في أثناء مظاهرة ضد التغير المناخي.. امرأة ترتدي كمامة وعلى جبهتها مكتوب: “لا يوجد كوكب ب”   / صورة: AP (Geert Vanden Wijngaert/AP)
تابعنا

أصبحت التغيرات المناخية واحدة من أهم القضايا التي تشغل الناس والحكومات في كل أنحاء العالم، وتتلاحق الأخبار حول المطالبات والاحتجاجات من أجل اتخاذ إجراءات حقيقية لحماية الأرض من آثارها. وقد شهد العالم مؤخراً انعقاد "قمة المناخ" العالمية في مدينة شرم الشيخ المصرية، لمناقشة آليات مواجهة التغير المناخي، لما يمثله من تهديد كبير على مستقبل البشر والكوكب.

ولكن ما يثير الانتباه عدم وضع آثار التغير المناخي على الصحة النفسية ضمن أجندة النقاش بالرغم من وجود توصيات مؤسسات طبية عديدة تترأسها منظمة الصحة العالمية والتي تؤكدّ الأهمية القصوى لهذا الجانب.

"يشكّل تغير المناخ مخاطر جسيمة على الصحة النفسية ورفاهية الحياة"، هذا ما خَلُص إليه موجز سياسة منظمة الصحة العالمية الجديد الذي خرج في ضوء مؤتمر ستوكهولم +50 شهر حزيران/ يونيو العام الماضي. وقد جاءت هذه النتائج لتتوافق مع تقرير صدر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) في مستهل عام 2022، وكشفت الهيئة أنّ التغيّر المناخي المتسارع يشكّل تهديداً متزايداً على الصحة العقلية والرفاه النفسي والاجتماعي؛ ابتداءً من الضيق العاطفي إلى الإصابة بالاكتئاب والقلق المرضي وانتهاءً بمحاولة الانتحار.

تقول الدكتورة ماريا نيرا، مديرة إدارة البيئة وتغيّر المناخ والصحة في منظمة الصحة العالمية: "يتزايد تحوّل آثار تغيّر المناخ إلى جزء من حياتنا اليوميّة، ولا يوجد سوى القليل جداً من الدعم المخصص للصحة النفسية المتاح للأشخاص والمجتمعات التي تتعامل مع المخاطر المرتبطة بالمناخ والمخاطر طويلة الأجل".

كيف يؤثر التغير المناخي على صحتنا النفسية؟

تتعدّد الأشكال التي يمكن فيها للتغيّر المناخي التأثير على صحتنا النفسية سواءً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على المدى القصير أو البعيد.

فمن ناحية يسبّب التغيّر المناخي العديد من الكوارث البيئيّة كالفيضانات والأعاصير وحرائق الغابات، والتي تسبّب بدورها الكثير من الخسائر البشرية والمادية، ما يرفع معدلات الإصابة بالعديد من الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD).

ومن ناحية أخرى، فإنّ العديد من الآثار المحتملة لتغير المناخ مثل ندرة الغذاء وتلوّث الهواء وزيادة انتشار الأمراض المنقولة، بجانب المشاكل الاقتصادية المتراكمة وفقدان الوظائف والدعم الاجتماعي، تتسبّب بعواقب لا يمكن إهمالها على الصحة النفسية. يشير الباحثون أنّ الأفراد الذين يجبرون على الهجرة بسبب النزاعات أو الكوارث هم أكثر عرضةً للإصابة بالأمراض النفسية مقارنةً بأولئك الذين يهاجرون طواعيةً، ويرجع الباحثون ذلك في أحد زواياه إلى ما يطلقون عليه اسم الإجهاد التثاقفي "Acculturation Stress" والمرتبط بالضغط الذي يتعرّض له الفرد أثناء محاولته التكيّف مع ثقافة المجتمع المضيف الجديدة.

ووفقًا لمفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، فإنّ الهجرة السكانية المرتبطة بتغير المناخ تحدث بالفعل؛ ففي كل عام منذ عام 2008 يضطّر أكثر من 20 مليون شخص في المتوسط إلى الانتقال بسبب الأحداث المتعلقة بالطقس، مثل الفيضانات والعواصف وحرائق الغابات أو درجات الحرارة القصوى، كما ويغادر العديد من الآخرين منازلهم بسبب الأحداث التي تحدث ببطء، مثل الجفاف أو تآكل السواحل.

من جانب آخر، تشير الدراسات إلى وجود رابط بين ارتفاع درجات الحرارة المحيطة وزيادة معدّلات السلوك العدواني والعنف المنزلي، إلى جانب زيادة معدّل استهلاك الكحول للتعامل مع الإجهادات والضغوط النفسية. هذا عدا عن وجود رابط بين ارتفاع درجات الحرارة والإصابة بالأمراض المزمنة مثل أمراض الدورة الدموية، والجهاز التنفسي، والكلى، والسّكري والتي ترتبط جميعها بالمحصلة بزيادة خطر الإصابة بالاضطرابات والأمراض النفسية.

الجفاف وانتحار المزارعين

من المرجح أن يؤدي تغير المناخ العالمي إلى تفاقم موجات الجفاف في السنوات القادمة وقد أشارت إحدى الدراسات التي تمّ إجراؤها في ولاية نيو ساوث ويلز الأسترالية بين عاميّ 1970 و 2007 ونٌشرت نتائجها عام 2012 إلى نموّ قلق متزايد في أستراليا يتعلّق بوجود رابط بين الجفاف وانتشار الانتحار بين سكّان الريف لاسيما بين المزارعين الذكور وأسرهم. فقد وجدت الدراسة زيادةً في الخطر النسبي للانتحار بنسبة 15٪ للذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 30-49 عاماً عندما ارتفع مؤشر الجفاف من الربع الأول إلى الربع الثالث والذي تمّ حساب قيمته بالاعتماد على متوسط معدل الهطول.

كما وجدت الدراسة دليلاً واضحاً يدعم هذه الفرضية بالنظر إلى أنّ العدد الحقيقي لحالات الانتحار المرتبطة بالجفاف لدى الفئة المدروسة على مدار الـ 38 عاماً يمثّل ما يقارب 9٪ من إجمالي الوفيات في تلك المجموعة. وأوضحت الدراسة أنّ هذا الخطر يمتدّ لفئة عمرية أصغر بين 10 و 29 عاماً، ما يدعم الاستنتاج بأنّ هنالك آثار على المجتمع الريفي-الزراعي عامةً. ومن الجدير بالذّكر أنّه لم يتمّ العثور على مثل هذا الخطر فقط في بلدان مثل أستراليا، ولكن أيضاً في بلدان أخرى مثل الهند.

يُرجِع الباحثون خطر الانتحار المرتبط بالجفاف إلى العديد من العوامل المتداخلة، حيث إنّ فشل المحاصيل الناتج عن الجفاف يسبّب صعوبات اقتصادية واضحة لدى المزارعين إلى جانب ارتفاع نفقات المواد الغذائية والسلع الأخرى، ما يسفر على إضعاف قدرتهم على تأمين التغذية الصحية اللازمة. وهذا يفتح الباب إلى زيادة نسبة انتشار سوء التغذية والإصابة بأمراض أخرى، خاصة في

البلدان التي تفتقر للخدمات الاجتماعية والصحية المنظمة بشكل فعّال في المناطق الريفية.

ولا ننسى بالطبع الهجرة الناتجة عن الجفاف والتي لا تختلف آثارها النفسية عن تلك المرتبطة بالكوارث والنزاعات. وبهذا الصدد ونظرًا للاعتماد العالمي المباشر على المزارعين للحصول على الإمدادات الغذائية، فإنّ الرعاية الصحية للمزارعين هي قضية مهمة ويلزم بذل الجهود لتقديم المساعدة وتسهيل وصول الخدمات لهم كافةً وعلى رأسها الصحية.

أطفالنا ليسوا بمعزل عن الخطر أيضاً!

ليس من المستغرب أن يشعر الأطفال بالعديد من المشاعر تجاه تغير المناخ، مثل الشعور بالقلق والخوف والحزن والغضب، وهي ردود فعل طبيعية جداً لشيء مدمر مثل تغير المناخ. وبالنظر إلى أن الآباء والأمهات لا يملكون الحل بين أيديهم فلا بدّ لهم أن يدركوا أنّ أحاديثهم مع أطفالهم يجب أن تكون صادقة ومفعمة بالأمل دون تجاهل لواقع المشكلة وحجمها. ولهذا يُنصَح في البداية أن يسعوا هم بأنفسهم نحو معرفة ما هو مجهول بالنسبة لهم حول التغير المناخي، وأن يستمعوا بشكل جيد لأطفالهم ويفسحوا لهم المجال للتعبير عن مخاوفهم كلّها دون أي مقاطعات لإدراك كمّ المعرفة الذي لدى الطفل حول التغير المناخي، من أجل تفنيد مخاوفه ومعرفته بين الصحيح والخاطئ وذلك باستخدام العلم المبسط والأسلوب الذي يراه الوالدين مناسباً لطفلهم حسب معرفتهم به.

يُنصح الوالدين أيضاً بتحفيز أطفالهم قضاء وقت أكثر في الطبيعة، حتى تتكون لدى الطفل علاقة محببة بها يملؤها البهجة، وإلى جانب ذلك من الضروري التركيز على الحلول التي باستطاعة الطفل المشاركة بها ليتخلص من فكرة أنّه بلا حيلة في مواجه التغير المناخي، مثل إشراكه في الخطوات التي تتخذها العائلة أو المجتمع في سبيل تخفيف آثار التغير المناخي، كتقليل النفايات في المنزل أو توفير المياه أو إعادة التدوير، أو إطفاء الأنوار والأجهزة غير المستخدمة، وغيرها.

من المهم التأكيد في النهاية على أنّه نادراً ما تحدث عواقب تأثيرات التغير المناخي على الصحة النفسية بمعزل عن غيرها؛ ففي الغالب تتفاعل مع ضغوط اجتماعية وبيئية أخرى، ما يجعل فهم الطبيعة التفاعلية والتراكمية لتأثيرات تغير المناخ على الصحة النفسية من العوامل الحاسمة في فهم العواقب الإجمالية لتغير المناخ على الصحة ككلّ.

TRT عربي
الأكثر تداولاً