قوارب الصيد في صيدا (TRT Arabi)
تابعنا

أربعون عاماً قضت، اختلفت الوجوه التي قصدت هذا المصنع، لكن الصانع بقي على حاله يصنع أشهر القوارب الخشبية التي يذيع صيتها ويقصدها البحارة من مدينة طرابلس شمالي لبنان إلى رأس الناقورة جنوباً.

مهنة تغمست بالحب والشغف

"مهنة جميلة جداً أعمل بها من كل قلبي وأعطيها كل ما تحتاجه ولا أبخل عليها أبداً"، بهذه الكلمات يختصر ابن مدينة صيدا الحاج ناصر العقاد مشوار الأربعين عاماً في حب مهنة ظل وفياً لها، كونها منعته عن الحاجة إلى الناس خلال عصور ذهبية عاشتها المهنة. تميزت قواربه ببصمة فنية خاصة تجعل كل من يراها في لبنان يقول بسرعة: "هذه من صنع العقاد".

في حديث لـTRT عربي يقول العقاد: "تُصنَع القوارب من مختلف الأحجام والأطوال، إلا أن الطريقة واحدة. تبدأ بالأساس من أشجار الكينا والسرو التي نعمل على تشريحها ونشرها لتصبح ألواحاً خشبية، ثم نقوم بصنع الأضلع وألواح الدف، وندخل إليها خيطان قطن لتمنع دخول الماء. بعدها نعمل على تركيب المحرك وكل التجهيزات لتكون آمنة للإبحار، إلى أن نقوم بدهنها قبل وضعها في البحر".

ويضيف: "كل مركب له وقته في الصنع الذي يعتمد على حجم القارب، مثلاً المركب الصغير يحتاج إلى شهر حتى ينتهي، أما القارب المؤلف من عشرة أمتار أو أكثر فيحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أشهر تقريباً".

تاريخ عريق تجسده قوارب الصيد اللبنانية يعود إلى أكثر من 4 آلاف عام (TRT Arabi)

يعتبر العقاد أن "قوارب الصيد في مدينة صيدا تتمتع بجمالية خاصة عن بقية المدن اللبنانية، ومدن العالم ككل، فهي تتميز في الشكل والتفصيل وطريقة الصناعة والأفكار التي تُترجَم في كل قارب. بعض التصاميم تكون طويلة وبعضها عريضة، والبعض يكون قاعها داخل الماء بشكل أعمق".

بصمة فينيقية خاصة

تاريخ عريق تجسده قوارب الصيد اللبنانية يعود إلى أكثر من 4 آلاف عام، حين انطلقت من مختلف مدن الساحل اللبناني كطرابس وجبيل وصيدا وصور، حاملة بصمة جمالية فينيقية خاصة. خطت حكايا كثيرة لأوائل الفينيقيين الذين تحدوا الموج بمراكبهم حاملين معهم الفنون والعلوم والصناعة نحو العالم.

ومع تطور قطاع الصناعة في لبنان واعتماد الإنسان على المكننة بشكل كبير، باتت مهنة صناعة قوارب الصيد مهددة بالزوال. الأمر الذي جعل بعض العائلات اللبنانية، لا سيما الصيداوية منها، تتمسك أكثر بمزاولة هذه المهنة حفاظاً على أصالتها وتاريخها العريق من الاندثار.

إذ يعتبر أصحاب هذه المهنة أنها لا تزال مطلوبة وضرورية، كونها من أعمدة التراث اللبناني بعامة، ومدينة صيدا بخاصة، التي تتمتع بموقع استراتيجي على البحر. فموقعها الجغرافي يعزز مكانتها اقتصادياً لناحية صيد أشهى أنواع السمك في لبنان، كما أن الموقع ذاته يقصده آلاف السياح سنوياً في فصل الصيف لزيارة منطقة "الزيرة" البحرية التي تشتهر بها المدينة، ويقصدها الزوار عبر القوارب البحرية. فضلاً عن أهميتها التجارية التي تعزز عملية الاستيراد والتصدير لقربها من البحر.

ومع تطور الصناعة اللبنانية اختلفت القوارب لناحية الأحجام والأطوال، بعضها يسير بواسطة الشراع، والبعض الآخر قارب يسير بواسطة المجداف. إلا أن المعتمد حالياً هو القارب الذي يسير بواسطة المحرّك الآلي، نظراً لسهولة استخدامه في أقل وقت ممكن.

باتت مهنة صناعة قوارب الصيد مهددة بالزوال (TRT Arabi)

إلا أن العمر الافتراضي لكل قارب يعتمد على فن إتقانه وصناعته بحرفية وجودة المواد الأولية المستخدمة، فقد يتراوح عمر القارب بين 5 و65 عاماً من الاستخدام، بشرط صيانته بشكل دوري كل ستة أشهر.

الأزمة الاقتصادية تهدد مستقبل المهنة

قديماً كانت هذه الصناعة تدر عوائد مادية جيدة على أصحابها تجعلهم يتمتعون باكتفاء ذاتي، لكن الحال تبدل منذ مطلع ما يُعرَف بـ "ثورة تشرين" التي عمت مختلف المناطق اللبنانية، وقلبت الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية رأساً على عقب في البلاد.

باتت "المهنة لا تجلب همها" كما يُقال بالعامية، فالمواد الأولية التي ينشأ منها كل قارب أصبحت خاضعة لسعر صرف الدولار الأمريكي في السوق السوداء، الذي يسجل أرقاماً غير مسبوقة بين الحين والآخر، أمام فقدان الليرة اللبنانية أكثر من 82% من قيمتها الشرائية.

يؤكد العقاد أنه منذ تدهور الأوضاع الاقتصادية في لبنان بات يعمل بشكل يومي، وبصعوبة يؤمن ثمن البضاعة ومصروفاً يومياً ضئيلاً.

يعتبر أصحاب هذه المهنة أنها لا تزال مطلوبة وضرورية، كونها من أعمدة التراث اللبناني بعامة، ومدينة صيدا بخاصة (TRT Arabi)

ويشير إلى أنه قبل احتجاجات 2019 كان يشتري ألواح الخشب بـ500 دولار أي 750 ألف ليرة لبنانية، اليوم باتت 500$ تساوي نحو 6 ملايين ليرة لبنانية.

ويتابع: "أحاول أن أخفض الأسعار لكن بطريقة تجعلني أؤمن ثمن بضاعتي. لا أستطيع رفع السعر لأني سأفقد زبائني".

ويشير إلى أنه كان يتلقى ثمن صناعة المتر الواحد ألف دولار أمريكي، أي ما يساوي مليوناً ونصف مليون ليرة لبنانية على سعر صرف 1515 ليرة ما قبل أكتوبر/تشرين الأول 2019، أي كان القارب يجني له أرباحاً بقيمة 15 مليون ليرة لبنانية. اليوم 10 آلاف دولار ثمن القارب تساوي 130 مليون ليرة لبنانية، و"بهذه الحالة مستحيل أن يدفع لي أحد من الزبائن هذا المبلغ، لذا أصبحت أحسب سعر القارب بالعملة اللبنانية وآخذ مليوناً أو مليوني ليرة ربحاً لي لأحصل على مصروفي المعيشي، وهو مبلغ يعادل حالياً 150 دولاراً أمريكياً".

الحاج ناصر هو واحد من قلائل صمدوا بوجه التحديات التي تحيط بمهنتهم، في وقت هجر الكثير من صانعيها قواربهم، وأبحروا إلى مهن أخرى تدر عليهم أموالاً ولو ضئيلة يعيشون منها وعائلاتهم. هكذا حرفة قاب قوسين أو أدنى من الزوال، وهي تتطلب تدخلاً حكومياً يعيد إنعاشها إلى الحياة.

TRT عربي