بداية مراسم تشييع جنازة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة بحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس (الأناضول) (Others)
تابعنا

إنّ تعبير "أشعر بألمك" هو أكثر بكثير من مجرد تعبير عن الكلام، ففي دراسة حديثة خضعت فيها ست عشرة متطوعة لمسح للدماغ أثناء تعرُّضهن لصدمات كهربائية مؤلمة في أيديهن لوحظ نشاط مراكز الألم في الدماغ لديهنّ، ومن ثمّ تمّت الإشارة إليهنّ بأنّ أزواجهن قد تعرضوا لصدمات مماثلة ولوحظ عندها تنشيط مراكز الألم نفسها في أدمغتهنّ وإن كان بدرجة أقلّ.

في مقابل هذا المثال قد نشعر بالتعاطف مع أشخاص آخرين دون أن نشعر بألمهم وهذا يقودنا إلى التعرّف على أهم نوعين للتعاطف: التعاطف العاطفي والتعاطف المعرفي.

التعاطف العاطفي والتعاطف المعرفي

يكشف النوعان المختلفان من التعاطف عن الطرق التي يمكننا من خلالها التواصل مع الآخرين بالرغم من وجود اختلافات عميقة بينهما، ففي التعاطف العاطفي وحسب باحثي علماء النفس الاجتماعي أمثال هودجز ومايرز فإنّه يختلج المرء مشاعر الآخر، وذلك لأنّه يتقمص حالته العاطفية ما يجعله قادراً على التألم والشعور بالضيق، وعادةً ما يرتبط بالمرور بتجربة مشابهة سابقاً ما يجعل مشاعر التعاطف أكثر حدّة ويفتح الباب للرغبة في المساعدة وتقديم العون.

في المقابل فإنّ الشخص الذي يتعاطف مع الآخرين معرفيًّا يتبنى منظور الآخر ويحاول تصور نفسه مكانه، ليصل إلى مرحلة فهم مشاعره واستيعاب تجربته بشكل أفضل ولكن دون انتقال للمشاعر بحدّ ذاتها، فهو أقرب ما يكون إلى مهارة أو قدرة معرفية على غرار القدرة على تخيل السيناريوهات المستقبلية أو حلّ المشكلات بناءً على الخبرة السابقة.

لتوضيح الفرق من الممكن أخذ مثال بسيط، فلنقل إنّ أحد الأصدقاء لم يحصل على وظيفة كان يحلم بها، فإنّه وعندما نمارس التعاطف المعرفي سنكون قادرين على فهم سبب شعوره بالحزن أو الإحباط وذلك بالاعتماد على تخيلنا لما قد يكون عليه الأمر في تلك اللحظة، بالنظر إلى الموقف من وجهة نظر هذا الصديق، وقد يكون من السهل علينا الحفاظ على مسافة من مشاعره لأننا نستطيع رؤية الصورة الكبيرة والتي تعتمد على أهلية هذا الصديق لإيجاد وظيفة أخرى قريباً.

في المقابل ولنقل إنّ هذا الصديق قد بدأ بالبكاء فإنّه من الممكن أن ينتقل تأثير بكائهم علينا وتتسلل مشاعر الحزن لدينا، وهكذا فإننا نكون قد انتقلنا من المنظور المعرفي إلى تجربة عاطفية مشتركة، ومن المرجح أنّنا إن وجدنا سهولةً في ممارسة التعاطف العاطفي فإنّه سيجري تحفيزنا لتقديم المساعدة.

سيكولوجية التعاطف

وجدت الأبحاث أن القدرة على ممارسة التعاطف تتأثر بالوراثة مع وجود أفضلية للإناث عموماً في القدرة على التقاط الإشارات العاطفية وتمييز المشاعر بدقة أكثر من الذكور، وفي حين يرى بعض الباحثين أن الجينات تلعب الدور الأساسي، يعتقد آخرون أنّ للعوامل والظروف البيئية دوراً لا يمكن إهماله في تطوير التعاطف.

بصورة أدقّ فإنّ الأبحاث تشير إلى وجود مكونات بيولوجية عصبية في الدماغ يطلق عليها اسم الخلايا العصبية المرآتية (MNS) والتي تلعب دوراً في التقاط مشاعر الآخرين وتقليد الاستجابات العاطفية التي قد يشعر بها الآخرون. كما أشارت أبحاث أخرى إلى أنّ منطقة من الدماغ تُعرف باسم التلفيف الجبهي السفلي (IFG) قد تساهم كذلك في تجربة التعاطف، وكان الدليل على ذلك أنّ الأشخاص الذين أصيبوا بأضرار في هذه المنطقة غالباً ما يجدون صعوبةً في التعرف على مشاعر الآخرين من خلال تعابير الوجه.

من ناحية أخرى فقد اقترح عالم الاجتماع هربرت سبنسر أنّ التعاطف يخدم وظيفة تكيّفية ويساعد في بقاء النوع الإنساني؛ فالبشر بطبعهم مخلوقات اجتماعية والتعاطف العاطفي على وجه التحديد يؤدّي إلى مساعدة الآخرين، ما ينعكس إيجاباً على العلاقات الاجتماعية ككلّ، وتعدّ صفات الإيثار والبطولة من أمثلة السلوكيات الاجتماعية الناتجة عن هذا التعاطف.

من الجدير بالذكر أن الخلفية الثقافية تشكّل عاملاً آخر في البحث عن سيكولوجية التعاطف وذلك بالاعتماد على الدلائل المتراكمة في تفسير الذات والعلاقات الشخصية، إذْ تظهر هذه الدلائل في الدراسات التي يتمّ فيها المقارنة بين أفراد من أمريكا أو أوروبا وأفراد من شرق آسيا، حيث يجري في المجمل تعريف الذات في السياقات الثقافية الغربية ككيان مستقل، يجري تحديده في المقام الأول من خلال السمات الداخلية مثل التفضيلات والرغبات، وعلى النقيض من ذلك فإنّه يجري تعريف الفرد في السياقات الثقافية الشرقية ككيان مرتبط بالآخرين يُحدد من خلال مكانته ضمن المجتمع الخاص به، وبالتالي فمن المتوقع أن تؤدي درجات التداخل المتفاوتة بين الذات والآخرين إلى تشكيل استجابات عاطفية ومعرفية مختلفة إلى جانب تفاوت مستوى الدقة في قراءة آلام الآخرين.

كلنا تعاطفنا مع عائلة وأحبة شيرين أبو عاقلة

بالاعتماد على ما سبق نستطيع أن نضع تفسيراً منطقياً لحجم التعاطف الكبير والألم الذي شعر به الملايين بشكل لم يكن في المتوقع على الإطلاق، والذي أشعله خبر اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية.

تنوعت استجابة الكثيرين بين تعاطف معرفي أو عاطفي أو كليهما، كلّ حسب تجاربه الخاصة، فمن كان فقد عزيزاً بموقف مشابه وباختلاف الظروف والأزمان أشعل اغتيال شيرين هذه المشاعر من جديد لديه، وإذا أردت هنا تخصيص الحديث عن تأثّر جيل الثمانينيات والتسعينيات وهو الجيل الذي كبر في وقت كانت القنوات الإخبارية التلفزيونية هي البوابة الوحيدة على أخبار العالم من حوله، وكانت شيرين جزءاً لا يتجزأ من ذاكرته وارتبطت بطفولته وحملها معه أينما حلّ، ما جعل الكثير من أبناء هذا الجيل يشعر وكأنّ جزءاً منه قد جرى اغتياله، فقد كان صوت شيرين حفر مكانه في عقول هذا الجيل.

تعاطفنا مع شيرين لأنّنا نتعاطف بشكل أكبر مع من يشبهوننا في العِرق أو الدين أو اللغة أو من تجمعنا بهم أيّ عوامل مشتركة أخرى، وذلك بسبب سهولة فهمنا وإدراكنا للألم الذي قد يشعر به شخص يشبهنا، ويقودنا هذا إلى سؤال مهم: هل من الممكن تعلّم التعاطف؟ هل كان بإمكان من لم يعرف شيرين أن يتعاطف معها ومع عائلتها وأحبتها؟

في الحقيقة يمكن أن يتعزّز التعاطف خلال فترة الحياة أو ينخفض، فعلى سبيل المثال أشارت إحدى الدراسات والتي جرى إجراؤها على طلاب في جامعات أمريكية إلى انخفاضٍ في مستوى التعاطف بنسبة 40% وذلك بالاعتماد على البيانات التي جرى جمعها بين عامي 1979-2009م، وبناءً عليه ينصح الاختصاصيون بالعديد من الممارسات اليومية التي من شأنها تعزيز التعاطف لدينا مثل تعلم مهارة الاستماع إلى لآخرين دون مقاطعة حتى عند الاختلاف معهم والتركيز على لغة الجسد وغيرها من أنواع التواصل غير اللفظية، ومن الجيد أيضاً طرح الأسئلة على الآخرين لمعرفة المزيد عنهم وعن حياتهم ومحاولة تقمص حالتهم، وبالرغم من أنّ هذه الممارسات قد تقود إلى التعاطف المعرفي والذي هو، وفقاً للطبيب النفسي والكاتب البريطاني بول جيلبرت، لا يعني بالضرورة "الخير" ولا يتضمنّ أيّة إشارة للاهتمام بالشخص الآخر، وقد لا يساهم في تشكيل حافزٍ لتقديم المساعدة والعون للآخرين إلّا أنّه لا يجب الاستهانة به، فقد يقود التعاطف المعرفي إلى التعاطف العاطفي في المحصلة.



TRT عربي