تابعنا
في 27 مارس/آذار من عام 1948 وقعت معركة في الكابري، ما زال وقعها كبيراً على إسرائيل حتى اليوم، إذ نصبت القوات العربية كميناً لقافلة يهودية بالقرب من مقبرة قرية الكابري كانت في طريقها إلى مستوطنة يهودية.

"ما دمتُ حياً سأحاول حتى أصل إليكِ".. بصوت واثق يقولها الكندي من أصل فلسطيني خالد رشيد الناصر(76عاماً) وهو ينظر إلى خريطة بلاده في منزله بتورنتو أكبر مدن كندا.

يُمعِن النظر أكثر في الخريطة ويصعد ببصره إلى منطقة الجليل الأعلى بالداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، ليرى موطنه الأصلي، الكابري، القرية التابعة لقضاء عكا التي صمّم الناصر لها مخططاً ديمغرافياً يوضّح معالمها بالكامل.

قرية الكابري

تقع قرية الكابري في قضاء عكا عند سفوح الجليل الغربي، وترتفع ما بين 75 و85 متراً عن مستوى سطح البحر. تبلغ مساحة أراضيها 47 دونماً، واشتهرت بعذوبة وغزارة مياهها وخصوبة أراضيها.

يقول الناصر الذي وُلد في القرية عام 1947 إن "محاولات عصابات اليهود احتلال القرية بدأت في فبراير/شباط عام 1948، ارتقى فيها والدي بعد إطلاق النار عليه مباشرة، وأصيبت والدتي".

يكمل الناصر كلامه بغصة وهو يستذكر حديث والدته الراحلة حين روت له تفاصيل ما حدث في تلك الليلة.

في 27 مارس/آذار من عام 1948 وقعت معركة في الكابري، ما زال وقعها كبيراً على إسرائيل حتى اليوم، إذ نصبت القوات العربية كميناً لقافلة يهودية بالقرب من مقبرة قرية الكابري كانت في طريقها إلى مستوطنة يهودية.

ورغم أن قرية الكابري سقطت في النهاية بيد الاحتلال في 21 مايو/أيار عام 1948 بعملية سُميت "بن عامي"، فإنها واحدة من القرى القليلة التي لم يسكنها اليهود لاحقاً، وحولت السلطات الإسرائيلية جزءاً منها إلى مزار تاريخي لإحياء ذكرى اليهود الذين قُتلوا في تلك المعركة.

ويوضح الناصر لـTRT عربي أنه هُجِّر وهو أقل من عام برفقة والدته و5 من أشقائه إلى جنوب لبنان كأغلبية أهالي القرية الذين وصل عددهم في عام النكبة إلى 1700 نسمة، ثم من جنوب لبنان إلى بيروت حيث استقر وعائلته في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين.

استلهم الناصر فكرة توثيق كل هذه المعالم والأملاك والأراضي بخريطة للقرية لترسخ في عقول أبنائها اليوم وتبقى حية للأجيال القادمة. (TRT Arabi)

يستذكر الناصر الحياة الصعبة في المخيم إبان النكبة لسنوات قائلاً: "عشنا وعائلات كثيرة من الكابري وقرى مجاورة هُجرت من فلسطين داخل خيام لا تقي قسوة البرد ولا حر الصيف، إلى جانب انعدام المرافق الصحية والاعتماد على التموينات الشهرية التي كانت تقدمها وكالة الأونروا آنذاك".

وقد أنهى الناصر دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية في لبنان قبل أن ينتقل إلى مصر لدراسة الهندسة الميكانيكية.

ويضيف في حديثه لـTRT عربي: "لطالما حدثتني أمي وكبار السن في المخيم خلال سنوات طفولتي عن فلسطين وقرية الكابري وكل ما حدث بها من وقائع، حتى صرْت أرسم لوحات في خيالي تجسّد ما يقولون وكأني أمشي داخل القرية".

ويستذكر واقعة طريفة حدثت مع والدته بعدما أخبرته عن الأراضي التي يمتلكونها في الكابري وتحتفظ بوثائق تثبت ملكيتها، قائلاً: "سألتها مرة إن كانت أملاكنا في القرية توازي ملعب كرة قدم، فضحكت وطلبت من شقيقي الذي يكبرني بسنوات أن يجيبني، فأخبرني بأنه لا يستطيع تصوّر حجم الأراضي لأنها أكبر من ملعب كرة القدم بكثير".

مراحل العمل على مخطط الكابري

كانت قرية الكابري حاضرة دائماً في عقل الناصر الذي عمل لـ37 عاماً في مجال الإنشاءات البترولية والغازية متنقلاً بين دول عديدة.

وبين سنوات الغربة هذه قرر مُجبراً خوض غربة جديدة عن عائلته في لبنان، فهاجر عام 1995 إلى كندا خوفاً أن يعايش أطفاله الثلاثة معاناة شبيهة بما مرّ به، بسبب صعوبة العمل والتنقل لحاملي الوثائق الفلسطينية في لبنان.

ووفق إحصاء أجرته إدارة الإحصاء المركزي اللبنانية الحكومية عام 2017، يعيش 174 ألفاً و422 لاجئاً فلسطينياً في 12 مخيماً و156 تجمعاً في محافظات لبنان.

النسخة الأولى

في 2012 قرر الكندي من أصل فلسطيني خالد الناصر التقاعد بعد حادث تعرّض له ابنه الأصغر.

أما العمل على خريطة قرية الكابري فبدأ أواخر عام 2018 بعدما أخبر شقيقته التي تعيش في أمريكا برغبته في زيارة فلسطين المحتلة وقريبة الكابري خاصة.

يقول الناصر لـTRT عربي: "عاشت أختي الأكبر مني بأعوام في الكابري، وما إن علمت بأني أنوي الذهاب حتى بدأت وزوجها بتزويدي بمعلومات عن أملاكنا هناك وعن أبرز معالم القرية".

فلسطيني سبعيني يصمّم مخططاً ديموغرافياً لقريته المحتلة (TRT Arabi)

استلهم الناصر فكرة توثيق كل هذه المعالم والأملاك والأراضي بخريطة للقرية لترسخ في عقول أبنائها اليوم وتبقى حية للأجيال القادمة.

يضيف الناصر لـTRT عربي: "بدأت البحث والتعمق أكثر حول قرية الكابري. قرأت لمؤرخين وكتاب تحدثوا عن القرية وما حلّ بها، واطلعت على خرائط تاريخية ثم على خرائط غوغل دون التوقف عن تأريخ كل ما تزودني به شقيقتي وزوجها من معلومات".

واصل الناصر العمل على النسخة الأولى من المخطط بالحديث مع كبار السن الذين عاشوا في القرية لسنوات قبل النكبة، فمنهم من يوجد في لبنان حتى اليوم ومنهم من هاجر إلى كندا وأمريكا ودول أخرى.

لم يكن إتمام النسخة الأولى من المخطط أمراً سهلاً، لا سيما أنها تشمل أملاكاً ومعالم لعائلات كثيرة تعيش في الشتات.

النسخة الثانية

أطلق الناصر النسخة الأولى من المخطط في شهر فبراير/شباط عام 2023 وأرسلها إلى معظم أهالي القرية بهدف تزويده بأي تعديلات واجبة.

ويقول: "كنت أعرف أنه ستصل إليَّ إضافات وتعديلات، وانتظرت حتى أتممتها بالكامل قبل أن أجهّز النسخة الثانية من الخريطة".

ويهدف الناصر إلى تجسيد هذا المخطط الديمغرافي بزيارته لقرية الكابري التي يسعى إليها منذ سنوات.

وفي عام 2018 خطط لرحلة السفر بكاملها بداية 2019، لكن قبل موعد الرحلة بـ5 أيام انتشرت جائحة كورونا التي تسببت بإغلاق معظم مطارات العالم.

ويقول إنه سعى مجدداً للسفر إلى الكابري في بداية 2023، إلا أن الحكومة اليمينية الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو صعّبت الأمر أكثر، لا سيما مع المظاهرات المتواصلة واعتداءات المستوطنين التي لا تنتهي، ما اضطر الناصر إلى إلغاء الرحلة للمرة الثانية.

ويأمل الناصر الحفاظ على زراعة خضار وفاكهة كانت تشتهر في قريته الكابري بحديقة منزله بتورنتو (TRT Arabi)

يأمل الناصر الحفاظ على زراعة خضار وفاكهة كانت تشتهر في قريته الكابري بحديقة منزله بتورنتو، مشيراً إلى أنه يزرع "الهندباء، والملوخية، والنعناع، والخبيزة، والزعتر، والباذنجان، والخيار، والطماطم" للحفاظ على أصله باعتباره ابن فلاح.

ويستكمل: "الزراعة تحيي بي الأمل في عودةٍ إلى قريتي لأمارس الزراعة بحق على أرضي في بلدتي عاجلاً في حياتي أو آجلاً للأولاد والأحفاد".

ويتابع: "آمل بهذا المخطط الديمغرافي أن أكون قد أنجزت ولو القليل للجيل الحالي والقادم حتى لا تصبح القرية والقضية الفلسطينية في عالم النسيان.. من المؤكد أنني سأزور الكابري وترشيحا (قرية مجاورة) إن كان في العمر بقية".

ويختتم الناصر الذي يهوى كتابة الشعر ويسعى لنشره قريباً حديثه لـTRT عربي بأبيات شعرية تحاكي واقع قريته قائلاً:

أضأنا بدم الشــــباب الملاح دروب النضال ورمز الحجر

وكم عصفت في حمانا الرياح فدمنا وصارت طعام الحفر

بلادي عروس السما والبطاح لقد فاق مهرك كل الدرر

TRT عربي