تابعنا
طريقٌ مليئةٌ بالأشواك تلك التي قطعتها الشابة السّورية نور حذيفة للعبور نحو تركيا. هي نفسُها لا تصدّق أنها استطاعت النّجاة، وبدء حياتها من جديد. قصّتها مؤلمة ومُدهشة في آن، مثل قصص آلاف من السوريين الذين فرّوا من بلدهم بحثاً عن مرفأ أمان.

ملامحُها شرقية حادّة، ترتدي حجاباً بألوانٍ بهيجة، مُفعمةٌ بالنشاط والقوة وحبّ الحياة، لكنّ أول ما يلفتك فيها هو عيناها المترعتان بالألم والأمل في آنٍ واحد، هذان المتناقضان اللذان يجتمعانِ عند نور حذيفة، مثل كلّ لاجئ سوري فرّ من بلده بحثاً عن الأمان.

هذه الشابّة التي انتقلت، في نهاية عام 2012، من بانياس بمحافظة طرطوس السّورية نحو تركيا، قاطعةً طريقاً مليئةً بالأشواك حتى تتمكّن من بدء حياتها من جديد: السّجن، الملاحقة، الهرب، المخيمات، ثمّ مقاومة الصّعاب لإنقاذ ما تبقى من أحلامها.

وبقدر ما تدفعُها غريزة البقاء إلى عشق الحياة والتمسُّك بها، يُداهمها الحنين أحياناً إلى بلدها، ويحاصرها الألم من كل تلك الذكريات البشعة التي عاشتها هناك.

سوريا.. رائحةُ الدّم والموت

على الرّغم من أن سنّها لم تتجاوز 24 ربيعاً، فإنّ تجربة نور في الحياة كانت حافلةً بالأحداث والمآسي التي مرّت منها مع عائلتها في سوريا. أحداثٌ كانت أكبر ممّا يمكن أن تتحمّله شابّةٌ في سنّها. هي واحدةٌ من سوريات وسوريين كُثر ممّن عاشوا الاعتقال والتمزُّق والخوف من الملاحقة، فاضطُرُّوا إلى الفرار من بلدهم لاجئين إلى تركيا.

كانت نور لا تزال تلميذةً في الثانوية حين شاركت في الانتفاضة ضدّ نظام الحكم في سوريا، مما أدّى بها إلى التعرّض للاعتقال شهراً كاملاً وسنّها لا تتجاوز 17 عاماً.

"تعرّضتُ لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وكنت أسمعُ أصوات أخوَيّ وهما يتعرّضان للضرب بالسّوط، وأتمزّقُ من الداخل"، تحكي نور لـTRT عربي قصّتها بصوتٍ يقطعه البكاء.

تسترجع نور بألمٍ كبير أجواء الاعتقال الذي تعرّضت له في خريف 2012. تُضيف بنفس النّبرة الحزينة: "احتجزوني في إحدى الغرف لمدّة ساعتين، وكان هناك قطط وفئران وحشرات وطعام متعفّن على الأرض، بعدها نُقِلت إلى مهجع المعتقلات حيث سمعتُ قصصاً مروّعة. وفي الطابق الأرضي، رأيتُ جثث معتقلين سابقين".

هذا المشهد عاشه كثير من اللاجئين السوريين، منهم من استطاع الإفلات من الموت بأعجوبة، هارباً نحو بلدان أخرى، ومنهم من قضى نحبه داخل السجون بعد مدة من اعتقاله، كما حصل مع رشاد وبشير، أخوَي نور، اللذين ماتا بعد سنة من سجنهما، بسبب التعذيب والمرض والإهمال، وكانت سنّهما على التوالي 20 و22 عاماً.

الأوضاعُ التي عاشها السوريون مع بداية الثورة السلمية وحتى اندلاع الحرب، أسفرت عن معاناة بالغة بالنسبة إلى كثير من الشابات والشبان من مختلف الأعمار، نفسيّاً وجسديّاً. فبالإضافة إلى الاعتقال والتعذيب، أدّى الصراع الذي عاشه البلد إلى تردّي الأوضاع الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، فشُرّد أكثر من 50 في المئة من السوريين، وأصبح أكثر من 69 في المئة يعيشون في الفقر المدقع، و53 في المئة يعانون البطالة. وبين عامَي 2011 و2016، ترك 45 في المئة من الأطفال السوريين المدرسة، حسب تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة سنة 2016.

ولم يَسلَم الأطفالُ من تبِعات هذه الحرب. تقريرُ الأمم المتحدة الصادر عام 2016 يؤكد أنّ عديدين منهم عاشوا مآسيَ ومعاناةً كبيرة، إذ منهم من تَعرّض للاغتصاب، ومنهم من قُتل أو جُرح بطلقاتٍ نارية أو صواريخ أو قذائف أو تساقط الحطام عليه. كان لذلك تأثيرٌ عميق على هؤلاء الأطفال، سواء من ناحية قدرتهم على النوم أو الكلام أو مهاراتهم الاجتماعية.

لا تزال صورُ المظاهرات والمسيرات عالقةً بذاكرة نور. تقول لـTRT عربي: " أتذكّر خروج المتظاهرين إلى السّاحات حاملين الورود، وكيف كانوا يقابلوننا بالرّصاص، حتى عندما جئتُ إلى هنا، لم أنجح، منذ البداية، في مسح مشاهد الحرب والدّماء التي كانت تملأ السّاحات من ذاكرتي".

خساراتٌ وتمزّق

لم يكن جميع السوريين محظوظين مثل نور حذيفة التي استطاعت الفرار من الحرب. فطريقُ الهرب كانت محفوفةً بالمخاطر من كلّ جانب، سواء للذين اتجهوا إلى الدول المجاورة، مثل الأردن والعراق ولبنان وتركيا، أو حتى للذين لجؤوا إلى بلدان أوروبية كألمانيا والسويد والنمسا...

بالنسبة إلى نور، لم يكن الهرب نحو تركيا أمراً سلساً، فبعد خروجها من السجن، بدأت ملاحقتها من جديد، ولهذا السبب حُرمت من اجتياز مرحلةٍ مهمة جداً في حياتها كشابة، تتمثل في اجتياز امتحانات الثانوية العامة.

"من أجل إنقاذ أنفسنا، اضطررنا إلى دفع كثير من المال رشوة لمجنّدي النظام، للتستر على موضوع هروبي، وهذا كان في حدّ ذاته مخاطرة كبيرة"، تؤكّد نور وهي تستعيدُ ذكريات الفرار من سوريا.

وتسترسل في الحديث "أحسستُ أنني خسرتُ كثيراً من الأشياء، بما فيها متابعتي للدراسة في مجال الإعلام، والحلم الذي لازمني دائماً في أن أصبح مذيعةً يوماً ما. هذا بالإضافة إلى الشوق إلى الأهل والأحباب والأصدقاء، والحزن الذي رافقنا دائماً بسبب وفاة أخويّ".

ثمنُ اللجوء كان غالياً جدّاً. اضطرّ كثيرون إلى ترك دراستهم وعملهم، وآخرون إلى التخلّي عن أحلامهم ومشاريعهم. أعدادٌ كبيرة منهم عاشت تمزّقاً كبيراً بين البلد الأمّ والبلد الذي لجؤوا إليه، إذ تركوا أفراداً من عائلتهم في سوريا وغادروا هرباً من وحشية الحرب أو خوفاً من الموت والاعتقال والتعذيب.

أكبرُ عددٍ من السوريات والسوريين الهاربين من بلدهم لجؤوا إلى تركيا، هذا البلد الذي يستضيف ما نسبته 63.4 في المئة من اللاجئين السوريين، حسب إحصاءات الأمم المتحدة سنة 2017، وهو ما يُعادل أكثر من ثلاثة ونصف مليون لاجئ.

وحسب التقرير نفسه، فإنّ أكبر تجمّع للاجئين السوريين يوجدُ في محافظة إسطنبول، وهم يمثلون 3.6 في المئة من إجمالي سكان المحافظة، بينما يتوزع الباقي بين بورصة وهاطاي وإزمير وقونية وماردين ومرسين وقهرمان مرعش.

المصدرُ نفسه يؤكّد أنّ اللاجئين السوريين يتوزعون على مختلف بلدان الشرق الأوسط، إذ يوجد نحو مليون لاجئ في لبنان، وأكثر من 600 ألف لاجئ في الأردن، ونحو 200 ألف لاجئ في العراق، وأكثر من 100 ألف في مصر. وما بين سنتَي 2011 و2016، سُجّل أكثر من 980 ألف طلب لجوء إلى أوروبا.

نجحت نور وعائلتُها في الهرب إلى تركيا، لكنّ سوريين كثيرين لم يكن لهم مناصٌ آخر غير المغامرة بحياتهم في رحلات خطيرة نحو أوروبا. ومنذ بداية عام 2017 فُقد كثير من اللاجئين، ووُجد آخرون ميتين على الطريق، وبلغ عددهم 2811 شخصاً، حسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين.

طريق الهرب الشاقة

كانت الطريقُ إلى تركيا شاقةً جدّاً، قطعتها نور مع والدتها وأخيها الأصغر بمشقّة النّفس. داهمها الخوفُ والتردّد من كلّ جانب وهي تغادرُ البيت حاملةً حقيبتها في اتجاه معبر كَسَب. كان قلبُها ينبض بقوة وهي راكبةٌ في سيارة مجنَّد من النظام السوري ساعدهم على المرور مقابل المال. القرارُ كان صعباً، لكن كان لا بدّ من المجازفة.

"كنّا بحاجةٍ إلى ختم حتى نستطيع العبور إلى تركيا، اضطُررنا إلى دفع مزيدٍ من المال من أجل الحصول على ختمٍ مزوَّر، وفي كلّ مرّة كانوا يطلبون هويتي، أشعرُ أنّ قلبي سيخرج من مكانه. كانوا يتطلّعون إليّ بطريقةٍ غريبة كأنّ أعينهم تخبرني أنهم تَعرَّفوا عليّ"، تروي نور لـTRT عربي بنبرةٍ يملؤها الأسى.

الشيء الوحيد الذي كانت تأمله هو الوصول إلى تركيا سالمةً مع عائلتها، لذلك كانت، طيلة الطريق، تدعو الله في نفسها أن لا يتعرّفوا عليها ويعرفوا أنها ملاحَقةٌ من طرف النظام. مرّت ساعاتُ السّفر ثقيلةً، وكلّ ما كانت ترجوه هو ألّا يجثُم عليها اليأس، وأن تحصُل معجزةٌ ما تتيح لها المرور من المعبر دون مشكلات.

تواصلُ نور حديثها "وصلنا أخيراً إلى تركيا، كان الثلجُ يسقط بغزارة حين توجهنا نحو المخيمات، وقضينا هناك شهرين كاملين. كان الجوّ جديداً علينا، وشعرنا بالبرد وتحمّلنا روائح سيئة... هذا بالإضافة إلى الصّدمة العميقة التي كانت تملأ قلوبنا من جرّاء كلّ ما عشناه".

وعلى الرّغم من أنها استطاعت العبور نحو الأمان، فإنّ نور ظلّت سنواتٍ تُعاني من ذكرياتِ الاعتقال والموت والدّم. "ما زلتُ أحياناً أرى نفس الكابوس، حيث أسمعُ طرقاتٍ قويةً في الباب، ثمّ أرى أشخاصاً يقتادونني إلى زنزانةٍ مظلمة حيث يتعرّض أخواي لتعذيبٍ وحشي".

رجوعٌ إلى الحياة

بعد كلّ المعاناة التي مرّت بها، لم تستسلم نور للذكريات الأليمة التي مرّت منها. استجمعت قوتها وشجاعتها وقرّرت القيام بأوّل خطوةٍ من أجل الحياة. لم تكن تريد أن تدمّرها الحرب كما فعلت ببلدها، فكان عليها إذاً أن تهزم ألم الماضي وتطرُق الأبواب بحثاً عن المستقبل.

"حين قُبلت في منحة الدراسة بتركيا، أحسستُ أنني أُولَدُ من جديد، وعندما قُبلت في تخصّص الإعلام بالجامعة، وجدتُني أشقّ طريقي نحو المستقبل"، تقول نور وهي تتنفّس الصعداء.

استطاعت نور أن تكون شُجاعة، وأثبتت بسرعة قدرتها على الاندماج في المجتمع التركي، "وذلك نظراً إلى المشترك الثقافي والديني، بالإضافة إلى يد المساعدة التي قُدّمت لنا هنا"، تؤكّد الشابّة السورية.

وإذا كانت نور تحلُم بأن تصبح يوماً جزءاً من الإعلام الهادف الذي يسعى إلى تغيير المجتمعات نحو الأفضل، وتشقّ طريقها بثقةٍ تامّة حتى تبلُغَ ما كانت تصبو إليه قبل الحرب، فإنّ الحُلم الأكبر الذي يسكنُها، مثل معظم اللاجئين السوريين، هو العودةُ إلى الوطن.

تقول وهي تبتسم بقوة وثقة "سنرجع يوماً ما إلى سوريا، سنرجعُ حين تتحول إلى بلدٍ يليق بأحلامنا وتطلعاتنا، حين تصبح بلد الحرّيات والعدالة والنظام وحقوق الإنسان".

استطاعت نور حذيفة أن تعثر على الأمان في تركيا، وتحقق أحلامها. (TRT Arabi)
نور حذيفة، اللاجئة السورية التي واجهت الخوف والموت، أملاً في الحياة. (TRT Arabi)
أطفال سوريون يسيرون وسط الدمار، منطقة "الباب"، سوريا، 2018.  (AP)
أطفال سوريون في مخيمات اللجوء بلبنان. (AP)
TRT عربي
الأكثر تداولاً