تابعنا
في وقت اختفت فيه أزمة اللاجئين على الحدود البولندية-البيلاروسية من عناوين الأخبار واهتمام الرأي العام في أوروبا، ما زال اللاجئون يتعرّضون للعنف والتنكيل من السلطات الحدودية البولندية، التي تحاول تجريم المبادرات الساعية لمساعدة وإنقاذ حياة اللاجئين.

بدأت دور السينما الألمانية في الأسابيع الماضية بعرض الفيلم البولندي "الحدود الخضراء" (Green Border) الذي يعد من أشهر الأفلام التي أخرجها قطاع صناعة السينما البولندية في العام الماضي.

الفيلم الذي أخرجته أغنيشكا هولاند (Agnieszka Holland) وهي واحدة من أفضل صُنّاع الفن السابع في بولندا، يسرد قصة عائلة سورية تحاول عبور الحدود بين بيلاروسيا وبولندا من أجل الوصول أخيراً إلى السويد، حيث يقيم أقارب العائلة.

ولم تكتفِ المخرجة -التي تعرّضت في العام الماضي إلى تهديدات بسبب الفيلم- فقط بإخراج فيلم يحرك مشاعر كل من يشاهده ولا بمقارعة السلطات البولندية، بل نجحت قبل كل شيء في تسليط الضوء على قضية اختفت في الآونة الأخيرة من افتتاحيات الأخبار واهتمامات الرأي العام في أوروبا، وهي ممارسات التنكيل والعنف التي يتعرض إليه لاجئون يخاطرون بعبور غابات شمال شرق أوروبا سيئة السمعة وقطع الحدود بين بيلاروسيا وبولندا من أجل الوصول إلى أراضي الاتحاد الأوروبي.

ورغم أن الإرث العائلي لهذه المخرجة يحصّنها ضد انتقادات اليمين واليمين المتطرف في أوروبا، فإن الهجمة التي تعرضت لها كانت كبيرة، لدرجة أن السلطات البولندية وفرت لها في العام الماضي حراسة خاصة، فهي حفيدة ناجين من مذبحة الهولوكوست، وابنة سيدة يهودية شاركت في انتفاضة وارسو ضد النازيين الألمان في عام 1944.

هذا الفيلم يصور واقعاً اعتدنا مراقبته في الأعوام الماضية؛ لاجئون معظمهم من الشرق الأوسط، يُتركون لمصيرهم في غابات متوحشة وحرس حدود بولندية، لا يتوانون لحظة واحدة في استخدام جميع ممارسات التنكيل لمنعهم من عبور الحدود الأوروبية، وعلى الطرف الآخر حرس حدود بيلاروسيون يدفعون اللاجئين بالهراوات في اتجاه الحدود مع "الأعداء" في بولندا.

وبينما ردت بيلاروسيا عام 2021 على العقوبات الأوروبية بتنظيم رحلات ممنهجة للاجئين من الشرق الأوسط نحو حدود بولندا وليتوانيا ولاتفيا، ردّت الدول الثلاث على ذلك -ولا سيما بولندا- بفرض "حالة الطوارئ" على الحدود، معتبرة أن موجات اللجوء "خطراً هجيناً"، وتواظب حتى يومنا هذا على استخدام العنف المفرط من أجل إرجاع اللاجئين إلى الأراضي البيلاروسية.

تقنين عمليات الإرجاع

واستجابة لتقنين هذا العنف المفرط وما يعرف بسياسة الإرجاع أو (Push-backs) أجرت بولندا في أكتوبر/تشرين الأول 2023 تعديلاً على قوانينها، يسمح بإعادة جميع الأشخاص الذين يدخلون أراضيها من دون النظر في طلب الحماية المقدم من هؤلاء الأشخاص، الأمر الذي سبقته إليها ليتوانيا في أغسطس/آب في العام ذاته.

وتصف المبادرة البولندية المختصة في مساعدة اللاجئين غروبا غرانيشا (Grupa Granica) هذه الممارسات بأنها ببساطة "محظورة في القانون الدولي وتعرض حياة البشر للخطر".

ويقول المتحدث باسم المبادرة بارتك رومينشيك إن إعادة الأشخاص (اللاجئين) إلى بيلاروسيا "أمر غير مقبول بتاتاً، ويمثل تهديداً مباشراً على حياة الناس".

ويضيف رومينشيك لـTRT عربي أن المبادرة تعرب عن أسفها "لأن الحكومة التي توصف بأنها ليبرالية ومؤيدة للاتحاد الأوروبي تواصل بقوة سياسة حكومات محافظة سابقة".

ووفق شهادات أدلى بها لاجئون لمبادرة غروبا غرانيشا، فإن عام 2023 كان عاماً عنيفاً بامتياز على الحدود البولندية-البيلاروسية رغم اختفاء هذه الممارسات عن أنظار الإعلام الأوروبي والرأي العام.

وطالبت المبادرة الحكومة البولندية الجديدة بوقف جميع عمليات الإرجاع ومحاسبة المسؤولين عن العنف الذي يرتكبونه بحق اللاجئين وتفكيك الأسلاك الشائكة وبدء نقاش حول تفكيك السياج الحدودي، وكذلك انتهاج سياسة هجرة تضع في مقدمة أولوياتها أمن اللاجئين وليس بناء الجدران العالية.

الغابات.. مقبرة اللاجئين

وتحذر المبادرة البولندية -قبل كل شيء- من مغبة إرجاع اللاجئين إلى بيلاروسيا التي يتعمد حرس حدودها إلى دفعهم إلى غابات متوحشة، الأمر الذي يهدد حياتهم بشكل مباشر.

ويؤكد المتحدث باسم المبادرة أنه سُجلت 57 حالة وفاة في عام 2023 فقط، مشيراً إلى تلقي المبادرة 7583 مكالمة استغاثة وتوصيل مساعدات إلى 3366 شخصاً، علماً أن الإعلام البولندي يتحدث عن 300 حالة وفاة منذ عام 2021.

وعن الأعداد الدقيقة للاجئين الذين يعبرون الحدود، يوضح رومينشيك أن الدولة البولندية "ليست معنية بتقديم أرقام دقيقة، لأنها تصب تركيزها على إعادة الأشخاص إلى بيلاروسيا في كثير من الأحيان، من دون التحقق من الوثائق أو الهوية أو جمع أي بيانات، ناهيك عن التحقق من الحالة الصحية أو الاستجابة للاحتياجات الأساسية"، مضيفاً أن البيانات التي تقدمها السلطات البولندية "لا يمكن الوثوق بها".

وانتقد رومينشيك حالة الطوارئ التي فرضتها بولندا في المنطقة الحدودية، قائلاً إن هذه القوانين تمنع المنظمات غير الحكومية والصحفيين من دخول ما يعرف بـ"منطقة الأزمة" وتقضي بإقامة جدار حدودي يبلغ ارتفاعه 5 أمتار، وتعلوه أسلاك شائكة مملوءة بأجهزة عالية التقنية مثل أجهزة استشعار الحركة.

ووفق مبادرة غروبا غرانيشا، فإنها لا تبالغ عندما تصف الغابات على الحدود البيلاروسية-البولندية بأنها "غابات مقابر" على غرار وصف البحر الأبيض المتوسط أيضاً بـ"مقبرة اللاجئين".

وتؤكد المبادرة أن الهجرة "ظاهرة طبيعية، ولا ينبغي اعتبارها تهديداً"، وأن جميع الناس "لهم الحق في البحث عن ملجأ ومكان للعيش بأمان وكرامة"، مطالبة دول الاتحاد الأوروبي -الذي يفعل العكس، حسب المبادرةـ بتوفير ذلك وتأمين هذا الحق الأساسي، وبالتوقف عن إنفاق الأموال الطائلة على عسكرة الحدود وبناء الجدران، الأمر الذي يعرض حياة الناس للخطر.

تجريم المساعدات للاجئين

وحول مواظبة المحاكم البولندية على تجريم النشطاء والمنظمات التي تحاول تقديم المساعدات للاجئين، يقول المتحدث باسم المبادرة البولندية إن عملهم "تأثر بسياسة تجريم المساعدات الإنسانية"، مؤكداً أن "السلطات البولندية رفعت قضايا عدة ضد موظفيها ونشطائها، بما في ذلك اتهامات بتهريب اللاجئين".

وعن احتمالية تغيير الحكومة البولندية الجديدة سياستها إزاء الأزمة على الحدود مع بيلاروسيا، يرى رومينشيك أن حكومة دونالد توسك "تواصل سياسة الحكومات السابقة"، موضحاً أن أمن الحدود ومواصلة إرجاع اللاجئين أمر "له أهمية قصوى" للحكومة الجديدة، رغم أن جميع هذه الممارسات والسياسات غير قانونية.

وبينما تستمر الحكومة البولندية في تنفيذ سياستها بعيداً عن أنظار الإعلام واهتمام الرأي العام الذي تعوّد رؤية صور تصله من "الغابات-المقابر" بين الحين والآخر، وتواصل منظمات ومبادرات إنسانية عملها على هذه الحدود، يستمر تدفق اللاجئين الباحثين عن الأمن والأمان.

TRT عربي
الأكثر تداولاً