تابعنا
بدأت العديد من عيادات الخصوبة في أوكرانيا تقديم خدمة تجميد النطف مجاناً للجنود، كما انتشرت هذه القضية على نطاق واسع حتى وصلت إلى البرلمان الذي يناقش مشروع قانون يسمح للجنود بتجميد النطف على نفقة الدولة.

كان لدى الزوجين الأوكرانيين "ناتاليا" و"فيتالي" حلمٌ بإنشاء عائلة كبيرة وإنجاب خمسة أطفال قُبيل اندلاع الحرب، لكن الزوج "فيتالي" المنحدر من مدينة سلوفيانسك، شرقي أوكرانيا، توفي في ساحة المعركة عندما كانت زوجته حاملاً في شهرها الثالث بطفلهما الأول، وفق ما نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" عن قصة الزوجين اللذين اختارا أن يجمد " فيتالي" نُطفه قبل أن يعود إلى جبهات القتال مرة أخرى.

لم تتخلَّ "ناتاليا" عن حلمها وزوجها، والآن ورغم أنها لا تزال في حالة حداد، تنوي استخدام النُّطف لإنجاب إخوة لابنها البِكر.

قصة "ناتاليا" ألهمت العديد من الجنود وزوجاتهم لمنح أنفسهم خيار تكوين أسرة، بغض النظر عن ما سيحدث في ساحة المعركة، إذ استخدمت صفحتها على منصة "فيسبوك" للحديث عن تجربتها قائلةً، "التقدّم في عالمنا الآن يسمح لنا بالإنجاب وتربية أطفال أحبائنا المتوفَّين، الأكثر شجاعة في العالم، الذين سقطوا في المعارك". مضيفة ، "ربُّوهم على أن يكونوا جديرين بفخر آبائهم، وأن يكنّوا الحب نفسه لأوكرانيا، وأن يُمنحوا فرصة العيش في البلد الذي ضحّى آباؤهم بدمائهم من أجلها".

واستلهاماً من تلك القصة، عمد العديد من الجنود الأوكرانيين إلى تجميد نطفهم محاولة للحفاظ على سلالاتهم الأوكرانية في وجه الرواية الروسية التي تعتبر انفصال الدولة الأوكرانية وشعبها عن روسيا "محض خيال"، مما يُعطي الحفاظ على النطف طابعاً وطنيّاً بالنسبة إلى الشعب الأوكراني.

وانطلاقاً من ذلك، بدأت العديد من عيادات الخصوبة في أوكرانيا تقديم خدمة تجميد النطف مجاناً للجنود، كما انتشرت هذه القضية على نطاق واسع حتى وصلت إلى البرلمان الذي يناقش مشروع قانون يسمح للجنود بتجميد النطف على نفقة الدولة.

حلم الإنجاب لم يحطم تماماً

وفق ما قالته المتحدثة باسم عيادة الخصوبة "IVMED" في العاصمة الأوكرانية كييف، ناتاليا تولوب، فإن عيادتها تُجمّد النطف لنحو عشرة جنود أسبوعياً، من بينهم الشاب "يهور" (31 عاماً) الذي أمضى مع شريكته، "سفيتلانا" (25 عاماً)، بضعة أشهر فقط عندما اتخذا القرار، إذ يشعر الآن بعد عودته إلى المعركة بعد استراحة قصيرة بأنه "أكثر هدوءاً وأقل خوفاً من المرة الأولى التي ذهب فيها".

وعن السبب الذي دفع الشاب إلى تجميد نطفه، تكمن الرغبة بعدم تناقص عدد الأوكرانيين الوطنيين، "فهم الأشخاص الذين سيدافعون ويطورون من بلدنا ويبنونها لاحقاً"، حسب قوله.

وحول عدد الرجال الأوكرانيين الذين اتخذوا هذه الخطوة فمن الصعب إعطاء رقم دقيق، لكنه حسب الطبيب ورئيس الجمعية الأوكرانية للطب التناسلي، أولكسندر ميخايلوفيتش يوزكو، فإن الطلبات ارتفعت في العيادات في جميع أنحاء أوكرانيا.

وتوقّع الطبيب أن يجري استخدام النُّطف ليس فقط من قبل الأرامل، ولكن أيضاً من قبل النساء اللواتي يعاني أزواجهن من إصابات جسدية أو عقلية تجعلهم عاجزين عن الإنجاب.

الأصداء في روسيا

اتخاذ الأوكرانيين خطوة تجميد نطفهم، واستمرارية الإنجاب رغم الحرب، أزعجت الروس، إذ أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن هذه الفكرة وصلت أصداؤها إلى روسيا حيث أفادت المراسلة المقربة من "الكرملين"، أولغا سكابيفا، عبر التلفزيون الحكومي بأن تجميد الجنود لنطفهم هو بمثابة "تجارب جينية لبناء أمة".

وحذّرت سكابيفا من أن هذه النُّطف سيجري إجراء تجارب عليها لإنتاج جيل لديه "فوبيا من الروس" (Russophobia) قائلةً، "بمساعدة الانتقاء الاصطناعي، سيجري تربية جيش كامل من الأوكرانيين المُختارين بمستوى متزايد من الكره تجاه روسيا".

ورغم هذه التصريحات، فإن روسيا لم تكن بعيدة أيضاً عن التفكير بمآلات هذه الحرب على الشبان وزوجاتهم، بخاصة بعد فرار العديد منهم بعد قرار التعبئة الذي أصدره بوتين سبتمبر/أيلول الماضي.

وسبق لوزارة الصحة الروسية أن استجابت لمطالب توفير خدمة تجميد النطف مجاناً، إضافةً إلى تغييرات في نظام التأمين الصحي الإجباري.

ونقلت وكالة الأنباء الروسية الرسمية "تاس" في ديسبمر/كانون الأول الماضي عن رئيس اتحاد المحامين في روسيا، إيغور ترونوف، أن الوزارة استجابت لمناشدته لتوفير الخدمة مجاناً، وأن عائلات أولئك الذين اسُتدعوا للخدمة العسكرية، كجزء من التعبئة الجزئية، ستحصل على إمكانية الوصول المجاني إلى علاج الخصوبة وتخزين الحيوانات المنوية في بنك التجميد.

وأكدت الوزارة أن هناك إمكانية لتخصيص دعم مالي من الموازنة الفيدرالية لصالح الحفظ والتخزين المجاني للسائل المنوي الخاص بالمواطنين الذين يشاركون في "العملية العسكرية الخاصة" في الفترة من 2022 إلى 2024.

شكل من أشكال المقاومة

تشكل عملية الإنجاب في الظروف الخاصة كالحرب والاحتلال واحدة من أبرز القضايا الملحة التي تشغل الإنسان، إذ يكتسي الإنجاب طابعاً وطنياً أيديولوجياً يرتبط بغريزة المقاومة ورد الاعتداء.

عربياً، تعتبر قصص تهريب النطف إلى الأسرى الفلسطينيين من سجون إسرائيل واحدة من أبرز أشكال المقاومة الوطنية ضد الاحتلال.

ظهرت الفكرة في بداية الألفية من قبل أولئك الأسرى الذي تلقوا أحكاماً بالحبس المؤبد أو لفترات طويلة في السجون الإسرائيلية. ساهم التقدم الطبي الذي أتاح نجاح عملية زراعة النطف في الأرحام بعملية خارجية، والفتاوى الشرعية التي أباحت إجراء العملية في إكساب هذا النوع من المقاومة زخماً كبيراً.

ونجحت أول عملية تهريب نطفة للأسير الفلسطيني عمار الزبن المحكوم بالمؤبَّد، وهو أول أسير هرّب النطفة لتنجب بعدها زوجته في 13 أغسطس/آب 2012 وهو داخل السجن.

اقتصاد النسل

على صعيد متصل، وخلال حربي العراق وأفغانستان، قدّمت العديد من الشركات التي تعمل على الحفظ بالتبريد الخدمة مجاناً للقوات الأمريكية.

كما طالبت زوجات الجنود البريطانيين بتجميد الحيوانات المنوية لأزواجهن قبل إرسالهم إلى أفغانستان والعراق حتى يظل بإمكانهن الإنجاب إذا قُتل أحباؤهن أثناء القتال.

وأصبح هناك منظمات غير ربحية متخصصة في قضية استمرار إنجاب الأطفال للجنود والعسكريين عبر وسائل عدة منها حفظ السائل المنوي، مثل منظمة "تحالف بناء الأسرة العسكري" الأمريكية (Military Family Building Coalition) و"مؤسسة عملية الطفل" (The Operation Baby Foundation) وغيرها.

وتجري عملية الحفاظ على النطف عبر آلية تُسمى بـ"الحفظ بالتبريد" (Sperm cryopreservation) يجري خلالها "تجميد النطف" (Sperm Freezing) في "بنك النطف" (Sperm Banking) إذ توضع العينات من الذكر في قوارير صغيرة داخل مجمدات التخزين التي تحتوي على النيتروجين السائل في درجة حرارة تبلغ 196 درجة مئوية تحت الصفر.

وتتضمن عملية التجميد عدة خطوات، إذ يخضع الذكر لفحص الأمراض المعدية للتأكد من عدم وجود أمراض منقولة جنسياً، وعادةً ما تجري عبر فحص دم بسيط، ثم يُقدم عينة من السائل المنوي يجري الحصول عليها إما في العيادة أو في المنزل وتُسلّم إلى المختبر في غضون 24 ساعة.

ويمكن إذابة النطف واستخدامها في المستقبل لإجراءات مثل التلقيح داخل الرحم (IUI) أو الإخصاب في المختبر (IVF)، وغالباً ما يلجأ الأزواج إلى هذه الخطة للتأمين ضد مشاكل العقم المحتملة أو وفاة الزوج.

TRT عربي