تابعنا
بالإضافة إلى ظهور الطبقية، وتوسيع الشروخ بين الأغنياء والفقراء، واستغلال العمّال من أجل الربح، وارتفاع مستويات البطالة، تطرّق باحثون وعلماء وفلاسفة كثُر عبر العالم إلى التأثيرات الناتجة عن النظام الرأسمالي، اجتماعياً ونفسياً.

قال الكاتب والصحافي الأمريكي جون بيلامي فوستر مرّةً عن الرأسمالية: "ها نحن بعد أقلّ من عقدين على بداية القرن الحادي والعشرين، ويبدو لنا أن الرأسمالية قد فشلت كنظام اجتماعي، فالعالم غارق في الركود الاقتصادي، وأعظم معدّلات اللامساواة في تاريخ البشرية، وكلّ ذلك مصحوباً بالبطالة الهائلة والبطالة المقنّعة وبالأعمال غير المستقرّة، وبالفقر والجوع والحياة المهدورة، وقد وصلنا إلى ما يسمّونه في هذه المرحلة "دوامة الموت".

بيلامي فوستر لخّصَ فقط بعضاً من نتائج النظام الرأسمالي وآثاره السلبية على الإنسان. فبالإضافة إلى ظهور الطبقية، وتوسيع الشروخ بين الأغنياء والفقراء، واستغلال العمّال من أجل الربح، وارتفاع مستويات البطالة، تطرّق باحثون وعلماء وفلاسفة كثُر عبر العالم إلى التأثيرات الناتجة عن هذا النظام، والتي مسّت حياة الإنسان الاجتماعية والنفسية، وأدخلته في دوّامة الإنتاج والاستهلاك، وسلبته حقوقه وسعادته.

الرأسمالية أو عندما يبيع الإنسان حياته من أجل الخبز

يشتكي كثيرون من العمل الكثير المُلقى على عاتقهم في المؤسسات التي يشتغلون فيها، حيث يقبلُ البعض العملَ لساعاتٍ إضافية بدون تعويض، خوفاً من التعرّض للطرد، أو خشية اتهامهم بأنهم لا يقومون بعملهم على أكمل وجه، إن هم طالبوا بحقهم في التعويض. ويشتكي آخرون من ساعات العمل الطويلة التي لا تدَع لهم مجالاً للراحة وقضاء الوقت مع عائلاتهم، بل وحتى لقضاء أغراضهم الضرورية.

لوحة للفنان أدولف فون مينتسل تصوّر العمل في المصانع خلال القرن التاسع عشر (Wikipedia)

"إننا في نهاية المطاف نعملُ من أجل أن يدفعوا لنا أجوراً نعيش بها حتى نظلّ قادرين على الاستمرار في العمل فقط"، تقول سحَر، مهندسة معلوميات، مضيفة: "أحياناً يراودني شعورٌ أنني لم أستمتع بحياتي كما يجب، إنني أركض منذ زمنٍ طويل وراء ذلك الراتب الذي يختفي قبلَ نهاية الشهر، ولم أفعل بسبب هذا أيّ شيءٍ يسعدني بالفعل".

سحر ليست الوحيدة التي تشتكي مِن طبيعة العمل كما هو في ظلّ النظام الرأسمالي، فهذا الأخير أساسُه أسبقية العمل على الاستثمار في العلاقات الاجتماعية والإنسانية أو الإبداع في مجالات أخرى. كثيرٌ من الموظّفين اليوم لا يشعرون بالأمان في وظائفهم، ولا يمتلكون أيّ مزايا، ويشتغلون ساعاتٍ إضافية غير مدفوعة الأجر، بل إنهم يشعرون بالتهديد بفقدان وظائفهم في أيّ وقت، وبكلّ ما يمكن أن يترتب عن ذلك من عدم القدرة على التمتع بمستوىً معيشيّ لائق.

وقد يصل الضغط الذي يعاني منه الموظفون في العمل أو خوفهم من فقدان الوظيفة إلى مستوياتٍ كبيرة. ففي اليابان مثلاً ظهر ما يُسمّى بالـ"كاروشي" Karoshi وتعني "الموت من العمل" وهي ظاهرة الموت المفاجئ أو الانتحار بسبب العمل لفترات طويلة تحت ضغوطٍ كبيرة.

في كتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، تطرّق عالم الاجتماع ماكس فيبر إلى ظاهرة العمل في المجتمع الحديث معتبراً تشبّث الناس بعملهم ووظائفهم نتيجةً لتفكّك المعنى القديم للأخلاق التقليدية. ويشرح فيبر فكرته قائلاً: "في هذا العالم الذي لا يمكن استيعابه كلياً، وحيث لا وجود لقيمٍ مشتركة على المستوى العالمي، فإن معظم الناس تشبثوا بوظائفهم أو مهنهم، وتعاملوا مع العمل على أنه ديانة أو غاية مطلقة في حد ذاتها، لذا إذا كانت الأخلاق أو الروح الحديثة لها أساس مطلق ونهائي، فهو هذا العمل".

ميكانيكي يعمل بمضخة بخار، لويس هاين 1920 (Wikipedia)

ما الذي يخسره الإنسان إذن بسبب طبيعة العمل في العالم الرأسمالي؟

الاكتئاب.. هكذا صار الإنسان أكثر تعاسةً

"كنتُ أتعرّض لاستغلالٍ بشع في عملي السابق كصحافي، أعملُ كثيراً ولساعاتٍ طويلة. وأصبح العمل خارج ساعاتِ الدوام شيئاً طبيعياً واعتيادياً. الجميع كان يشتكي من هذا الاستغلال، لكنْ، لا أحد تجرأ على فتح فمه، لأنهم، طبعاً، يخافون فقدان وظيفتهم، ولأنهم كانوا يُذكَّرون دائماً أن هناك أشخاصاً مستعدين ليحلّوا محلّهم. أحياناً لم أكنْ أجد الوقت حتى لتناول غدائي أو دفع فواتيري، ومع ذلك لم يكن يجري تقدير عملي. بعد سنتين، شُخِّصتُ بالاكتئاب"، يحكي نجيب (30 عاماً) لـTRT عربي.

كثيراً ما يتحوّل مكان العمل في ظلّ النظام الرأسمالي إلى ساحة حرب تستهلك الموظفين، وتسرق منهم حياتهم، ما يجعلهم في كثيرٍ من الأحايين عُرضةً للاكتئاب أو الإصابة بأمراض نفسية أخرى. بل حتى الذين لا يعملون أو الذين يعانون من الفقر قد يصابون بالاكتئاب بسبب النظام نفسِه. يعزّز هذا الطرح الكاتب والفيلسوف البريطاني مارك فيشر الذي ربط بين الاكتئاب والرأسمالية في مقاله المعنون بـ"لا نصلح لأي شيء".

عمّال داخل مصنع خلال القرن التاسع عشر (Getty Images)

يشرَح فيشر: "يقوم النظام الرأسمالي على تحميل المسؤولية للأفراد وإقناعهم بأن فقرهم، أو قلة الفُرَص، أو البطالة هي خطأهم وخطأهم وحدهم، وبذلك يلوم الأفراد أنفسهم بدلاً من لوم الهياكل الاجتماعية.. إنه وجهٌ آخر للاكتئاب جاء من قناعةٍ زُرِعت في دواخلنا مفادُها أننا جميعاً مسؤولون عن بؤسنا، وبالتالي فإننا نستحقّه".

بدوره، لم يُغفِل إميل دوركايم في حديثه عن المجتمعات المعاصرة دور الرأسمالية في تعاسة الأفراد. ففي كتابه "الانتحار" الذي صدر عام 1897، لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي أن المجتمعات المعاصرة كلما انتعش اقتصادُها، ازداد أفرادها تعاسةً، وعزا هذا التناقض إلى النظام الرأسمالي الذي تبنّته دول الغرب، "فهذا النظام بتشجيعه اللامشروط للمبادرة الحرة وفتحه المجال أمام الجميع للارتقاء الطبقي يُحَمِّل المواطنين كامل المسؤولية إن هم فشلوا في حيواتهم ومشاريعهم".

عمالة الأطفال في ظل النظام الرأسمالي (Getty Images)

في يناير من العام 2020، قدّرت منظمة الصحة العالمية عدد المصابين بالاكتئاب عبر العالم بأكثر من 300 مليون شخص من جميع الأعمار، 800 ألف منهم يموتون جرّاء الانتحار. وقالت المنظمة إن من عانوا من أحداث حياتية صعبة، وأهمها البطالة والصدمات النفسية، هم الأكثر تعرّضاً للاكتئاب.

النساء.. الحلقة الأضعف والأكثر تضرراً

اعتمدت الرأسمالية منذ بداياتها على استغلال الحلقات الأضعف من المجتمع، فارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالاستعباد والعنصرية والتمييز على أساس الجنس. ومع بداية الثورة الصناعية، تعرّضت الطبقة البروليتارية لأبشع استغلال من طرف البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج. كان الهدفُ من ذلك الإبقاء على كُلفةِ الإنتاج منخفضة، وبالتالي ضمان هامش رِبح أكبر.

وإذا كانت الطبقة الكادحة قد تعرّضت لأبشع استغلال مع صعود النظام الرأسمالي (ضعف الأجور، كثرة ساعات العمل...)، فإنّ هذه الطبقة نفسَها كانت تخضع لتقسيماتٍ طبقية، فالنساء والأطفال داخل هذه الطبقة أقلّ شأناً من الرجال، بل لم يكُن من حقّ النساء الحصول على أجورهنّ لقاء عملهنّ، وكانت تُعطى أجورهنّ لأزواجهنّ بدلاً عنهنّ.

النساء العاملات خلال القرن التاسع عشر (Getty Images)

في كتابها "كاليبان والساحرة"، تطرّقت الكاتبة والأستاذة الجامعية الإيطالية سيلفيا فيديرتشي إلى تاريخ إخضاع النساء واستغلال المستعمرات واستعباد السود والسكان الأصليين كوسائل لتكريس وتقوية النظام الرأسمالي. وفي هذا السياق، تقول فيديريتشي: "أصبح النظام الرأسمالي مع الثورة الصناعية في حاجة إلى مزيد من العمّال، فبدأ بتشغيل النساء والأطفال أيضاً، لأنهم أرخص ثمناً من الرجال، وإذا كان العامل في السابق يبيع وقته وقوة عمله الخاصة، فقد أصبح يبيع زوجته وأطفاله أيضاً. لقد كانت للنظام الرأسمالي آثار وحشية ومهينة للنساء".

وفي كثيرٍ من بلدان العالم اليوم، لا تحصل النساء على أجور لقاء العمل المنزليّ. تفسّر فيديرتشي هذا بكون النظام الرأسمالي يدفعُ مقابل الإنتاج، "لذلك فعملُ النساء داخل البيت هو عملٌ بلا قيمة، لأنه عملٌ غير منتِج".

TRT عربي