تابعنا
تدبيرُ مؤامرة للمسّ بالسلامة الداخلية للدولة، التخابر مع جهات خارجية ضد استقرار البلد، خدمة أجندة خارجية لإثارة الفتنة، زعزعة الأمن، العمالة للخارج... تختلف الصّيغ، لكنّ المعنى واحد: تُهمٌ جاهزة مسبقاً، الغرضُ منها ردعُ الاحتجاجات والأصوات المزعجة.

إذا كنتَ مواطناً في إحدى البلدان العربية، ثمّ حدث وفكّرتَ في الاحتجاج، بأي شكلٍ من الأشكال، على الأنظمة السائدة للمطالبة بحقوقك، أو لإسقاط الفساد، أو حتى لتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فينبغي أن تكون مستعدّاً لبعض التهم التي ستكون في انتظارك.

تدبيرُ مؤامرة للمسّ بالسلامة الداخلية للدولة، التخابر مع جهات خارجية ضدّ استقرار البلد، خدمة أجندة خارجية لضرب الاستقرار وإثارة الفتنة، زعزعة الأمن بالبلاد، العمالة للخارج... تختلف الصّيغ، لكنّ المعنى واحد: تُهمٌ جاهزة مسبقاً، الغرضُ منها ردعُ الاحتجاجات والأصوات المزعجة.

هي اتهاماتٌ مختلفة تكرّرت كثيراً في محاكماتٍ متعدّدة لناشطين وسياسيين وكُتّاب رأي في مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فسواء خرجوا للتظاهر من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، أو كتبوا منتقدين النظام أو مطالبين بالتغيير، كانوا معرّضين لهذه التهم.

حين تمسّ الحقوق بالأمن الداخلي!

بصفةٍ عامّة، يُقصدُ بالمساس بالأمن الدّاخلي لبلدٍ ما، تلقّي أموال أو هبات من جهاتٍ أجنبية من أجل تمويل نشاطٍ من شأنه أن يزعزع استقرار هذا البلد وسيادته، أو يمسّ بمؤسساته.

يحمِل العديدُ من الناشطين في العالم العربي اليوم هذه التّهمة، منهم من حُوكِم بالسجن لسنواتٍ طويلة، وآخرون ما يزالون رهن الاعتقال في انتظار البثّ في قضاياهم.

في حالةِ المغرب، كانت هذه التّهمة من نصيب الكثير من النّشطاء في احتجاجات سنة 2016 شمال البلاد، والتي عُرفت بـ "حراك الريف".

وبالرّغم من أنّ هذه الاحتجاجات كانت عبارةً عن حراكٍ سلمي، بملفّ مطلبي واضح يروم تحسين الأوضاع الاجتماعية بمنطقة الرّيف. إلّا أنّ ممثلي أحزاب الحكومة المغربية خرجوا، في وسائل الإعلام، ليصفوا ناشطيه بكونهم مجموعاتٍ انفصالية مُسَخّرة ومموَّلة من الخارج، تُروّجُ لأفكار هدّامة، وتسعى إلى خلق الفتنة والمسّ بثوابت ومقدّسات الوطن.

في يوليو/تموز من العام 2017، خرج رئيس الحكومة المغربي سعد الدين العثماني، ليعترف في حوارٍ تلفزيوني أنّ اتّهام حراك الريف بالانفصال، وبأنه يخدم مصالحَ خارجية، كان خطأً.

ومع ذلك، وقبل أيامٍ فقط، تمّ تأييد الأحكام الصّادرة في حقّ معتقلي الحراك، أربعةٌ منهم (ناصر الزفزافي، نبيل أحمجيق، وسيم البوستاتي وسمير إيغيد)، حُكم عليهم ب20 سنة سجناً نافذة، بتُهمة المساس بالسلامة الداخلية للمملكة.

من المطالب التي رفعها ناشطو حراك الرّيف توفير فُرص شغل لساكنة المنطقة، بناء جامعة متكاملة التخصّصات بالمنطقة، وتقديم المتورّطين في وفاة الشاب محسن فكري الذي مات مطحوناً في شاحنة أزبال... صرخوا عالياً مطالبين برفع التهميش عن منطقتهم، رافعين لافتاتٍ صريحة كُتبَ عليها: "لسنا انفصاليين"، لكنّ ذلك تحوّل، على نحوٍ غريب، إلى زرعٍ للفتنة!

"احذروا من الجهات الخارجية"!

انتشرت الاحتجاجات في الجزائر انطلاقاً من مواقع التواصل الاجتماعي، ثمّ تحوّلت إلى الشارع في مظاهراتٍ سلمية. كان الهدفُ من هذه الاحتجاجات واضحاً: ألّا يترشّح عبد العزيز بوتفليقة لولايةٍ خامسة.

ومع ذلك، تردّدت نفس الأسطوانة حينما خرج رئيس أركان الجيش الجزائري، أحمد قايد صالح، بعد أوّل خطاب للرئيس الانتقالي عبد القادر بن صالح، ليحذّر من "بعض الأطراف الأجنبية التي تحاول دفع بعض الأشخاص إلى واجهة المشهد الحالي وفرضهم كممثلين عن الشعب".

وزادَ رئيس أركان الجيش أنّ "هذه الأطراف ترمي إلى ضرب استقرار البلاد وزرع الفتنة، من خلال رفع شعاراتٍ تعجيزية تريد الدفع بالبلد إلى الفراغ الدستوري، وهدم مؤسسات الدولة".

تغريدات تزعزع الاستقرار

الإضرارُ بالوحدة الوطنية وبالسلم الاجتماعي ليست تُهمةً خاصّةً بالاحتجاجات فقط. ففي الكثير من البُلدان العربية، راح ضحية مثل هذه التهمة ناشطون كُثر عبّروا عن آرائهم بأقلامهم، أو على مواقع التواصل الاجتماعي. واحدٌ من هؤلاء الناشطُ الحقوقي الإماراتي أحمد منصور.

سنة 2017، عبّر منصور عن دعمه للناشط الحقوقي أسامة النجار، عندما رفضت السلطات الإماراتية الإفراج عنه، بعدما قضى عقوبته السّجنية.

وفي نهاية عام 2018، أيّدت محكمة استئناف إماراتية حكماً بالسّجن عشر سنوات، وغرامة مالية قدرُها 270 ألف دولار، على أحمد منصور. التّهم كثيرة: الإضرار بالوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي، خدمة أجندة تنشُر الكراهية والطائفية، والعمل على زعزعة الاستقرار عبر الترويج للمعلومات الكاذبة والمضلّلة.

في سبتمبر /أيلول2017، تمّ اعتقال الداعية السعودي سلمان العودة، بسبب تغريدةٍ دعا الله فيها أن "يؤلّف القلوب"، بعد نبأ اتصالٍ هاتفي بين أمير قطر الشيخ تميم، وولي العهد السّعودي الأمير محمد بن سلمان.

ويُتابَع العودة اليوم بتهمٍ كثيرة، أبرزُها: الإفسادُ في الأرض، السّعي المتكرّر لزعزعة بناء الوطن، إحياء الفتنة العمياء، وخدمة أجندة خارجية ضدّ الوطن وحكّامه.

وطبعاً، تظلّ حالتا المغرب والجزائر، وقضيتا الناشطين منصور والعودة مجرّد نماذج لحالاتٍ كثيرة ووجِهت بنفس التهم في معظم بلدان العالم العربي.

الخوف من اندلاع الثورات

في كتابه "الثورة والقابلية للثورة"، يُعرّف المفكّر الفلسطيني عزمي بشارة الثورة بكونها "تلك اللحظة التاريخية التي تتحدّى فيها إرادةُ الشعب الحرّة نظام الهيمنة والسّلطة، وأدوات السيطرة والتسلّط. تلك اللحظةُ التي لا يبقى فيها الشعب مجازاً على ألسنة المثقفين، ولا رمزاً في أذهان نُقّاد الأنظمة، بل يُصبح واقعاً فعلياً، له لونٌ وطعمٌ ورائحةٌ وعرقٌ ودم".

فهل التّهم الجاهزة التي تشتركُ فيها الأنظمةُ العربية هي وسيلةٌ لاحتواء الاحتجاجات حتى لا تتحوّل إلى ثورات؟

كخطوةٍ أولى لاحتواء الثورات، لجأت الدول العربية، أثناء ما سُمّي بالربيع العربي، إلى استخدام وسائل أمنية، من قصفٍ لمدنٍ بكاملها كما حصل في سوريا وليبيا، وفضّ للمظاهرات بالقوة كما حصل في المغرب وتونس ومصر، إلى اعتقالاتٍ سياسية في أغلبِ هذه الدول. ولم يكُن من طريقةٍ لتبرير هذه الاعتقالات سوى "تلفيق" تُهمٍ جاهزة للمعارضين والمحتجّين، من أجل الزّج بهم في السجون.

التّهم لم تكن شيئاً آخر غير: زعزعة الاستقرار، خدمة جهات خارجية، وإشعال فتيل الفتنة!

المحاكمة العادلة؟

عندما تكون هذه التّهم الجاهزة في أيدي القضاء، يُصبح من الصّعب الطّعنُ فيها. باعتبار القضاء سلطةً عليا في البلاد. لكنّها تطرحُ سؤالاً مهمّا حول معايير المحاكمة العادلة، وكيف يتمّ استعمال القضاء للحكم على أشخاص تستهدفهم السلطة بسبب نشاطهم الجمعوي أو السياسي.

في هذا السياق، تؤكد خديجة الرياضي، ناشطة حقوقية والرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في حديثها لTRT عربي، أنّ "الدولة تُحاول بهذا النوع من المحاكمات إضفاء المشروعية على اعتداءاتها على النشطاء".

الدّول العربية تريدُ الظهور بمظهر دول المؤسسات فتستعمل القضاء لإظهار أنّ المعتقلين فعلاً مذنبين وأنهم قاموا بأفعالٍ يعاقب عليها القانون.

خديجة الرياضي، حقوقية مغربية

وتوضّح الرياضي "في الكثير من الدول، وفي المغرب أيضاً في فتراتٍ سابقة، كان يتمّ اغتيالُ النشطاء والمعارضين، أو يتمّ اختطافهم واحتجازهم دون أي محاكمات. لكنّ هذه الدّول اليوم تريدُ الظهور بمظهر دول المؤسسات، فتستعمل القضاء لإظهار أنّ المعتقلين فعلاً مذنبين، وأنهم قاموا بأفعالٍ يعاقب عليها القانون".

وتضيف "الهدف من ذلك هو نزع صفة معتقل رأي أو معتقل سياسي عنهم، مما سيحرمهم من الحصول على التضامن من طرف المنظّمات الدولية التي تضغط على الدولة من أجل إطلاق سراحهم".

اغتيال بلا دم

تُعتبر تُهمٌ مثل زعزعة الاستقرار، وخدمة أجندة خارجية، والمسّ بوحدة البلاد وغيرها، تُهماً غير مُحدّدة الملامح والمعايير. وبالنّظر إلى أحكامٍ قاسية صدرت في حق كثيرٍ من الناشطين في مختلف الدول العربية، سواء كانوا ناشطين في ميادين المظاهرات والاحتجاجات أو على مواقع التواصل الاجتماعي، بناءً على نفس التّهم، تُصبح هذه الأخيرة بمثابة وسيلة لإسكات الأصوات المزعجة للسلطة.

لماذا تلجأ الأنظمة العربية إلى هذه التّهم لإسكات كلّ من "سوّلت له نفسه" الاحتجاج؟

يجيبُ أيمن نور، متخصّص مصري في الشأن السياسي، في حديثه لTRT عربي "الأنظمة الاستبدادية في العالم كلّه، وليس في البلدان العربية فقط، تلجأ إلى مثل هذه القوانين العائمة والفضفاضة كسلاح لتشويه معارضيها، مستغلّة احتكارها لوسائل الإعلام، فتسوّق لاتهاماتٍ غريبة ومضحكة في بعض الأحيان".

الأنظمة الاستبدادية في العالم كلّه وليس في البلدان العربية فقط تلجأ إلى مثل هذه القوانين العائمة والفضفاضة كسلاح لتشويه معارضيها.

أيمن نور، متخصص مصري في الشأن السياسي

ويشرح نور "في الحالة المصرية مثلاً، وخلال انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، سمعنا تُهمةً لم نقرأ عنها يوماً في أي قانون، وهي تُهمة إشاعة المناخ التشاؤمي. ولا أعرف ما هو هذا المُناخ التشاؤمي ولا معاييره ولا العقوبات المترتبة عنه!"

تدخل هذه التّهم، حسب المتحدّث نفسه، في خانة "الوسائل المشروعة وغير المشروعة التي تستخدمها الأنظمة الضعيفة والمتكسّرة لتشويه معارضيها، واغتيالهم بلا دم، أي اغتيال سُمعتهم وكرامتهم".

من جهتها، ترى خديجة الرياضي أنّ "السلطة عندما تلفق تهما خطيرة لنشطاء معروفين، عادةً ما تواكب ذلك بحملةٍ إعلامية قوية، الهدفُ منها ضرب مصداقية المعتقل، وتشويه سمعته، وإدخال الشكوك لدى الرأي العام في براءته".

أمريكا.. التهمةُ "شيوعي"

لا تقتصر الاتهامات الجاهزة على الأنظمة الاستبدادية، بل حتى الأنظمة التي تُعتبر ديمقراطية اليوم، عاشت تاريخاً طويلاً من اتهام معارضيها. فقد اغتالت أمريكا خصومها السياسيين معنوياً عبر اتهاماتٍ بالجملة، خلال الستينات من القرن الماضي، حين ظهر ما يُسمّى بـ "الماكارثية"، نسبةً إلى عضو الكونغرس الأمريكي آنذاك جوزيف ماكارثي.

وهكذا، خلال الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي، كان هناك هجومٌ شرسٌ على الفكر الشيوعي. وصار النظام الأمريكي يُشهر "تُهمة" شيوعي أمام أي شخصٍ دون الحاجة إلى أدلّة أو إثباتات.

تشكّلت لجنة ماكارثي إذن، للإشراف على توجيه الاتهامات والحسم في مسألة كون هذا الشخص أو ذاك، شيوعياً أم لا. وتحوّل الناس إلى صنفين: صنفٌ مخلصٌ للأفكار الأمريكية، وصنفٌ شيوعي ضدّ رموز الدولة.

الناشط الإماراتي أحمد منصور (AP)
متظاهرون يحملون صورة ناصر الزفزافي، قائد حراك الريف، أثناء مسيرة بالعاصمة المغربية الرباط. (AP)
متظاهرون في شوارع الجزائر ضد ولاية خامسة لعبد العزيز بوتفليقة (AP)
TRT عربي