تابعنا
بين المعدة والصحة النفسية علاقةٌ وطيدة جداً، إذ تؤثر الأولى على الثانية بشكلٍ كبير. اكتشف العلاقة بينهما في هذا المقال.

قالت العرب قبل مئات السنين "المعدة بيتُ الداء". يفسّرها كثيرون بأنها دعوة للاهتمام بما يدخل المعدة من طعامٍ وشراب. ولكن يبدو أنّ للعلم الحديث تفسيراتٍ أخرى مثيرة للانتباه، لا سيّما وأنّ الكثير من الأبحاث التي نُشرت في الفترة الماضية وجدتْ أنّ ثمّة علاقة وطيدة بين المعدة والدماغ. ما يعني أنّ "الداء" الذي يمكن للمعدة أنْ تكون بيتاً له ليس جسديّاً وحسب، وإنّما نفسيّاً وعقليّاً.

فلا بدّ وأنّك أحسستَ مرةً بألمٍ في معدتك أثناء قلقك الشديد أو شعورك بالتوتّر والخوف من أمرٍ ما. أو قد تُصاب بحرقةٍ أو حموضة في لحظات غضبك وعصبيّتك. فما علاقة هذه العواطف والحالات النفسية بالمعدة؟ وهل هي علاقة ذات اتجاه واحد فقط؟ أي هل تؤثر الحالة النفسية على المعدة أم أنّ العكس يمكن أنْ يحدث أيضاً؟

بكتيريا المعدّة تؤثّر على الدماغ

في عالمَيْ الطب والنفس، هناك ما يُعرف باسم "محور الأمعاء-الدماغ" أو "gut brain axis" للإشارة إلى العلاقة الحيوية والكيميائية التي تحدث بين الجهاز الهضمي والجهاز العصبي المركزي. حيث يوجد في أمعائنا عددٌ هائل من البكتيريا والميكروبات المفيدة والتي يتجاوز عددها 100 تريليون وتُنتج بدورها ناقلات عصبية مثل السيروتونين والدوبامين وحمض الجاما، وجميعها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمزاج والصحة النفسية.

في واحدة من التجارب الحديثة، قام باحثون صينيّون بأخذ بضع عيّناتٍ من البكتيريا المعوية لبعض المصابين بالاكتئاب ومن ثمّ أعادوا زراعتها في أمعاء الفئران المختبرية لاحقًا، لاحظ الباحثون أنّ الفئران بدأت بالتصرف بشكلٍ مختلف عن طبيعتها، إذ أظهرت كسلاً وخمولاً وسرعةً في اليأس لم تُظهرها من قبل. وعندما وُضعت تلك الفئران في صندوقٍ فضّلت البقاء منطويةً على أنفسها بالقرب من زواياه، وهي سلوكيّات شبيهة بما يقوم به الشخص المكتئب؛ الكسل واليأس والميل إلى الوحدة والانطواء وفقدان الرغبة في القيام بأيّ نشاط أو تفاعل.

ومن المثير للدهشة أيضاً، أنّ إحدى التجارب الحديثة كشفت وجود ارتباطٍ بين ميكروبات الأمعاء ومرض الفصام. فحين زُرعت عينات من المصابين بالفصام في فئران التجارب، أظهرت تلك الفئران تغييراتٍ معينة في نشاط أدمغتها يُشبه إلى حدٍ ما التغير الحاصل في نشاط دماغ شخصٍ مصابٍ بالمرض.

كيف يمكننا فهم آلية عمل وتأثير تلك الميكروبات إذن؟

هناك تفسيران؛ الأوّل أنّ تلك الميكروبات تحمي جدار المعدة والأمعاء لمنع تسرّب محتوياتها إلى مجرى الدم. وفي حال حدث خلل في عملها، ستقوم المعدة بإفراز المواد المحفّزة للالتهابات والتي تؤدّي بدورها إلى الخمول والمزاج السيئ على المدى القصير، فيما تؤدي إلى الاكتئاب على المدى الطويل.

من جهةٍ أخرى، يخبرنا التفسير الثاني أن 90% من الناقل العصبي السيروتونين يُصنع في الجهاز الهضمي للجسم بمساعدة أحد أنواع البكتيريا، تُعرف باسم "بريفوتيلا Prevotella" وتوجد في الأمعاء. ما يعني أنّ أمعاءنا قادرة على إرسال إشارات لأدمغتنا تغيّر من نشاطها الكيميائي. كما تساهم تلك البكتيريا في إنتاج نسبة من النواقل العصبية الدوبامين وحمض الغاما، التي تؤثّر أيضاً على مزاجاتنا وحالاتنا الشعورية والعاطفية.

ربّما قد يُصبح واضحاً لك الآن سبب شعورك بالغثيان قبل امتحانك أو قبل تقديمك عرضاً أمام زملائك في العمل، أو شعورك بألم في بطنك في أوقات توتّرك أو شعورك بالجوع أثناء حزنك. ولا عجب أنْ يُطلق العلماء لقب "الدماغ الثاني" على المعدة.

في حديثه مع TRT عربي يؤكّد الطبيب النفسي همّام يحيى أنّ ثمة أدلة علمية متزايدة في الآونة الأخيرة تشير إلى أنّ الأمعاء تؤثر بشكل بالغ الأهمية على الدماغ ونشاطه وصحته. ويؤكّد في الوقت نفسه أنّ الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والفصام وغيرها هي ظواهر معقّدة تتداخل فيها عدة عوامل سيكولوجية وبيولوجية واجتماعية. وبالتالي، علينا أنْ نكون واعين أنّ المعدة ليست السبب الوحيد في الأمراض النفسية.

ولا يمكن معرفة ما إذا كان الاكتئاب واضطرابات المزاج تنتج، في بعض الحالات، عن خللٍ في المعدة أم أنّ المعدة مجرّد عاملٍ مساعد.

لكنّ هذا لا ينفي، بالنسبة ليحيى، إمكانية وجود العلاقة. ويُشير إلى أنّ هناك العديد من الدراسات التي أثبتت وجود علاقةٍ بين الأنماط الغذائية الصحية وبين نموّ منطقة الحُصين "hippocampus" في الدماغ. وهي مسؤولة عن المزاج والذاكرة. في حين أنّ الأنظمة الغذائية غير الصحية تؤدّي إلى ضمور هذه المنطقة وتؤثّر سلباً على عملها.

الطعام يعالِج اكتئابنا

حين وُجّه سؤال إلى خبيرة التغذية بشرى حرّوق عن دور النظام الغذائي الصحّي على نفسية الفرد، قالت إنّ الطعام لطالما اعتُبر عنصراً مهمّاً في الصحة النفسية للبشر؛ فمن جهة، هو يشكّل نشاطاً بشرياً تشاركياً لا يُمكن إهمال دوره على النفسية والمزاج. وهو يؤثّر أيضاً على ذكرياتنا التي تلعب دوراً في عواطفنا ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً.

كما أنّ اتّباع نظامٍ غذائيّ صحيّ، وفقاً لحرّوق، عوضاً عن أنه يساعد في تحسين الصحة الجسدية للشخص، فإنه يؤثّر على مزاجه ونفسيته ويحسّن منهما. وهذا ما يلاحظه الكثير من الأشخاص ويعترفون به. لكنها تتساءل إنْ كانت هذه الأبحاث العلمية ستجعل من الطعام طريقةً تُضاف يوماً إلى قائمة الطرق المتّبعة لعلاج الاكتئاب.

من جهةٍ ثانية، يوصي الكثير من الإرشادات والنصائح الطبية الحديثة بضرورة أخذ الحمية الغذائية بعين الاعتبار للتعامل مع الاكتئاب والقلق وغيرها من الاضطرابات النفسية. وهو ما أكّد عليه يحيى في مداخلته؛ أنّ هناك العديد من الأنظمة الغذائية الصحية التي تُسهم في التخفيف من أعراض الاكتئاب وغيره من الأمراض من خلال نشاط البكتيريا المتواجدة في الأمعاء، مثل حمية البحر المتوسط أو الأطعمة المتخمّرة كالألبان والمخللّات وغيرها.

وبالفعل، أثبتت العديد من الأبحاث أنّ النظام الغذائي المتّبع في دول البحر الأبيض المتوسط، والذي يحتوي بشكلٍ عامٍ على الحبوب الكاملة والخضار والفواكه والسّمك وزيت الزيتون واللحم الأحمر والأجبان ونسبة قليلة من السكريّات والدهون، يساهم في تنوّع بكتيريا الأمعاء ويحمي من التغيرات الفسيولوجية المرَضية مثل التهابات المعدة التي قد ترتبط بالاكتئاب والمزاج السيئ. في حين أنّ النظام الغذائي الغربي التقليدي الغنيّ بالدهون والسكريات يؤدّي إلى ارتفاع في نشاط الجهاز العصبيّ مما قد يؤدي للقلق والتوتر.

علاوةً على ذلك، تركّز بعض الأبحاث على أصنافٍ معيّنة من الطعام يُعتقد أنها تقوم بدورٍ مهمّ في الحدّ من أعراض الاكتئاب والقلق والحفاظ على الصحة النفسية والعقلية. منها الكربوهيدرات المعقدة الموجودة في الفاكهة والخضراوات والحبوب الكاملة، والأطعمة الغنية بفيتامين (ب) مثل الخضراوات والموز والبنجر. وهناك الأطعمة الغنّية ببكتيريا البريبيوتيك مثل الزبادي والجبن والمخللات وبعض أنواع التوابل اليابانية والكورية وغيرها من الأطعمة المخمّرة. وقد وجدت إحدى الدراسات أنّ هذه البكتيريا تؤثّر على نفس المسارات العصبية في الدماغ التي تؤثّر عليها الأدوية المضادّة للاكتئاب.

بالمحصلة، هناك فعلًا اتجاه متصاعد في الطبّ والعلاج النفسي بضرورة التركيز على الأنظمة الغذائية جنباً إلى جنب مع العلاجات النفسية والتمارين الرياضية والأنشطة الاجتماعية لتحسين الصحة النفسية. لا سيّما وأنّ مضادات الاكتئاب وحدها نادراً ما تكون ذات جدوى.

ثمة حقلٌ خاص يُعرف باسم "الطب النفسي الغذائي" يرى أنّ التدخل الغذائي قد يكون حلاً بديلاً وناجعاً للدواء في التعامل مع الحالات النفسية والمزاجية السلبية، كالقلق والتوتر والاكتئاب وغيرها. وبالنسبة للكثير من المختصين النفسيين اليوم، قد تكون الأمعاء الصحية خطوةً أولى ومهمة لعقلٍ أكثر صحة ونفسيةٍ أكثر إيجابية.

TRT عربي