط الخاصة بالمجتمعات التي كانت سابقاً حضارة كبيرة لكن أفل نجمها، فرنسا اليوم مختلفة، في عام 2008 صرح الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بأنها "كانت ستصبح دولة من دول العالم الثالث لولا أموال إفريقيا" التي لا تزال فرنسا تحصل عليها من مستعمراتها حتى اليوم. الفرنسيون كما يذكر أبو الفضل"يشبهون بعض دول حوض المتوسط، فهي تمتلك تاريخاً حضارياً ثرياً، فيتكون لديهم شعور أنهم خارج التاريخ، لقد نجحوا بالفعل وهم الآن في موقع الناقد أو الحكم"، وربما ساعد على ذلك أن الأنماط الموجودة في المسلسل كانت أنماطاً لا شديدة السطحية ولا تعبر عن الواقع اليومي، فكما يخفى عن الباريسيين أنهم لم يعودوا مجتمعاً متجانساً، خفي عن دارين ستار أن باريس لم تعد باريس النصف الأول من القرن العشرين.

لا يمكننا إذن الفكاك من التنميط شئنا أم أبينا، فالبشر يتشابهون لأسباب عضوية أو بيولوجية أو ثقافية. يذهب الفيلسوف سلافوي جيجك إلى أن هذا لا ينطبق فقط على التنميط بل على العنصرية أيضاً "أحياناً يمر الطريق لمعالجة العنصرية من خلالها، والمثال الأبرز على ذلك هو النكات ذات الطابع العنصري، ففي الحالة المثالية سترى شخصين يقولان نكتة عنصرية لكنهما يظلان صديقين بل تتوطد علاقتهما من خلال هذا التقبل، في حين لا تساهم الصوابية السياسية إلا في إضفاء قشرة من التأدب على المشاعر الحقيقية". ما يمكننا فعله إذن هو تطوير قدرة الأنماط على التفسير والتصالح مع كون البشر يجمعون بين التفرد الشخصي لكل إنسان على حدة وبين التشابه الجمعي للمجتمعات.

أثار المسلسل ضجة بين المشاهدين الفرنسيين، وأظهر الكثير من النقاد غضباًواضحاً من تنميط المسلسل السطحي للفرنسيين (Getty Images)
ظهر الفرنسيون في المسلسل بوصفهم مجتمعاً منغلقاً، وهو أمر لطالما عُرف عن ثقافة المجتمع الفرنسي (Getty Images)
تمكن الأمريكيون من رسم صورة عنصرية عن الفرنسيين، من خلال معاناة فتاة أمريكية في التأقلم مع مجتمعها الجديد (Getty Images)
TRT عربي